ابنة العشيرة التي كُنت


2021-08-26    |   

ابنة العشيرة التي كُنت
تصوير حسن الساحلي

هذا النص هو عبارة عن مشاهد استحضرتها من طفولتي تعبّر عمّا قد تعيشه أو تتعرّض له ابنة عشيرة:

المشهد الأوّل: حين رفعت مسدّساً بوجه راعي الماعز

كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما ظهر أحد رعاة الماعز وهو يسوق قطيعه داخل أراضي ابن خالتي قبالة أراضينا في جرد مرجحين. استاء أبي من فعلته وقال لي: “خدي الفرد (المسدس) وانزلي قلّعيه (اطرديه) من أرضنا”. أدخلت المسدس تحت بنطلون الجينز على طرف خصري، ركبت الفرس واتّجهت مسرعةً نحو الرّاعي الصغير، وكان يقاربني في العمر، وأمرته بلهجة الواثقة من سلطتها أن يُخرِج قطيعه من أرضنا، خصوصاً أنّه كان من عائلة طالما استضعفتها العشائر. جاوبني، وكان محقّاً، أنّ هذه ليست أرضنا إنّما أرض “فلان الفلاني”. على الفور، ووفقاً لتعليمات أبي، سحبت المسدس وهدّدته بإطلاق النار عليه، فأذعن وذهب بقطيعه بعيداً. خلال عودتي إلى البيت كنت مزهوّة بنفسي، ها أنا نفّذت المهمّة التي أوكلها لي أبي، وهي مهمّة عادة ما تقع على عاتق الشبّان. شعرت أني كنت بحق كما يجب لابنة العشيرة أن تكون. في صيف 2020، اندلعت نيران الحرائق في جرد الهرمل فقصدت المزارعين هناك للاطّلاع على خسائرهم. ما أن رآني أحد هؤلاء حتى بادرني ممازحاً “جايبة معك الفرد؟”. كان هو الراعي الصغير الذي شهرت المسدس في وجهه. لم أعرفه لكنّه عرفني فوراً، ربما لأنّه غير قادر على نسيان فعلتي.

لا زلت لغاية اليوم أشعر بأسى ممزوج بالخوف كلّما تذكّرت هذه الحادثة: ماذا لو تشبّث الراعي بموقفه ورفض الخروج من أرض ابن خالتي، هل كنت سأطلق عليه النار؟ وماذا لو فعلت؟ هل كنت سأكون اليوم قاتلة سابقة؟ من منح أبي الحق في أن يرسلني في مهمّة مماثلة؟ كيف له أن يفعل ذلك وأنا طفلة لم أكن أفقه معنى المطلوب منّي، وتأثيره على مجمل حياتي من بعدها؟

المشهد الثاني: إكرام الضيف

كنت مع أبي وحدنا في بيتنا الجردي حيث لا دكاكين ولا أسواق، فيما يبعد أقرب بيت إلينا، وهو بيت عمّي نحو كيلومترين اثنين. جاء رجل من عشيرة ناصرالدين لزيارتنا وكنت وحدي في المنزل بعدما غادر أبي إلى منطقة مغرّب، على حدود مشمش العكارية، ولن يعود منها قبل العصر. كعادتنا في التعامل مع الضيوف رحّبت به وأدخلته إلى “صدر” الدار، وهي غرفة الضيافة، وقلت له سيعود أبي بعد قليل، وللحقيقة كنت أكذب. إذ كانت الساعة تقارب 11 صباحاً وكان يلزم أبي نحو 5 إلى 6 ساعات للرجوع. وفوراً ناديت على الراعي، ابن شركائنا في الموسم الزراعي الصيفي، وطلبت منه سرّاً أن يذبح لي خروفا إكراماً للضيف. وعندما أتمّ مهمّته قلت لضيفنا “هذه ذبيحتك، أرجو أن تسلخها، أي يسلخ جلدها عن لحمها ويُخرج أحشاءها، لأتمكّن من إعداد الطعام له. عندما عاد أبي، كان زائرنا قد تناول طعامه وما زال معظم الذبيحة معلّقاً تحت شجرة اللزّاب التي تورّف فوق مصطبة بيتنا. أذكر أنّ عينا أبي، لمعتا فرحاً بما قمت به، وخصوصاً بعدما قال له صديقه “عندك بنت بميّة صبي”. يومها فرحت لأنّي نجحت في أن أكون “ابنة العشيرة” كما يُتوقع منها أن تكون.

المشهد الثالث: هاجس الثأر ومتطلّباته

بعد الثانية عشرة من العمر كان معظم رجال العشائر يدرّبون بناتهم على الرماية. كان أبي يضع لنا ملقط الغسيل على بعد 20 متراً ويعطي جائزة لمن تتمكن من بيننا من قطعه إلى فلقتين. بعد الملقط يأتي دور السيجارة، علينا أن نقصّها نصفين. كيف لا، ونحن كنساء عشيرة معرضات لمواقف قد نضطر فيها لاستعمال السلاح، هكذا كانوا يعدّوننا لمواقف مماثلة، أو ربما هي رغبتهم الدفينة في أن نكون كالرجال، ألا تحتسب العشائر بالبنادق؟ كأن يقولون “عشيرة علوه بتعدّ 3000 بارودة” على سبيل المثال، يعني 3000 رجل.

فعلاً كنّا نضطرّ لاستعمال السلاح. في صغري كان هناك ثأر بيننا وبين آل علّوش من منطقة سير الضنية بسبب قتلهم عمّي ممّا استتبع الأخذ بثأره. ولأنّ الثأر يجر ثأراً، وكون منزلنا في جرد مرجحين يقع على حدود الضنّية، كنّا نتوقع “غزوة” للأخذ بالثأر في أيّ لحظة. يقع بيتنا الجردي في سفح جبل مليء بالحجارة والبحص الأبيض، نطلق عليه اسم البحصاص. كنّا كلّما نسمع وقع أقدام في البحصاص بسبب حركة البحص نظنّ أنّ هناك من يقصدنا للثأر، كونه لا يوجد بعد بيتنا بيوت لعشيرتنا وحيث تمتدّ أرضنا هناك لتلامس أراضي قضاء الضنّية. حصل مرّات عدّة أن نكون كبنات لوحدنا في البيت، ويكون أبي وأخوتي في الهرمل، ونسمع حركة في البحصاص، فنخرج ليلاً بالسلاح ونطلق رشقاً نارياً باتجاه الجبل ليظنّ العابر، في حال وجوده، أنّ في البيت رجال وقد انتبهوا لهم. غالباً ما تكون الحركة ناتجة عن عبور حيوان في منطقة نعيش فيها مع الذئاب والضباع والثعالب وابن آوى وطبعاً الكلاب الشاردة، ولكنّ الحذر واجب دائماً وأبداً. سأذيع سرّاً وأقول إنّي كطفلة نشأت في ظلّ مشاكل الثأر والثأر المضاد، أحياناً كنت أتبوّل في فراشي لأنني أخاف الخروج إلى البرّية ليلاً حيث نقضي حاجتنا لأنّ منازلنا الجردية كانت بلا مراحيض. ومع أنّني كنت أؤنَّب على فعلتي في كلّ مرة، ويعيّرني أخوتي بـ”الشخاخة”، لكنّني كنت أخاف ولا أجرؤ على البوح بذلك، كون ابنة العشيرة لا يجب أن تخاف.

المشهد الرابع: الرتل العسكري

قلّما يخلو بيت عشائري جردي من وجود الطفّار[1].

وعليه، كان ظهور أيّ جندي أو آليّة عسكرية يثير لدينا مشاعر قلق وخوف، تبلغ مداها في حال كان الآتي إلى حِمانا، وبيوتنا، رتل عسكري. وإذ ينجح الطفّار بفعل بُعد هذه الحمى والمسارات المكشوفة في معظم الأحيان في مغادرة منازلهم قبل وصول المداهمات العسكرية فينجون بأنفسهم من القبض عليهم، لكنّنا نحن الصغار لا ننجو. يقتحم الجنود بيوتنا برشّاشاتهم المصليّة (أي برصاصات في بيت النار)، يوجّهونها إلى صدورنا فيما ينتشرون من حولنا وفي داخل منازلنا الصغيرة الفقيرة المتواضعة الخالية من مخابئ أو خزائن، غالباً ما تكون مكشوفة يقتصر أثاثها على فرشات صوفية كمدّات (طراريح)، نجلس عليها نهاراً وننام عليها ليلاً، وببعض اللحف المصفوفة في “الليوك”[2]. كان الجنود يبقرون حتّى فرشاتنا الصوفية بحثاً عن أسلحة أو حشيشة، وكنّا بعد مغادرتهم ننتظر أمي حتى ساعة متأخّرة من الليل لتتمكّن من إعادة رتي وتقطيب الفرش لنتمكّن من النوم عليها مجدداً. في إحدى المرّات، اقتربت من العسكري خائفة وقلت له بصوت مرتجف: “ما تخزق فرشتي فيك تطويها ببيّن إذا فيها سلاح”. لم يعرني انتباهه وشقّها بسنغة[3] بندقيته وأخرج أحشاءها- صوفها أمامي. كنا نقضي ساعات طويلة بعد رحيل الجنود ونحن نلملم الأواني المنزلية التي كانوا يرشقونها خارج الخيم التي نستعملها كمطابخ. سبق ورأيتهم بأمّ عيني يضرمون النيران في منازل يقتحمونها، وكنت أعتبر نفسي محظوظة كونهم لم يحرقوا بيتي ونحن بداخله. لم تكن تجمعنا بالجيش مشاعر ودّية. لم نشعر يوماً أنّه حامينا وجيش دولتنا التي لم نتعرّف إليها إلّا عبره. لاحقاً استلزمني الكثير من الوقت في رحلتي نحو تنمية حسّ المواطنة والانتماء إلى الدولة، للتصالح مع الدولة نفسها من جهة، ومع الجندي الذي نتشارك وإياه الفقر والحرمان والتهميش من جهة أخرى.

سألتني مرة إحدى الزميلات في ورشة عمل “ماذا يعني أن تكوني ابنة عشيرة؟، هل هذا شيء إيجابي وجميل؟”. للحقيقة فكّرت قبل أن أجيب، ولا أخفي أنّي عبرت سريعاً على شريط هذه الحياة، حياتنا نحن نساء العشائر المعقّدة والمتشعّبة والمليئة بالمتناقضات، قبل أن أقول لها “إنّها تجربة غنيّة جداً، ولكن ليس كل شيء فيها جميلاً، ولا هي سهلة بالطبع”.

 

نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل

  1. أنظر مقالة “الطفّار” في هذا الملف.
  2. خزائن طينية في جدران المنازل الترابية يضع فيها سكان الأرياف لحفهم والأغطية وفرشاتهم
  3. سنغة البارودة هي نصل معدني مروّس بطول 40 سنتمتراً يستعمل للشق وكسلاح أبيض
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، فئات مهمشة ، مجلة لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني