أسطورة «المنقذ» في تونس المعاصرة: رجل «العناية الإلهية» وتحوّلاته


2023-03-31    |   

أسطورة «المنقذ» في تونس المعاصرة: رجل «العناية الإلهية» وتحوّلاته

حين سئل وزير التربية التونسي، محمد علي البوغديري، عن رأيه في أحد المسلسلات التي تُبثّ على قناة تونسية خلال شهر رمضان، والضجة التي أثارها بسبب مضمونه المتعلق بالمدارس، قال واثقاً: “سنَطّلع على تصوّر الرئيس خلال قادم الأيام…والرئيس له نظرة أكثر شمولية على المجتمع وجميع التجاوزات الذي يتم تسجيلها داخله…. وتبقى النظرة الأخيرة لسيادة الرئيس في علاقة بهذا الملف”. أثَار هذا الموقف موجة سخرية في وسائل التواصل الاجتماعي. وعبرّ في الظاهر عن اكتفاء الرئيس قيس سعيّد بنفسه في إدارة الدولة. لكنه في العمق يُعبّر عن شعور راسخ في اللاوعي، يحمله قطاع واسع من التونسيين تجاه الرئيس، ليس الرئيس سعيد فقط، بل تجاه كل فرد تمكّنه الأقدار من الجلوس في مقعد الرئيس. شعور يمكن تلخيصه نفسياً في حالة مديدة من حنين الطفل للأبّ. ذلك الأبّ المسؤول عن كل صغيرة وكبيرة، أي حنين الفرد لجنّة الطفولة الخالية من التكليف والمسؤولية، حيث يقوم الأب مقام الجميع في كل شيء، لأنه ببساطة يعرف مصلحة الجميع أفضل منهم، أو ما عبّر عنه وزير التربية بقول أكثر بلاغةِ: “له نظرة أكثر شمولية”.

هذا التعلق الأبوي يخفت وينهض بين البشر في المجتمع على مدى طويل من وجودهم. ربّما يخلّف جروحاً نفسية، وربما يتعايش معه الفرد من دون آثار وخيمة. لكنه عندما يتجاوز الأفراد نحو السياسة وإدارة الشؤون العامة للمجتمع يتحوّل إلى أسطورة أو خرافة تجدُ لها جذوراً في الدين والثقافة. ولكنّها أسطورة مؤسّسة ومركزية في بناء علاقات الولاء بين الحاكم والمحكومين. عَبرَها ومن خلالها يُرسّخ الحاكم حكمه ويتعوّد المحكوم على موقعه الأدنى في هذه العلاقة العمودية. تونس ليست نشازاً بين البلدان. في كل مكان تقريباً من هذا العالم وفي أزمان مختلفة وضمن شروط تاريخية متباينة وُلدت أسطورة “القائد المنقذ” والرّجل المرسل من العناية الإلهية. لكن تاريخ تونس المعاصر لم يخلُ يوماً، إلا في فترات قصيرة جداً، من حضور هذه الأسطورة، لاسيما بعد الاستقلال (1956) عندما استقر وجود الشعب نهائياً ضمن كيان سياسي حديث. وأصبحت العلاقة بين المحكومين والحاكم أكثر وضوحاً وتنظيماً من خلال دستور وقوانين. 

ولادة الأسطورة

لكلّ عصر أساطيره، وللحداثة أساطيرها أيضاً. جنباً إلى جنب مع التفكير العقلاني، احتلّ الخيال مكانة في تاريخ الأفكار السياسية. وهي الفكرة التي استعَادها راؤول جيرارديت، المؤرخ وعالم السياسة الفرنسي، في كتابه “الأساطير السياسية”، الذي يشرح كيفية ولادة الأساطير السياسية الأربع المؤسسة للسياسة الحديثة: أسطورة الوحدة، أسطورة المنقذ، أسطورة العصر الذهبي، أسطورة المؤامرة. والتي تظهَر خلال الفترات الحرجة وفي لحظات الأزمة. لذلك يمكن تفسير ولادة الأسطورة على أنها علامة على اضطراب المجتمع. في الأوقات العادية تكفي الاحتفالات الجماعية لإرضاء خيال الجماهير. لكن عندما تنمو التوترات الداخلية تصبح الأسطورة ضرورية. إذ أن ردّ الفعل الخَيالي ضد التغييرات وخيبة الأمل يصبح هاجساً جماعياً.

عشية الاستقلال، دخلتْ تونس في صراع دمويّ بين جناحيْ الحركة الوطنية، جناح الحبيب بورقيبة وجناح صالح بن يوسف، ولم ينتهِ إلا بإلغاء اليوسفيين نهائياً وتمكين بورقيبة من السلطة منفرداً. مطلع شهر جوان 1955، عَاد بورقيبة من فرنسا حاملاً الاستقلال الداخلي. وما إن وطئت قدماه اليابسة حتى التفّت حوله الجماهير، التي زحفت منذ ساعات الصباح الأولى إلى ميناء تونس. كان الرجل حريصاً على أسطَرَة شخصه في تلك العودة، حيث تحوّل الزحف المقدس الذي رافق موكبه إلى عيد وطني. كان يرتدي قبعة كبيرة على صهوة جواد والجموع من حوله يزرعون الشوارع والأرصفة، في إعادة إنتاج أسطوري للصورة الشهيرة لـ نابليون بونابرت على حصانه الأبيض، يأمره بالوقوف على اثنتين بدلاً من أربع، مرتدياً عباءة وقفازاً مطرّزاً. ثم تمّت ترجَمة هذه الحالة الأسطورية من خلال إلغاء المَلَكيّة وتنصيب بورقيبة رئيساً، ثم في دستور البلاد الجديد عام 1959 الذي أسند للرئيس صلاحيات واسعة تُرسّخ حضوره الطاغي. وهي صلاحيات لن يكتفي بها عندما سيتحول في منتصف السبعينات إلى رئيس مدى الحياة مُعيداً إنتاج الملكية في ثوب جمهوري.

خلال هذا المسار الطويل من بناء هذه الأسطورة بعناية، عبر أجهزة الدولة الإيديولوجية الثقافية والتربوية والدينية، ترسَخ في يقين المحكومين أنه لا خارجاً عن وجود الرئيس القائد الذي لم يكتف بأسطورة المنقذ. بل أسّس لأساطير أخرى لتوطيد أركان حكمه أهمّها أسطورة الوحدة التي لا تعترف بأي فرد يخرج عن “الوحدة الوطنية” والتي هي في الحقيقة “وحدة الولاء للحاكم”، أي أنّ كل معارض لهذه الوحدة خائن، لا فقط للوطن بل عاق للأب. لأن هذا الرئيس ليس مجرّد حاكم، بل هو من صنع الأمة بعد أن كانت مجرّد “غبار أفراد” كما يقول بورقيبة. وهذا الصّنع شبيه إلى حد ما بدور الأب الفيزيولوجي في إيجاد الأبناء. كانت هذه العلاقة الأبوية قائمةً على فكرة أن الدولة “عائلة” يقودها الرئيس، وتتكوّن من أبناء غير راشدين هم الشعب. لذلك فالدولة هي من توفر كل شيء لهذا الشعب: التعليم والصحة ودعم المواد الأساسية والوظائف، في المقابل، يلتزم هذا الشعب بتقديم الولاء. ضمن هذه المقايضة الطبقية/ النفسية، حَكَم بورقيبة تونس على مدى ثلاثة عقود، تخلّلتها الكثير من الهبّات الشعبية التي عبَّرت عن وعي نقدي صادر عن أقلية نُخبوية بقصور هذه العلاقة الأبوية عن تحقيق شوق الفرد للحرية والاستقلالية. في المقابل، كان القطاع الأوسَع من الشعب قد تأقلم مع هذه العلاقة وسكَنَ فيها، وأصبَحَ لا يتصور نفسه خارجها. ذلك أن لا وجود لهذه الأسطورة إلا داخل علاقة ما بين الشعب والرئيس، فالرئيس يستمدّ أسطورته من شعب يُؤمن بهذه الأسطورة كحقيقة راسخة. لكن الشعب، قطعاً، لم يُسلِّم بهذه الأبوة الأسطورية من فراغ، بل وجدَ لها جذوراً في التشكيل الاجتماعي ما قبل الحداثي في زعيم القبيلة ورئيس الطائفة أو شيخ الطريقة أو الفقيه أو الأمير، حيث لم يعش يوماً دون أبٍ راعٍ. 

المنقذ بوصفه «صانعاً للتحول»

كان بورقيبة واعياً بأساطيره، لكنّه لم يكن مُدرِكاً لفكرة أنّها يمكن أن تنقلب ضدّه. شهد عقد الثمانينات وصول أزمة النظام السياسي الحاكم إلى ذروتها. كانت شيخوخة الرئيس وحَرب الخلافة حَوله وتصاعد قوة المعارضة بشقيها اليساري والإسلامي مؤشرات على أن البلاد تسير نحو الانهيار السياسي والاقتصادي. في قلب هذه الأزمة صعد الجنرال زين العابدين بن علي إلى السلطة عبر انقلاب عسكري- طبّي. ومنذ اللحظات الأولى لحكمه، نَزَلت الجماهير إلى الشوارع رافعةً أكفّ الولاء، وانخرطت النخب السياسية في خطاب تأييد واضح. بدا للجميع في ذلك الوقت أن البلاد قد تنفّست الصعداء. ومنذ الأيام الأولى ظَهرَ بن علي بوصفه منقذ البلاد من الفوضى التي كانت ستقودها إلى الخراب. لم يكن أباً، كما هو الشأن بالنسبة لبورقيبة، حيث كان ظهوره كمنقذ أو “رجل العناية الإلهية” نابعاً من فكرة أنّه بطل تحرير البلاد من الاستعمار.

في كتابه “رجال العناية الإلهية” يذهب المؤرخ الفرنسي “جون غاريغ” إلى أن ظهور المنقذ دائماً ما يترافق مع حالة من اللايقين يعيشها المجتمع، عندما يمرّ بفترة فوضى اجتماعية أو اقتصادية أو أخلاقية ويعاني من أزمة ثقة في نخبته. في هذا الوضع الاستثنائي، ستظهر شخصية تبدو قادمةً من بعيد. أحياناً تكون بطلاً عسكرياً (نابليون) أو وريث أسطورة (لويس نابليون) أو حتى سياسيا يجسّد الوطنية، مثل غامبيتا أو كليمنصو. ولكن يمكن أيضًا لهذا المنقذ أن يكون الرجل الذي تم استدعاؤه للإنقاذ والذي تفُوق هيبته على الآخرين مثل بيتان أو حتى ديغول في عام 1958. لذلك كان بن علي من هذا النوع المُنقذ من حالة التشظي المديدة بالنسبة للشعب في ذلك الوقت. وقد استغلّ هذه الحالة لتأمين مقبولية عامة لانقلابه أوّلاً، ثم استغلّها لاحقاً لتوطيد أركان حكمه عندما خلعت عليه وسائل الدعاية ألقاباً من نوع “صانع التحول المبارك” و”صانع التغيير”. لكنه كان تحوّلاً من الرئيس الأب إلى الرئيس المُنقذ، فيما حافظَ جهاز الدولة على طبيعته الشمولية وحافظ المجتمع على وجدانه النفسي في النظر إلى الرئيس بوصفه الدولة وبوصفه صاحب الكلمة الأخيرة، أو كما قال وزير التربية التونسية في حكومة سعيد: “له نظرة أكثر شمولية”. 

ضمن هذه العلاقة المعقّدة، بين الخوف والطاعة والرضا، نَسجَ بن علي علاقة ولاء مديدة مع قطاع واسع من الشعب محافظاً على الحد الأدنى من المقايضة الطبقية التي وضعها الرئيس بورقيبة. خاصة مع الطبقات الوسطى التي شكّلت منذ الاستقلال القاعدة الاجتماعية للنظام. في المقابل رأَت هذه القطاعات الشعبية الواسعة في بن علي رجل العناية، الذي سيملأ مكان بورقيبة الشاغر. يًفسّر فرويد هذه الظاهرة بفكرة ”قانون الأبناء”، عندما تناول موضوع الأب البدائي، الذي استمدّه من أعمال داروين وقصة فريزر الشهيرة عن الملك الكاهن في العصور الرومانية القديمة، الذي كان يستمدّ قوّته من مقتل سلفه، ويقتل بدوره على يد خليفته. في كتابه “الطوطم والحرام”، الذي نُشر في 1912، حاول فرويد إعطاء أساس تاريخي وأنثروبولوجي لنظرية أوديب، مستنداً إلى داروين في الدفاع عن فكرة أن “قانون الأبناء” الذي يعمل عن طريق الطفرة يحوّل استبداد الأب الأصلي إلى ثقافة.  يقول فرويد: “في زمن بدائي، عاش الرجال في مجموعات صغيرة، كلّ منها خاضع للسلطة الاستبدادية للذكر الذي استولى على الإناث. في أحد الأيام، قام أبناء القبيلة، في تمرّدهم ضد الأب، بوضع حدّ لحكم الحشد المتوحش. قتلوه وأكلوا جثته. ومع ذلك، بعد القتل، شعروا بالذنب ونبذوا جريمتهم، ثم اخترعوا نظامًا اجتماعيًا جديدًا”. هذا النظام الجديد القائم على العائلة يشغل فيه الأبّ دور القائد، في نوع من تكفير الذنب والشعور بالحنين للأب المقتول في الحشد البدائي. يستعمل المحلل النفسي الفرنسي “فرانسوا فيلا” هذه الفكرة لتفسير ظاهرة تسليم الجماهير لسلطة القائد السلطوي، مشيراً إلى أن تسليم الشعب للقائد المنقذ، رغم أنه دكتاتور، هو في جوهره حنين للقائد المُنقذ السابق وللطاغية السابق، وشعور بالذنب من قتل الأب السابق. لذلك كان تسليم الشعب لبن علي، هو حنين لبورقيبة وشعور بالذنب تجاه قتله سياسياً.

المنقذ في ثوبه الشعبوي

عند نهاية العشرية الأولى من القرن، بلغتْ أسطورة الرئيس المنقذ والمقايضة الطبقيّة حالةً من الاهتراء والتآكل غير المسبوق. شكّلَت ثورة 2011 نهاية المنقذ، وكسرت حاجزاً نفسياً سميكاً. لم تعد الدولة عائلةً يقودها أب مُتسلط والشعب فيه مجرد مجاميع غير راشدة. لم يحدث ذلك فجأةً بل هي ثمرة مسار طويل من اليقظة المتدرّجة، شرعت فيها النخب منذ ستينات القرن الماضي، وهَبَّات شعبية أضعفت تماسك النظام وأساطيره وفكّكت وحدته المركزية. لم تعدْ الطبقة الوسطى، القاعدة الاجتماعية للنظام، واحدةً. جناحُها المحافظ قدّم أصواته لحركة النهضة في أوّل انتخابات جرت عام 2011. أما جناحها الليبرالي فقد تفرق بين أحزاب غير إسلامية. لاحقاً سيجتمع الجناحان في حقبة التوافق السياسي بين حركة النهضة وحركة نداء تونس بزعامة الباجي قائد السبسي. لكن هذا الولاء السياسي لم يحقق لهذه الطبقات المكاسب المادية التي كانت تحافظ عليها طيلة سنوات، فيما زادت أوضاعها تدهوراً على نحو مُتسارع وعميق.

في مناخ الأزمة هذا، جاءت انتخابات 2019 كفرصة لهذه الطبقات كي تبحث لها عن منقذ. جاء قيس سعيد من بعيد ومن خارج الطبقة السائدة. وقَدَّم نفسه كحلّ نهائي وحاسم للأزمة من خارج من تسبّبوا فيها. كان في نظر الطبقات الوسطى والشعبية رجل “عناية إلهية”، بوصفه غريباً عن السائد، وهذه خصلة مركزية في رجال العناية الإلهية. وثانياً باعتباره يحمل قيماً تنتمي لهذه الفئة كنظافة اليد في وقت شاع فيه الفساد، والصّدق في زمن أصبح فيه الكذب أداةً لممارسة السياسة. كان هذا الشوق الجماهيري للمنقذ والمُخلص حجاباً سميكاً أمام شعبوية سعيّد، التي لم تكن سريةً ولا مخفيةً. يرى “جون غاريغ” أنّه مهما كانت العائلة الأيديولوجية التي يدّعيها، فإن خطاب رجل العناية الإلهية هو خطاب مناشدة للناس. إن مناشدة الشعب فوق النخب وضدّها وفكرة الدفاع عن التطلعات الشعبية تجعَل أسطورة رجل العناية الإلهية أقرب إلى الشعبويّة. لكن من الضروريّ التمييز بين أولئك الذين يسعون إلى القادة الذين يخاطبون قاعدتهم الاجتماعية ضمن علاقة حميمة، ولكن لديهم خطط وبرامج ورؤى سياسية، وبين رجل العناية الإلهية الشعبوي الذي لا يملك سوى الاحتجاج، وهي حالة قيس سعيّد النموذجية.

من خلال هذا الاحتجاج على الطبقة السياسيّة والنظام السياسي السائد، اكتسب سعيّد نوعاً من الكاريزما السلبية. فمن جهة هي كاريزما، لأنه ضمن علاقة بين شخصية قيادية وجماهير مؤمنة بقدرتها على التغيير. ومن جهة أخرى فهي سلبية لأنها لا تقدّم مشروعاً ثورياً أو تغييراً جذرياً، ولكن مجرد هَدم للموجود. فالشخصيّة الكاريزماتية تحمل بالضرورة مشروع تغيير، كما يعرّفها ماكس فيبر. في دراسته الرائدة حول الشعبوية والكاريزما يشير ألكسندر دورنا إلى هذا القائد، فهو شخص يخرج من العدم وبدون جهاز منظم أو مشروع، وتَتمثّل رسالته المتصورة علنًا في العودة إلى زمن التوازن المجتمعي وصولاً إلى العصر الذهبي الأسطوري للأشخاص المؤسسين. وبالتالي فإن موقفه هو موقف “الأخ الأكبر” المقرّب الذي يسعى إلى الاتصال والتواصل المباشر مع الجميع بشكل أفقي. تظهر الكاريزما الشعبوية من خلال الصوت وقسمات الوجه، حيث تمرّ العاطفة من خلال الحضور والإيماءات والكلمات. 

هذا الزّعيم الشعبوي رجل صاغ أسطورة، ظَهرت شعبيتها فجأة في مواجهة تحدٍّ كبير يتراجع أمامه الآخرون. إنّه شخص يَعبر السماوات الاجتماعية والسياسية مثل النيزك، مع الكثير من التحمّل والكلمة التي تصمّ الآذان، ويقدّم مخرجًا من الموقف المسدود. سلاحه الأساسي هو الاتصال المباشر والحوار مع الجميع. التواصل أفقي ودافئ. التبادلات مفتوحة وحيوية ومباشرة. إنها الصورة الحية للإنسان البسيط المَتاح، الذي يظهر من دون تأثر أو حساب، وقادر على بلورة نموذج الاندماج لدى الجميع. وهو ما بدا جلياً خلال الحملة الانتخابية للرئيس سعيد، متجولاً في الشوارع وبين المقاهي. وكان ذلك دأبه بعد وصوله إلى السلطة. حيث أدمن النزول إلى شارع بورقيبة وشرب القهوة في أحياء شعبية بين الناس. مستعملاً خطاباً غير عقلاني، مزدحم بالإيماءات وحضور قوي للمذنب المبني للمجهول دون فاعل صريح. منتقداً النخب ومضفياً الطابع الدرامي على القضايا والخيارات السياسية، مستحضراً الأساطير والخرافات التأسيسية العظيمة (الوطنية).

لكن أسطورة المُنقذ في ثوبها الشعبوي لا تقف على أساس مُتماسك، كما هو الشأن بالنسبة للمنقذ في نسختيه البورقيبة أو مع بن علي. حيث أن أساسها شديد الهشاشة لأنها محض خيال سياسي دون قاعدة مادية. في نسختي بورقيبة وبن عليّ كان الخيال السياسي والأساطير أدوات إيديولوجية يستعملها النظام كي يديم حالة الولاء والطاعة في المجتمع. لكنّه يقيم هذا الولاء على المقايضة الطبقية من خلال نموذج الدولة الراعية، خاصة للطبقة الوسطى؛ فليس بالخيال وحده يتم إنتاج الولاء. أما في حالة سعيد، فالرئيس التونسي يعتقد نفسه معلقاً في السماء، لا يمثل أي طبقة اجتماعية وإنما شعباً متخيلاً. في المقابل، يسعى من خلال برنامجه الاقتصادي المدعوم من صندوق النقد الدولي إلى تدمير ما تبقى من مكاسب اجتماعية للطبقات الفقيرة والوسطى. لذلك فإن أسطورته كمنقذ ومخلص، لن يدوم سحرها طويلاً.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني