أي عدالة لحبس من أجل دين مدنيّ؟ ملاحظات حول اقتراح الحبس ضمانًا لأتعاب أصحاب المهن الحرّة


2024-02-07    |   

أي عدالة لحبس من أجل دين مدنيّ؟ ملاحظات حول اقتراح الحبس ضمانًا لأتعاب أصحاب المهن الحرّة
رسم رائد شرف

تقدّمت النائبة بولا يعقوبيان في تاريخ 10/1/2024 باقتراح قانون يوسّع حالات حبس المدين الإكراهي المنصوص عليها في المادة 997 من قانون أصول المحاكمات المدنيّة، لتشمل التأخر في دفع أتعاب أصحاب المهن الحرّة. ويُشار إلى أن قانون أصول المحاكمات المدنية يحدّد بصورة حصرية الموجبات التي يجوز إصدار عقوبة الحبس الإكراهي ضمانا لتنفيذها، ومن أبرزها التعويض المحكوم به بسبب جرم جزائي أو جرم مدني ودين النفقة المحكوم به، والمحكوم عليه بتسليم ولد قاصر في حال الامتناع عن تسليمه[1]. ويهدف الاقتراح تاليا إلى إضافة حالة جديدة إلى حالات المادة 997، وهي حالة أتعاب أصحاب المهن الحرّة والنفقات التي یبذلونھا في إطار القيام بمهنتهم والتي يكون للدائن بها (الطبيب أو المحامي أو المهندس..) أن يطلب حبس مدينه (أي زبونه) لامتناعه عن إيفائها لمدة تصل إلى ستة أشهر وفق قيمة الدين.

وقد تمّ تبرير الاقتراح حسبما ورد في أسبابه الموجبة بنقص الضمانات التشريعيّة الكافيّة لتحصيل ديون أصحاب المهن الحرّة الناتجة عن أعمالهم، حيث أن التخلفّ عن تسديدها غير مشمول بأيّ جرم جزائي، مقارنة بأصحاب المهن التجاريّة والصناعيّة والحرفيّة المحميّة حقوقهم بجرم ما جرى مجرى الاحتيال. وإذ أشارتْ الأسباب الموجبة تأكيدا على ذلك إلى المواد 658 (حمل الغير على تسليم بضاعة مع نيّة عدم الدفع أو مع علمه بعدم قدرته على الدفع) 659 (توفير منامة أو طعام أو شراب مع نيّة عدم الدفع أو مع علمه بعدم قدرته على الدفع) و660 (توفير نقل برّي أو بحري أو جويّ دون دفع الأجرة)، فإنها انتهت إلى التأكيد على أن أتعاب المهن الحرة المراد حمايتها بموجب هذا الاقتراح لا تقلّ أهمية عن الديون المنصوص عليها في المادة 997 من قانون أصول المحاكمة المدنيّة والموجبة للحبس الإكراهي وضمنا عن الديون المحمية بموجب قانون العقوبات. 

بناء على ما تقدّم، يستدعي هذا الاقتراح الملاحظات التاليّة:

1- مخالفة المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة: عدم جواز الحبس بسبب دين شخص معسر

نصّت المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أنّه “لا يجوز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي”. وبموجب الفقرة 2 من المادة 4 من العهد المذكور، لا يُسمح للدّول الأطراف، حتى في “حالات الطوارئ الاستثنائية”، اتّخاذ أي إجراءات أو تدابير تتعارض مع أحكام المادة 11 المذكورة أعلاه. وعليه، يتبيّن أن المادة 11 هي إحدى المواد التي تتضمن أحكاماً لا يجوز الانتقاص منها بأي حال من الأحوال (droit intangible). هذا ما أكدّت عليه الحكومة البلجيكيّة[2] في 6/11/1984 خلال مناقشات إقرار المعاهدة، وتعقيباً على تحفّظ الكونغو على أحكام المادة 11، حيث اعتبرت أن “أي تحفظ بشأن هذه المادة من شأنه أن يدمر آثارها، وبالتالي سيكون متناقضاً مع نص وروح العهد.”

وقد استندت بلجيكا في سياق تفسيرها للمادة 11 إلى الأعمال التحضيريّة[3] لإعداد مسودة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وبمراجعة هذه الوثيقة التي تُبرز نيّة المشرّع، يتبيّن من جهة أن المادة 11 تحظر الحبس بسبب عدم القدرة على الوفاء بالالتزامات التعاقدية، وهي تشمل جميع هذه الالتزامات كسداد الديون أو أداء الخدمات أو تسليم البضائع. ومن جهة ثانيّة، أن هذا الحظر ينطبق فقط عندما يكون المدين غير قادر على السداد، ولكن ليس عندما يرفض. أي أن الأشخاص القادرين ولكن غير الراغبين في الوفاء بالالتزامات التعاقدية يجوز تطبيق الحبس الإكراهي عليهم في حال تم اعتبار عدم الدفع في هذه الحالات ذات خطورة اجتماعية[4].

وقد أقرّت مراجع عدّة هذا التفسير لأحكام المادة 11، منها المفوضيّة الساميّة في الأمم المتحدة لحقوق الإنسان OHCHR في دليل “تقديم التقارير بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”[5]، والدليل[6] الخاص بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR) الصادر عن مركز الحقوق المدنيّة والسياسيّة (Centre for Civil and Political Rights).

وبعد الاطلاع على هذه المراجع، يتبيّن أن المادّة 11 تحظر صراحة الحبس بسبب عدم القدرة على الوفاء بالتزام تعاقدي، وأن هذا الحظر ينطبق على جميع العقود المدنية، وإن كانت الدولة أحد أطراف العقد. ولا يجوز الانتقاص من أحكام المادة بحيث يصبح الحبس حرمانا تعسفيّا من الحرية. وقد أكّدت المفوضيّة الساميّة أن المادة تهدف إلى “حماية الأفراد من السجن بسبب الفقر.” ومع ذلك، قد يكون الاحتجاز متوافقًا مع المادة 11 في حالات الاحتيال مثلاً، عندها يجوز معاقبة الجاني بالحبس حتى عندما لا يكون قادرًا على سداد الديون. وأنّه “يجوز الاستناد إلى هذه المادة ضد التشريع الذي يسمح بالحبس على أساس عدم القدرة على الوفاء بالالتزامات المتعلقة بالديون أو أداء الخدمات أو تسليم البضائع. “

وتتلاقى أحكام المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة مع أحكام المادة الأولى من البروتوكول رقم (4) للاتفاقية الأوروبيّة لحقوق الإنسان CEDH، الصادر في 16/11/1963 والتي تنصّ على أنه “لا يجوز سلب حرية أي شخص على أساس مجرد العجز عن الوفاء بالتزام تعاقدي.” وبحسب ما ورد في الدليل الفرنسي للقانون الدولي “Annuaire français de droit international”[7]، “تحظر المادة 1 من البروتوكول رقم 4 حرمان أي شخص من حريته لسبب وحيد هو عدم قدرته على الوفاء بالتزام تعاقدي. وتحمل المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية صياغة مشابهة، باستثناء أنها تشمل السجن بدلاً من الحرمان من الحرية. ومن الواضح أن نطاق المصطلح الوارد في المادة 1 من البروتوكول رقم 4 أوسع. إذ أنّ عبارة “الحرمان من الحرية” تشير في الواقع إلى أنّ الحظر المنصوص عليه يتعلق بأي شكل من أشكال الحرمان من الحرية، مؤقتًا أو دائمًا، سواء كان ذلك يتعلق بالاعتقال أو الاحتجاز أو السجن.” ويوضح الكاتب أن الغرض من المادة الأولى هو حماية الفرد الذي لا يستطيع أداء التزاماته التعاقدية، وإلى أن هذه الحماية لا تمتدّ إلى الفرد الذي لا يرغب في أداء هذه الالتزامات. “ولذلك، فإن تطبيق المادة 1 يفترض توافر عنصرين:

أ) عنصر موضوعي: استحالة تنفيذ الالتزام التعاقدي.

ب) عنصر ذاتي: النية والإرادة في تنفيذ الالتزام التعاقدي.

كما يحدّد البروفيسور في جامعة تولوز الفرنسيّة جاك مورجون[8]، أن نصّ المادة 1 من البروتوكول الرابع يشمل أيّ التزام ناتج عن عقد، سواء كان ذا طبيعة مالية (دين، ولكن أيضًا التزام بالشراء والبيع وما إلى ذلك) أو غيره من الالتزامات (الوعد، القيام بعمل، أو الامتناع عن القيام بعمل…).

وهذه المواد إنما جاءت لتضع حدّا لممارسات سابقة كان لها أثر كبير على الحريات الشخصية، وهي ممارسات تعود جذورها إلى القدم حيث كان يسمح في العصر الروماني مثلا تملّك شخص المدين عند تخلّف الأخير عن الدفع (Manus Injectio[9]). وكانت معظم التشريعات تسمح للدائن بالاستيلاء على شخص الدائن عبر استعباده أو حبسه بسبب الدين كما هي الحال في أواخر العصور الوسطى[10]. بيد أن هذا المفهوم انحصر تدريجيّا في التشريعات الحديثة، كونه يمسّ بحريّة الأفراد ويخالف حقوق الإنسان الأساسيّة، ليصبح تطبيقه استثنائيًّا أو ملغًى في معظم الدول. فعلى سبيل المثال، كان قانون “مولان” الفرنسي الصادر عام 1566 يجيز حبس المدين في جميع أنواع الديون، على أن التشريع الفرنسي تطوّر مع الوقت، ليصل إلى إلغاء حبس المدين في كافة المسائل المدنيّة والتجاريّة سنة 1868. ويجدر الذكر أن فقهاء الشريعة الإسلاميّة[11] أجمعوا على عدم جواز حبس المدين المعسر، وذهبوا إلى جواز حبس المدين المماطل القادر على الوفاء بما عليه من ديون. 

ينظّم قانون أصول المحاكمات المدنيّة اللبناني أحكام حبس المدين في المواد 997 إلى 1007 منه. ويعدّ إجراء الحبس الإكراهي من رواسب قانون الإجراء العثماني ومجلة الأحكام العدلية، على أنّه يطبقّ بحالات خاصّة وبصورة استثنائيّة، يمكن بمقتضاها حبس المدين المتخلّف بعد إنذاره. هذا مع العلم أنّه تمّ إلغاء العمل بنظام حبس المدين في الديون المدنية والتجارية بصدور قانون أصول المحاكمات المدنية عام 1933.

وتجدر الإشارة إلى أن الحالات التي نصّ عليها المشرع اللبنانيّ لحبس المدين وردت على سبيل الحصر، وتفسرّ تفسيراً ضّيقاً كونه إجراء مقيّدا للحريّة. وقد شددت محكمة الاستئناف المدنيّة في قرارها رقم 0 تاريخ 01/06/1998 على ضرورة “تفسير شروط حبس المدين تفسيرا ضيقا لانها تعتبر استثناء على المبدأ العام”.

وعليه يتضح أن الحبس الإكراهي هو وسيلة استثنائيّة تستعملّ في حالات محدّدة حصراً بحسب قانون أصول المحاكمات المدنيّة اللبناني، وقد عدلت معظم التشريعات الحديثة عن استعماله، كالقانون المصري الذي ألغى الحبس في المسائل المدنيّة والتجاريّة وأبقى عليه في إطار ضيّق ومحصور بالمسائل الشرعيّة[12]. على أنه يتبيّن بعد مراجعة العديد من التشريعات العربيّة (منها المصريّة والفلسطينيّة والإماراتيّة) جواز حبس المدين المماطل فقط على سبيل الاستثناء في الحالات التي تستوجب حماية خاصة، ومنع حبس المدين المعسر نهائيًّا.

وعند التدقيق في التعديل المطروح بموجب الاقتراح، يُلحظ أن المادة 997 المطلوب تعديلها، لا تميّز صراحة في نصّها (كما هي واردة في القانون الحالي وفي الاقتراح) بين المدين الممتنع عن الدفع رغم قدرته والمدين المعسر، هذا مع العلم أن المادة 1003 أ.م.م. تنصّ على عدم تطبيق الحبس على “المدين المفلس أثناء معاملات الإفلاس أو المدين طالب الصلح الواقي”. إلّا أن نظام الإفلاس اللبناني المنصوص عليه في المواد 459 الى 667 من قانون التجارة البريّة، ينصّ على أن أوّل شروط إعلان الإفلاس تتمثلّ بكون المدين تاجراّ متوقفاّ عن دفع ديونه التجارية (مادة 489). وعليه، يتضح أن منع تطبيق الحبس المنصوص عليه في المادة 1003 يطال المدين التاجر المفلس طالب الصلح الواقي، من دون أن يحمي المدين غير التاجر أو المدين بدين مدني “المعسّر”. بالتالي، يتبيّن تعارض الاقتراح ه الزاوية مع أحكام العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لجهة حظر حبس الفرد الذي لا يستطيع أداء التزاماته التعاقدية أي المدين المتعسّر.

وعليه، عوضاً عن تعديل أحكام المادة 997 أ.م.م وربما أيضا المادة 1003 من قانون العقوبات (والتي تنّص على الحالات التي لا يطبقّ فيها الحبس)، عملا بأحكام المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة والمادة 1 من البروتوكول رقم (4) للاتفاقية الأوروبيّة لحقوق الإنسان، يذهب الاقتراح في اتجاه معاكس تماماً عبر توسيع حالات الحبس الإكراهي.

2- التضحيّة بمصالح اجتماعية بالغة الأهمية

بالإضافة إلى ما تقدّم، وعلى فرض حصر انطباق النص المقترح على المدين غير المعسر، يبقى أن اللجوء إلى الحبس الإكراهي لتحصيل دين لأحد أصحاب المهن المنظّمة يعرّض مصالح أخرى بالغة الأهمية اجتماعيا للخطر. وهو بذلك يبدو غير مناسب ليس فقط لتعارضه مع أحكام العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية كما سبق بيانه ولكن أيضا لأنه يغلب مصلحة أصحاب المهن في تحصيل أتعابهم على مصالح اجتماعية لا تقل أهمية بل تكاد تفوق تلك المصلحة أهمية. ومن أهم المصالح التي تم حجبها في هذا الخصوص بالكامل هي ضرورة الحفاظ على روابط ثقة مميّزة بين أصحاب المهن والأشخاص الذين يلجؤون إليهم، وهي روابط قد تشهد تراجعا كبيرا في حال تمكين هؤلاء من اللجوء إلى إجراءات الحبس الإكراهي. فهل يعقل مثلا تصور محام يرمي وكيله في السجن تحصيلا للأتعاب التي كان بذلها لإخراجه منه؟ وليس أدل على مكانة هذه الثقة المميزة وثقلها في أيّ موازنة تشريعية بين المصالح المختلفة من الحماية الخاصة التي أعطاها المشرع لسريّة المهنة وبخاصة مهنة المحاماة والطب، حتى ولو كان من شأن إفشاء هذا السرّ ضروريا للكشف عن جرائم خطيرة. وهذا ما أكد عليه أيضا المقرّر الخاصّ المعني باستقلال القضاة والمحامين (22/08/2016، A/71/348) الذي أوصى “بضرورة احترام وحماية العلاقة المميزة بين المحامي وموكِّله” (105).

وهذا ما كانت أصلا مقدمة هذا الاقتراح النائبة بولا يعقوبيان عملت به عند تقديمها اقتراح قانون معجل مكرر في 12/11/2018 يرمي إلى تعديل المادة 1003 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تحدّد الحالات المستثناة من الحبس الإكراهي المنصوص عليه في المادة 997، وذلك بهدف إلغاء حبس الأم إكراهيًّا في حال امتناعها عن تسليم ولدها واستبدال الحبس بغرامة إكراهيّة لضمان التنفيذ. وقد جاء في الأسباب الموجبة للاقتراح آنذاك أن “وسائل الإكراه لتنفيذ الأحكام القضائيّة لا تنحصر بالحبس إذ يمكن الاستعاضة عنه بالغرامة الإكراهيّة التي رعتها أحكام المادة 569 من قانون أصول المحاكمات المدنيّة”. وبشكل أكثر وضوحا، اعتبرت يعقوبيان أن الحبس كوسيلة إكراهية لا يتناسب أبدا مع الاحترام الذي يجدر بالمشرع أن يوليه لمشاعر الأمومة، وأن هذا الإجراء “سيف متسلّط على رقاب الأمهات يسمح بحبسهنْ في حال تعلقهنّ بأولادهنْ، وفي حال آثرن الإنحياز إلى عاطفتهنْ وحنانهنْ الفطري” بحسب ما ورد حرفيا في الأسباب الموجبة. الاعتبار نفسه يوجب استبعاد الحبس الإكراهي لتحصيل أتعاب أصحاب المهن المنظمة بما يخالف أو يهدد روابط الثقة المميزة بين هؤلاء وزبائنهم، وهي الروابط التي يجدر صونها واحترامها.

في الاتجاه نفسه لجهة وجوب أخذ المصالح الاجتماعية الأخرى بعين الاعتبار، يشار إلى أنّ مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة UNODC أشار في دليلٍ[13] نشره حول استراتيجيات الحدّ من الاكتظاظ في السجون عام 2013، “أن سجن المتخلفين عن دفع الغرامات والأشخاص الذين لم يتمكنوا من سداد ديونهم يؤدي إلى تفاقم الاكتظاظ في السجون. وأن الممارسات الفضلى تشير إلى ضرورة النظر في خيارات أخرى غير احتجازية في هذه الحالات. وتشمل هذه الخيارات العمل مقابل أجر لحساب الدولة، بحيث يمكن استخدام عائدات العمل لدفع الغرامات. أمّا بالنسبة للأشخاص غير القادرين على سداد ديونهم، فإن الرد الملائم يتمثّل بفرض تدابير غير احتجازية، تراعي الحالة المالية للفرد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السجن ليس له مساهمة بناءة في سداد الديون.

3- تقويض إرث “المهن الأخلاقية”

يُضاف إلى ذلك أنّ تمكين أصحاب المهن المذكورة من حبس موكليهم لعدم إيفاء موجباتهم يبدو في تعارض تامّ مع إرث هذه المهن وأدبيّاتها. هذا ما نقرأه بوضوح مثلا في قانون الآداب الطبيّة اللبنانيّ (240/2012) الذي ذكر في المادة 9 منه تنصّ “ضرورة الأخذ بعين الاعتبار عند تحديد أتعاب الطبيب حالة المريض المادية والظروف الخاصة بكل حالة، “مع التشديد على أن رسالة الطبيب تفرض عليه التعامل إنسانيّاً مع المريض”. وهذا أيضا ما نستشفه من تاريخ المهن الحرة الموصوفة بأنها مهن ذات بعد أخلاقي، حيث كانت الخدمات التي يقومون بها (تحديدا الخدمات الذهنية للمهندسين، المعلمين، المحامين، كتاب العدل، الأطباء وعداهم) تعدّ في العصر الروماني أرفع من أعمال الحرفة التي تؤدّى إزاء مقابل مادي. وعيله، كان أفراد هذه المهن يتقاضون ليس بدلا لقاء خدمات، إنما مكافأةٍ تتمثل بتقديرٍ مادي يرد تحت مسمىً شرفي رفيع هو “الأتعاب” (honorarium)، وذلك للحفاظ على تصور أن خدماتهم إنما قدمت مجاناً وبصورة تطوعية تقصد إلى الخدمة العامة (amicitia). بالطبع، شهد منذ ذلك الحين التعامل بين أصحاب المهن وزبائنهم تحولات عدة، لكن أن يصل التحوّل إلى حدّ معاقبة عدم دفع المستحقات المالية بالحبس الإكراهي، فهذا أمر يناقض تماما هذا الإرث ومعه علاقة الثقة المميزة التي يجدر أن يقوم عليها هذا التعامل. 

4– إجازة الحبس من دون ضوابط كافية ضد التعسف

من جهة ثالثة، يُسجّل على الاقتراح أنه يخلو من الضوابط التي قد تحدّ من التعسف في اللجوء إليه. فعدا عن أن النص لا يستثني حالات العسر ولا يحدد من يتحمل عبء إثباته، فإنه لا يتضمّن أيضا أي إشارة إلى أصل الدين (وفيما إذا كان مثبتا بحكم مبرم أم فقط بسند). وهو بذلك يفتح الباب واسعا أمام التعسف، وبخاصة في ظل اختلال التوازن بين أصحاب المهن وزبائنهم في أغلب الحالات.

5- الحبس بمعزل عن “النية”

أخيرا، تم تبرير الاقتراح بالمواد الواردة في قانون العقوبات والتي تعاقب ما جرى مجرى الاحتيال. إلا أنه وبخلاف هذه المواد التي تفترض وجود نوايا جرمية عند حصول التعاقد، فإن النص المقترح يفتح الباب أمام الحبس الإكراهي هنا بمجرد عدم تسديد المبالغ المتوجبة، ولو بغياب أي نية سيئة عند إجراء التعاقد مع الدائن صاحب المهنة المنظمة. ومن هذه الوجهة أيضا، بدت الأسباب الموجبة مبنية على مقارنة ومقايسة غير صحيحتين بين أوضاع متباينة جدا.

للاطّلاع على اقتراح القانون، إضغطوا هنا 


[1] المادة 997 من قانون أصول المحاكمات المدنيّة:

“يجوز للدائن أن يطلب حبس مدينه الذي يرفض تسديد أحد الديون التالية, مع مراعاة ما تنص عليه قوانين أخرى:

1 – التعويض المحكوم به بسبب جرم جزائي أو جرم مدني والنفقات القضائية المتعلقة بدعوى هذا التعويض.

2 – التعويض المحكوم به للقاضي وللدولة بنتيجة رد الدعوى المقامة على هذه الاخيرة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القضاة.

3 – دين النفقة المحكوم به. وكل قسط منه يعتبر دينا مستقلا.

4 – البائنة والمهر المؤجل المحكوم بهما للزوجة.”

المادة 998:

“يجوز أيضا حبس المحكوم عليه بتسليم ولد قاصر في حال الامتناع عن تسليمه.”

[2] United Nations,  Treaty Series, vol. 999, p. 171 and vol. 1057, p. 407 (procès-verbal of rectification of the authentic Spanish text); depositary notification C.N.782.2001

[3] UN General Assembly, Draft International Covenants on Human Rights (Tenth Session, A2929, 10 July 1955),  Chapter VI Civil and political rights (Part III , articles 6-26, of  the draft covenants on civil and political rights), p.106

[4] UN General Assembly, Draft International Covenants on Human Rights (Tenth Session, A2929, 10 July 1955),  Chapter VI Civil and political rights (Part III , articles 6-26, of  the draft covenants on civil and political rights), p.106

ARTICLE 11: Contractual Obligations

No one shall be imprisoned merely on the grounds of inability to fulfill a contractual obligation.

“46. With regard to contractual obligations, various opinions were expressed. A proposal to restrict the scope of the article to “inability to pay a contractual debt” was not accepted. It was agreed that the article should cover any contractual obligations, namely, the payment of debts, performance of services or the delivery of goods. […]

47. It was pointed out that, in practically all countries, persons who were able but unwilling to fulfill contractual obligations might be punished by imprisonment. Reference was also made to statutes which provided for the arrest of persons with outstanding debts who were about to leave the country for an indefinite period. A proposal to add the words “unless he is guilty of fraud ” at the end of the article was, however, rejected. The words “merely on the grounds of inability”, it was agreed, made it sufficiently clear that all cases of fraud were excluded from the scope of the article .”

[5] Reporting under the International Covenant on Civil and Political Rights, Training Guide, OHCHR, New York and Geneva, 2021. PART I – Manual, Professional Training Series No. 23

[6] Simple Guide on The International Covenant on Civil and Political Rights (ICCPR), An overview of Articles 1 – 27, October 2021, Copyright (c) Centre for Civil and Political Rights

[7] Sand, Marc. “Le quatrième Protocole additionnel à la Convention européenne des droits de l’homme.” Annuaire français de droit international 10.1 (1964): 569-575.‏

[8] Jacques MOURGEON, Professeur à l’Université de Toulouse, Article 1 du Protocole 4 de la CEDH (Protocole n°4 à la Convention de sauvegarde des droits de l’homme et des libertés fondamentales reconnaissant certains droits et libertés autres que ceux figurant déjà dans la Convention et dans le premier Protocole additionnel à la Convention, Strasbourg, 16.IX.1963) – SFDI

[9] A Dictionary of Greek and Roman Antiquities. William Smith, LLD. William Wayte. G. E. Marindin. Albemarle Street, London. John Murray. 1890.

[10] CLAUSTRE Julie, « La dette, la haine et la force : les débuts de la prison pour dette à la fin du Moyen Âge », Revue historique, 2007/4 (n° 644), p. 797-821. DOI : 10.3917/rhis.074.0797. URL : https://www.cairn.info/revue-historique-2007-4-page-797.htm

[11] (1988) “د. أحمد محمد مليجي- التنفيذ على شخص المدين بحبسه دراسة في قانون دولة الإمارات والقانون المقارن والشريعة الإسلامية,” UAEU Law Journal: Vol. 1988: No. 2, Article 7.

https://scholarworks.uaeu.ac.ae/cgi/viewcontent.cgi?article=1657&context=sharia_and_law

[12] نص المادة 347 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية المصريّة

[13] UNITED NATIONS OFFICE ON DRUGS AND CRIME, Vienna, HANDBOOK ON STRATEGIES TO REDUCE OVERCROWDING IN PRISONS, CRIMINAL JUSTICE HANDBOOK SERIES, CHAPTER B. REDUCING THE SCOPE OF IMPRISONMENT AND DEVELOPING FAIR SENTENCING POLICIES

انشر المقال



متوفر من خلال:

حريات ، المرصد البرلماني ، إقتراح قانون ، لبنان ، مقالات ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني