أسعار التحويل أو عندما تشجّع الدولة تهرّب حيتان المال من الجباية


2021-10-06    |   

أسعار التحويل أو عندما تشجّع الدولة تهرّب حيتان المال من الجباية

تعيش تونس، منذ سنوات عديدة، على وقع أزمة حادّة في الماليّة العمومية، تجلّت في اللجوء المتكرّر إلى الاقتراض الخارجي، خصوصاً من صندوق النقد الدولي، مع ما يستتبع ذلك من شروط والتزامات. ثمّ زاد الوضع تعقيداً جرّاء تفشّي وباء كورونا، ما جعل محاربة التهرّب الضريبي استحقاقاً أكثر إلحاحاً من أيّ وقت مضى. لكنّ المشرّع ارتأى، في قانون الماليّة لسنة 2021، عكس ذلك. رغم طغيان ارتفاع العجز والحاجة إلى الموارد على مناقشة قانون الماليّة لقد تضمّن تراجعاً خطيراً على القيود التي وُضِعت قبل سنتين، بضغط دولي، على «أسعار التحويل»، وهي من أهمّ آليّات التهرّب الضريبي للشركات الكبرى، وبالتحديد الشركات المرتبطة بمجموعات محلّية أو دولية.

 

أسعار التحويل: أوسع أبواب التهرّب الضريبي

يتمثّل تسعير التحويل في قيام شركتين تنتميان إلى نفس المجموعة الأمّ بمعاملات بينهما، تسدّد بموجبها الأولى دفوعات للثانية مقابل سلع أو خدمات معيّنة. تُستخدَم هذه المعاملات لتحويل الأرباح من شركة إلى أخرى، عن طريق التلاعب بأسعار السلع والخدمات المذكورة، وذلك بهدف تقليص الضرائب المستحقّة. وقد يكون مقرّ هاتين الشركتين في البلد نفسه أو في بلدين مختلفين، وبالتالي تخضعان لأنظمة ضريبية مختلفة.

ولتوضيح خطورة هذه الممارسة وكيفيّة تأثيرها على البلدان النامية، نأخذ مثال شركتَيْن (أ) و(ب).

في ما يتعلّق بالتلاعب بأسعار التحويل على المستوى الدولي، تكون كل من الشركتين (أ) و (ب) مملوكتين لنفس الشركة متعدّدة الجنسيّات. الشركة (أ) تقع في بلد نامٍ والشركة (ب) في بلد آخر النِسَب الضريبية فيه منخفضة جدّاً. ومن أجل تقليص الضرائب إلى الحدّ الأدنى، تعمد الشركات متعدّدة الجنسيّات إلى تحويل أرباحها من خلال حمل الشركة (أ) على شراء سلعة أو خدمة من الشركة (ب)، كي تُفرَض ضريبة بنسبة أقلّ على هذه الأرباح. ولئن كان من الطبيعي أن تتاجر الشركات داخل المجموعة الواحدة مع بعضها البعض، فإنّ التلاعب يحدث عندما يكون سعر التحويل أعلى من سعر السوق، ومن ثمّ تستخرج الشركات متعدّدة الجنسيّات الأرباح مع الضرائب من البلدان النامية نحو بلد ذي ضرائب أقلّ.

أمّا بالنسبة إلى التلاعب بأسعار التحويل على المستوى المحلّي، تكون الشركتان (أ) و(ب) مملوكتَيْن لنفس الشركة المحلّية، وتتشابه العمليّة مع عمليّة التلاعب بأسعار التحويل على المستوى الدولي، ولكنّ الفرق بينهما يكمن في أنّ الفارق الرئيسي بين الضرائب داخل الشركتين يختلف إمّا حسب القطاع (قد تكون الشركة المستخدَمة في التحويل، أي الشركة التي تدفع ضرائب أقلّ، تعمل في المجال الزّراعي) أو حسب المنطقة (قد تقع الشركة (ب) في المناطق الداخلية التي تستفيد من الإعفاءات الجبائية). وفي هذه الحالة، يمكن أن تحوّل المجموعة التي تملك كلتا الشّركتين الأرباح من الشركة العاملة في القطاع الذي يخضع لنسب ضريبية عالية (أ) إلى القطاع الذي يخضع لنسب ضريبية منخفضة (ب).

وتجدر الإشارة إلى أنّ الشركات متعدّدة الجنسيّات تبنّت هذه الآليّة ودمجتها في عملها من أجل تحقيق الحدّ الأقصى من الأرباح عن طريق التهرّب من دفع نصيبها العادل من الضرائب. ربّما يكون المثال الأوضح هو الممارسات التي اعتمدتها شركة غوغل (Google) خلال العقد الماضي، حيث تُحوّل الشركة الكائنة في إيرلندا أرباحها إلى شركة هولّندية تابعة لها ثمّ إلى شركة إيرلندية مملوكة في جزيرة برمودا. وقد كلّف ذلك الخزائن العامّة 15.9 مليار يورو في 2016، و14.9 مليار يورو في 2015، و10.7 مليار يورو في 2014. وقد دفع حجم التهرّب الحاصل الدول المتقدّمة نفسها إلى البحث عن حلول لهذه الظاهرة، بالتوازي مع السعي لاسترجاع جزء من الأموال المستحَقّة من هؤلاء العمالقة الاقتصاديين. فاهتمّ عدد من المنظّمات الدولية بالمسألة، خصوصاً منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE)، التي حاولتْ إرساء مبادئ تمكّن من تحديد كيفيّة تسعير التحويل سواء من طرف الشركات متعدّدة الجنسيّات أو الإدارات الجبائية.

كما تُقدَّر خسائر الدول النامية جرّاء التلاعب بأسعار التحويل، وفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي[1] استند إلى بيانات جُمعت من منظّمات غير حكومية متعدّدة، بما لا يقلّ عن 50 مليار دولار أميركي سنوياً، بدون احتساب كلفة التلاعب بأسعار التحويل على المستوى المحلّي.

في تونس، وبسبب قلّة المعلومات، ليس لدينا تقديرات لهذه الخسائر. لكنّ هذا لا ينفي لجوء عدد من الشركات الكبرى إلى هذه الآليّة. على سبيل المثال، كشف تحقيق لمنظّمة “أنا يَقِظ” أنّ التهرّب الضريبي لقناة نسمة كان يتمّ، في جزء منه، عبر أسعار التحويل. إذ إنّ الحقّ في استخدام شعار القناة لا تمتلكه الشركة التونسية، وإنّما شركة «Nessma SA»[2] في لوكسمبورغ، ممّا يسمح للشركة التونسية بتحويل أرباحها إلى هذا الملاذ الضريبي، وعدم دفع ضرائب في تونس[3]. وبصفة عامّة، تخسر تونس سنوياً، حسب تصريح مستشار رئيس الحكومة الأسبق للجباية فيصل دربال، 25 مليار دينار بسبب التهرّب الجبائي. ورغم أنّ الصعوبات الكبيرة في الماليّة العمومية تحتّم تقييد منافذ التهرّب الضريبي ارتأى المشرّع التونسي عكس ذلك في قانون الماليّة لسنة 2021.

 

الدولة تتراجع عن بسط رقابتها

لقد هيمن ارتفاع العجز في الميزانيّة والحاجة الكبيرة إلى الاقتراض على نقاشات مشروع قانون الماليّة لسنة 2021، إلّا أنّ الحكومة، والأغلبية البرلمانية التي تساندها، لم تتردّد في تمرير فصل يرفع القيود التشريعية على أسعار التحويل ويُضعف رقابة الدولة عليها. وكانت هذه القيود قد ضُمِّنت في قانون الماليّة لسنة 2019 بضغط من الاتّحاد الأوروبي، الذي صنّف تونس في القائمة السوداء للملاذات الضريبية، وليس نتيجة حرص داخلي على مقاومة التهرّب الضريبي. فقد تضمّن قانون الماليّة لسنة 2019 تنقيحات عدّة “لملاءمة التشريع الجبائي … مع المعايير الدولية في مادّة أسعار التحويل”. شملت هذه التنقيحات الفصل 48 سابعاً من مجلّة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات، بهدف تمكين الإدارة الجبائية من إعادة إدماج الأرباح التي تحوّلها شركة مقيمة أو مستقرّة في تونس عبر التلاعب بأسعار المعاملات مع مؤسّسات تربطها بها علاقة تبعيّة أو مراقَبة، أو لفائدة شركات مقيمة في بلدان أو أقاليم ذات نظام جبائي تفاضلي. كما ألزم قانون الماليّة لسنة 2019 المؤسّسات المقيمة في تونس، التي تربطها علاقات من هذا النوع مع شركات أخرى، والتي يتجاوز رقم معاملاتها السنوي الخام 20 مليون دينار، بإيداع تصريح سنوي يتضمّن معلومات مفصّلة حول أسعار التحويل التي تمارسها. كذلك، أُضيف فصلٌ في مجلّة الحقوق والإجراءات الجبائية (الفصل 38 مكرّر) يُلزم الشركات التي يفوق رقم معاملاتها السنوي 20 مليون دينار تقديم الوثائق المبرِّرة لسياسة أسعار التحويل التي تعتمدها عند إخضاعها لمراجعة جبائية معمَّقة. في الوقت نفسه، مكّنت هذه التنقيحات المؤسّسات المعنيّة من إبرام اتّفاقيّات مسبقة مع الإدارة الجبائية حول كيفيّة ضبط أسعار مثل هذه المعاملات.

لكنّ قانون الماليّة لسنة 2021 شهد تراجعاً لافتاً شمل معظم هذه القيود، وذلك “لإضفاء مزيد من المرونة” عليها. فقد تمّ تغيير الشرط الذي ترتبط به معظم هذه الإجراءات، وهو رقم المعاملات السنوي، الذي ارتفع من 20 مليون دينار إلى 200 مليون دينار، أي عشرة أضعافه. كانت أولى نتائج هذا التنقيح انخفاض عدد الشركات المعنيّة بهذه الإجراءات بشكل كبير، واقتصار الأمر على بضع مؤسّسات. في السياق نفسه، تمّ حصر معظم الإجراءات والآليّات الرقابية في عمليّات التحويل الموجَّهة إلى الخارج بعد أن كانت تشمل أسعار التحويل التي تتمّ على المستوى المحلّي. بالإضافة إلى هذا، أُضيف شرط جديد ساهم في تقليص مجال الرقابة، إذ تمّ حصرها في المعاملات التي تتجاوز 100 ألف دينار.

برّرت وزارة الماليّة التنقيحات الجديدة بافتقار الإدارة الجبائية إلى الإمكانيّات اللازمة لتطبيق الإجراءات التي كانت سارية. أي أنّ المنطق التشريعي فضّل خفض القيود الموجودة وتقليص مجال الرقابة، عوض تعزيز إمكانيّات الإدارة الجبائية لتتمكّن من بسط رقابتها على أحد أخطر أساليب التهرّب الضريبي.

 

مراقبة أسعار التحويل تحتاج إدارة جبائية فعّالة

وفقاً لتقرير البنك الدولي المذكور سابقاً، إنّ البلدان التي تفتقر لإطار تشريعي ينظّم عمليّة تحويل الأسعار، أو تلك التي تمتلك إطاراً تشريعياً غير مفعّل، يمكن أن تستفيد كثيراً من تطبيق مثل هذه القوانين. لذلك يوصي التقرير بشدّة بالترفيع من إمكانيّات الإدارة الجبائيّة وذلك لزيادة إنفاذ هذه القوانين. وهو ما تثبته الأرقام حول البلدان التي انتهجت مثل هذه السياسة. على سبيل المثال، استطاعت الصين جمع 10.272 مليار يوان (1.5 مليار دولار أميركي تقريباً) سنة 2010 عبر مقاربة أسعار التحويل، خصوصاً بفضل مجهود الإدارة الجبائية. أمّا في تونس، تعاني الإدارة الجبائية من نقص حادّ في الإمكانيّات، وهذا ما أثبته تقرير صادر عن منظّمة البوصلة[4]، ويتجلّى عدم رغبة الدولة في الاستثمار في هذه الإدارة الحيوية على ثلاثة مستويات.

يتعلّق المستوى الأول بالموارد البشرية، فنظراً إلى النقص المتزايد في عدد الموظّفين تغرق الإدارة المالية في العمل إلى درجة يصبح فيها كلّ عون مسؤولاً، في بعض الجهات، عن أكثر من 4 آلاف ملفّ سنوياً، ولا تزال بعض المكاتب دون إطارات عليا منذ سنوات عديدة. وعند الحديث عن أسعار التحويل تتجلّى الحاجة إلى مزيد من التدريب في هذا المجال، بينما يتّضح لنا يوماً بعد يوم أنّ الدولة لا تنوي سلوك هذه الطريق.

يتجلّى النقص الثاني في إدارة الجباية، حين نتحدّث عن مجابهة الغشّ الجبائي، في الجانب اللوجيستي. سواء على مستوى تَوَفُّر معدّات النقل أو الحواسيب أو حتّى الطابعات. إذ تكافح الإدارة الجبائية التونسية من أجل الالتزام بواجباتها في مواجهة النقص في المعدّات المذكورة آنفاً. على سبيل المثال، لقد أحصينا سيّارة لكلّ 16 موظّفاً، وجهاز كمبيوتر لكلّ 5 موظّفين، كما إنّ 40٪ من أجهزة الكمبيوتر المذكورة لا تحتوي حتّى على البرمجيّات المناسبة بحسب التقرير نفسه.

وبالحديث عن البرمجيّات، تتلخّص العقبة الثالثة التي تواجهها إدارة الجباية في المنظومة المعلوماتية المهترئة. وعند معالجة الآليّات المعقّدة مثل أسعار التحويل لا بدّ من تزويد إدارة الجباية بمنظومة تكنولوجية تكون على القدر نفسه من التطوّر من أجل فرز عمليّات التلاعب بأسعار التحويل من بين هذه المعاملات المالية. لا يكفي القول إنّ إدارة الجباية غير مجهَّزة بمثل هذه المنظومات فحسب، بل أكثر من ذلك، لا يوجد تواصل آلي بين البرنامجين الرئيسيّين اللذين يقومان بعمليّات المراجعة والتّدقيق. فعلياً، من شأن الافتقار إلى التواصل الآلي أن يولّد تضارباً في المعلومات ويؤدّي إلى إهدار الموارد الجبائيّة.

إنّ العقبة الأهمّ أمام مواجهة التلاعب بأسعار التحويل هي افتقار الإدارة الجبائية إلى المعلومات. وبسبب منظومة معلوماتية غالباً ما تكون مهترئة، نادراً ما تملك إدارة الجباية بيانات كافية لمقارنة السعر المستخدَم في التحويل بسعر السوق، وتقييم الكلفة الحقيقية للخدمات أو المنتجات المتبادَلة. وفي الحالات التي تتعلّق بأسعار التحويل على الصعيد الدولي، كثيراً ما تفتقر إلى أيّ معرفة بالنظام الجبائي في البلد الذي يتّجه نحوه التدفّق المالي، الأمر الذي يشترط توفّر الإطار القانوني المناسب وإدارة جبائية قويّة ومواكبة التطوّرات. قد يكون التعاون الدولي من بين الحلول في هذا المجال، ليس فقط عبر تبادل المعلومات، إنّما أيضاً عبر تبادل الخبرات والدعم اللوجستي والمساعدة في تدريب الأعوان في الدول النامية. وقد تمّ وضع أدوات واتّفاقيّات عديدة لتسهيل ذلك[5]. لكنْ، بدون إرادة سياسية حقيقية لمكافحة التهرّب الضريبي، تضع التشريعات والإمكانيّات اللازمة لذلك، لا يكفي الدعم الدولي وحده.

يُبرِز نموذج التعامل مع أسعار التحويل كيف تخدم بها السياسة الجبائية للدولة أقلّيّة اقتصادية تتألّف من شركات مربحة للغاية، إمّا عن طريق الحوافز المالية المباشِرة وإمّا من خلال تخفيف القوانين لمساعدة هذه الشركات على التهرّب من الدفع. لسنا بحاجة إلى تفسير أنّ هذا العبء الجبائي الذي تتهرّب منه الشركات الكبرى، يتمّ تحميله للفئات الأقلّ حظّاً، ممّا يزيد سوء وضعها الاقتصادي يوماً بعد يوم.

 

نشر هذا المقال في العدد 22 من مجلة المفكرة القانونية، تونس. لقراءة العدد انقروا على الرابط:

الجباية غير العادلة

 

[1] Cooper, Joel; Fox, Randall; Loeprick, Jan; Mohindra, Komal. 2016. Transfer Pricing and Developing Economies: A Handbook for Policy Makers and Practitioners. Directions in Development–Public Sector Governance. Washington, DC: World Bank. © World Bank. https://openknowledge.worldbank.org/handle/10986/25095.

[2] نسمة خفية الاسم.

[3]شبكة نسمة: ما تخفيه قناة الأخوين القروي“، موقع منظّمة أنا يَقِظ، 10 جويلية 2016.

[4] سحر مشماش، “إدارة الجباية في تونس، أداة معطّلة“، سحر مشماش، منظّمة البوصلة، 2020.

[5] بما في ذلك اتّفاقيّة الأمم المتّحدة النموذجية للازدواج الجبائي (United Nations Model Double Taxation Convention) بين الدول المتقدّمة والدول النامية، أو المنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات للأغراض الجبائية لمنظّمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD Global Forum on Transparency and Exchange of Information for Tax Purposes).

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، قطاع خاص ، مقالات ، تونس ، الحق في الصحة والتعليم ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني