أسطورة الاشتراكية الصهيونية: الكيبُوتس من جنّة “تعاونية” إلى جحيم


2024-01-16    |   

أسطورة الاشتراكية الصهيونية: الكيبُوتس من جنّة “تعاونية” إلى جحيم

صباح السابع من أكتوبر، شاهدنا جميعاً مقاطع الفيديو، التي تسرّبَت من هجوم المقاومة الفلسطينيّة على ما يُعرف بمنطقة غلاف غزة. والغلاف هو عبارة عن سلسلة من المنشآت المدنية والعسكرية والأراضي الزراعية التي تُطوّق قطاع غزة شمالاً وشرقاً، وتَحُول بينه وبين المدن والبلدات داخل فلسطين المُحتلة. لكن الكلمة الغريبة التي كانت تدور في وسائل الإعلام في ذلك الصباح لتسمية التجمعات المدنية الواقعة في ذلك الغلاف هي “الكِيبوتس”؛ تجمّعات سكنية جميلة المعمار، تُحيط بها الحدائق والأشجار، وعلى امتداد النظر أراضٍ زراعية واسطبلات وأكواخ صغيرة تَبدُو عليها آثار العناية والترتيب. كلّ ذلك غير بعيد عن مخيّم جباليا، شمال قطاع غزة، حيث تفُوق الكثافة السكانية أيّ مكان في العالم، وحيث تنعدِم الرؤية من شدة تركّز الدور الإسمنتية حجراً فوق حجر.

لكن المفارقة ليست في هذا التقابل الطبقي بين مكانين يَفصلهما سياج فقط، بل في الخيال السياسي والأخلاقي الذي تأسّست عليه هذه الكيبوتسات، حيث يُسمّيها الفلسطينيون مستعمرات، فيما هي في وعي الذين يسكنونها إطار للمساواة والعدالة الاجتماعية والتعاون. وهذه الأسطورة المُجسّدة في مكان ذي وظيفة اجتماعية، لم تكن فقط إحدى الأساطير المؤسسة والدافعة للصهيونية اليسارية، التي أسّست إسرائيل عام 1948. بل كانت مصدر إلهام وجذب لقطاع واسع من الشباب الأوروبي والأمريكي على مدى عقود، بوصفها الجنّة التي يحلُم بها أي اشتراكي ثوري، وهي اليوتوبيا المفقودة، التي عجزوا عن تحقيقها في بلدانهم. وربّما شكَّل ذلك أحد عوامل الإعجاب تجاه إسرائيل، لدى عدد كبير من النخب اليسارية الأوروبية. وهنا يبدو نموذج الفيلسوف والناشط الثوري الإيطالي، أنطونيو نيغري، دالاً على هذه الحالة، إذ وجد نفسه داخل كيبوتس نحشونيم غير البعيد عن تلّ أبيب، حين وصل إسرائيل في منتصف الخمسينات. وقد عادَ إلى تلك المرحلة قبل سنوات في مقابلة صحافية، قائلاً إنّ بلوغه المستوطنة الصهيونية كان “لحظة تعليم سياسي عظيم بالنسبة إليّ، لأنني عشت في كيبوتس شيوعي. في الواقع، لم أكن عملياً أعرف شيئاً عن الماركسية، وفي الكيبوتس تعلّمت الممارسات الشيوعية الراديكالية حيث لم تكن هناك عائلة، ولم يكن هناك شيء، لم يكن هناك سوى المجتمع والعمل”.

الصهيونية اليسارية كعقيدة تأسيس

في مَطلع القرن العشرين، جرَت وقائع الهجرة اليهودية الثانية، التي ضمّت قطاع واسعاً من اليهود العلمانيين، الذين كانوا مَدفُوعين باليهودية كقومية وخاصة بالماركسية والاشتراكية. خلافاً للموجة الأولى من الهجرة التي ضمّت يهوداً ملتزمين بالشريعة، ودافِعهم الأساسي كان دينياً. هذا التحوّل النوعي في طبيعة الهجرة، دفع الوافدين الجدد من المتأثرين بالاشتراكية إلى تنظيم وجُودهم ضمن أشكال استيطان مستقلة ومختلفة، وفي طليعتهم نشطاء “حركة بيلو” المنظمة الشبابية الصهيونية التي تأسست عام 1882 في مدينة خاركيف الأوكرانية، والذين كانوا يُريدون بناء مجتمع استيطاني ريفي يقوم على المساعدة المتبادلة والعدالة الاجتماعية، ويقوم نظامه الاجتماعي والاقتصادي على الملكية الجماعية للأعضاء والمساواة والتعاون في الإنتاج، بهدف إعداد بيئة مُناسبة لإقامة كيان يهودي قومي.  في عام 1909، أنشأ يوسف بارتس وناحوم تانفيلوف ويوسف وهيوتا بوسيل وميريام بارتس مستوطنة في الطّرف الجنوبي من بحيرة طبريا، على أرض قرية عربية. في ذلك الوقت، كان عملُهم الأساسي هو تجفيف المستنقعات لتهيئة الأراضي للزراعة. وقد أُطلِق على هذه المستوطنة اسم “مجموعة الحبوب” على اسم الحبوب الخمس التي زرعوها هناك. كان هذا هو المجتمع الأوّلي الذي نشأت منه حركة الكيبوتس. في البداية، كانت هذه المستوطنات تُسمّى مجموعات، ومنذ عشرينيات القرن العشرين بدأَ يُطلق على بعضها إسم الكيبوتس.  يذهب يهودا يعاري، أحد أعضاء الهجرة الثالثة، إلى أن فكرة هذا الإسم جاءت بعد أن التقى بأحد الحاسيديم في القدس والذي تلفّظَ أمامه بكلمة “كيبوتس باومان المقدس”، وهو لقب لتجمّع طائفة الحاسيديم اليهودية. ومع ذلك يعتقد موكي تسور، مؤرخ الحركة العمالية، أن الإسم نشأَ في وقت واحد في عدة أماكن، على الرغم من أنه لا يستبعِد إمكانية أن يكون اللقب مستعارًا من معجم الحَاسيديم.

تطوّرَت حركة انتشار الكيبوتسات على نحو متسارع، مع ازدياد وتيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين. لاسيما مع تصاعد سياسات معاداة السامية والأزمة الاقتصادية نهاية العشرينات. في عام 1922 كان هناك ما يقارب 700 شخص يعيشون في هذه الكيبوتسات. وفي عام 1927، اقترب عدد سكان الكيبوتس من 1800 شخص، بينما عشيّة اندلاع الحرب العالمية الثانية كان عدد سكان الكيبوتس 25000، أي حوالي 5% من إجمالي سكان فلسطين من اليهود. خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، تمّ إنشاء عدد كبير من الكيبوتسات على طول الحدود، كان داخل كل منها عشرات أو مئات من الأعضاء. كان القصد من الكيبوتس أن يكون مظهرًا جذريًا للمُثُل الصهيونية الاشتراكية وهيكلًا يسمَح بإدارة التشتّت الجغرافي للسكان في فلسطين الانتدابية. وقد بلغَ عددهم ذروته في عام 1949، عندما شكّلُوا 7.5% من السكان، أي ما يقارب 50000 شخص[1]. وكما هو الحال مع معظم المجتمعات الزراعية اليهودية الأخرى، تمّ تأسيس الكيبوتسات في ثلاث مناطق صغيرة ومسطّحَة نسبيًا، هي وادي الأردن ومرج ابن عامر وسهل السّاحل الغربي المُطلّ على المتوسط.

شكّل الكيبوتس، منذ ولادته، أسطورة الجناح اليساري العمّالي داخل الحركة الصهيونية. فقد كان نموذجاً لليوتوبيا الاجتماعية، أي تحقيق مُجتمع متخيّل يتمتع بسمات مثالية أو شبه مثالية، بوصفه هيكلاً تؤتي فيه مبادئ المساواة الاقتصادية ثمارها وتسُود فيه العدالة. فهو مجتمع تُدار موارده بشكل مشترك، ويعيش الأعضاء البالغون في أماكن خاصة، في حين يتمّ إيواء الأطفال عادة في دُور خاصة طوال اليوم. ويتمّ تحضير الوجبات وتناولها معًا. يَعقِد الأعضاء اجتماعات منتظمَة لمناقشة شؤون المجتمع، والتصويت على القضايا التي تتطلّب اتخاذ قرارات وانتخاب قادَة مختلف مجالات النشاط. فهذه الميزات أدّت إلى وصف الكيبوتس في العقود الأولى بأنه المدينة المجتمعية الفاضلة[2]، ووسَّعَت من القاعدة الاجتماعية للصهيونية اليسارية. في كتابه إخفاق اليوتوبيا: تاريخ لليسار في إسرائيل (La Découverte 2021) يَذهب توماس فيسكوفي إلى أن الصهيونية اليسارية نجحَت منذ عشرينيات القرن الماضي في السيطرة على الهيئات اليهودية والصهيونية الرئيسية كافة في فلسطين، مثل “المجلس الوطني اليهودي” و”الوكالة اليهودية”. ويَعود ذلك أساساً إلى أنّها كانت قادرة على تولّي المسؤولية وتقديم إطار للاندماج والعمل للقادمين الجدد،[3] خاصة في ظلّ إنشاء شبكات الهستدروت (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية). وأصبح الكيبوتس المكان الذي يمكن للمهاجر الجديد أن يجد فيه كل ما يحتاجه من عمل ورعاية وعلاقات اجتماعية وتعليم وتدريب.

شكّلَت هذه الأطر التنظيمية الاجتماعية والنقابية أداةً في يد اليسار الصهيوني لقيادة معركة تأسيس الكيان أواخر أربعينات القرن الماضي.  فقد خدم أعضاء الكيبوتسات في مناصب مركزية في المستوطنة اليهودية خلال فترة ما قبل تأسيس الكيان، وفي قيادة الدولة الجديدة، لاسيما في المجال العسكري. حيث تأسست النواة الأولى لقوّات البلماح (سرايا الصاعقة)، الجناح العسكري لمنظمة الهاغاناه في فلسطين منذ عام 1941، وهي القوة التي قادَت الحرب في عام 1948. كما سيطرُوا على العمود الفقري الاقتصادي والاجتماعي للدولة في سنواتها الأولى. وبعد تأسيس الكيان، تعزّزَ الكيبوتس الصهيوني بأعداد كبيرة من المهاجرين اليهود. وواصلَت الكيبوتسات لعب دور مهم في السياسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. خلال الخمسينيات والستينيات، تم تأسيس العديد من الكيبوتسات على يد مجموعات ناحال (الشباب الرائد المحارب)، وهي مجموعات شبابية تَخدِم ضمن قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، وقد تأسّست هذه الكيبوتسات على خطوط التّماس مع الدول العربية، بوصفها مواقع شبه عسكرية مُتقدّمة. وقد سقطَ المئات من هؤلاء قتلى في حربي 1967 وأكتوبر 1973. دفع هذا الدور الأمني بالتأثير السياسي للكيبوتسات إلى ذروته في تلك الفترة، لاسيما خلال فترة حكم حزب العمل، فبينما كان 4% فقط من السكان الإسرائيليين أعضاء في الكيبوتسات، كان البرلمان الإسرائيلي في ذلك الوقت يتكوّن من 15% من أعضاء هذه الكيبوتسات.

تحوّلات الكيبوتس

شكّلت حرب 1967 نقطة تحوّل جذري في المجتمع الإسرائيلي. دفع النصر الإسرائيلي السريع والكبير إلى الأمام بالقوى الدينية الصهيونية التي رأت في النصر “معجزة ميتافيزيقية”. وقد تزامنَ ذلك مع تصاعد موجة الهجرة اليهودية من الدول العربية والإسلامية. أصبح المجتمع الإسرائيلي، الذي يقوده اليهود الغربيون العلمانيون، منقسماً بين نخبة علمانية يسارية صهيونية وقواعد اجتماعية جديدة ذات أصول وثقافة شرقية ومتديّنة. أما عالمياً، فقد دخل المشروع الاشتراكي في أزمة تشتدّ عاماً بعد آخر. ومع نهاية السبعينات بدأت السياسات النيوليبرالية في الرّوَاج على نطاق واسع، لاسيما وأن الحليفين الأساسيين لإسرائيل، الولايات المتحدة وبريطانيا، كانا يقودان هذا التحوّل الاقتصادي العالمي من خلال الثنائي ”تاتشر–ريغان”. كما أن استقرار وضع إسرائيل في المنطقة بعد هزيمة العرب في 1967، خَفّضَ كثيراً من شعور العقيدة الوطنية التعاونية، وصَرفَ قطاعاً واسعاً من المجتمع نحو الفردانية والنجاح الفردي.

 لكن اللحظة المفصلية لانحدار الكيبوتس، كفضاء تعاوني، كانت مع خروج حزب العمل اليساري من السلطة عام 1977 وقدوم حزب الليكود القومي. منذ ذلك الوقت أصبح الكيبوتس، المنتمي تقليديًا إلى أحزاب يسارية، يُواجه ائتلافًا حاكماً لم يَعُد يضمن له الموقف التفضيلي الذي كان عليه في الماضي. وقد تمّ التعبير عن هذه الظروف الصعبة عملياً من خلال انفجار الديون تجاه مؤسسات الائتمان ورحيل العديد من الأطفال المولودين في الكيبوتس الذين قرّروا البحث عن مستقبل في مكان آخر. بداية من منتصف عقد الثمانينات، تاريخ الأزمة التضخمية الكبرى التي ضربت إسرائيل، خضعَ العدد الأكبر من الكيبوتسات إلى ثلاثة تغييرات أساسية طالت وضعها البنيوي: أولاً، خَصخصة الخدمات العامة كالتعليم والصحة. وثانياً فرض سُلّم الأجور التفاضلية، حيث كان نظام الأجور داخل الكيبوتسات في البداية خاضع لمبدأ التساوي بين جميع الأعضاء وفقًا لاحتياجاتهم، بغض النظر عن المنصب الذي يشغلونه. لكن بعد التغيير أصبح معظم أعضاء الكيبوتس يحصلون على أجور تفاضلية تتأثر بالمنصب الذي يَشغلونه. وثالثاً، إنشاء جمعية الأصول، من خلال نَقل بعض الأصول كالعقارات والمنتجات من الوضع الذي كانت تنتمي فيه إلى الكيبوتس كجمعية تعاونية إلى ملكية أعضاء الكيبوتس، وهو شكل من أشكال الخصخصة. وبالتالي ستُصبح هذه الأصول قابلة للتوريث والبيع، وهو ما يعني عملياً نهاية فكرة الكيبوتس.

دفعَت هذه الأزمة نحو تحلّل الأساس الإيديولوجي للكيبوتسات. حيث ربطَت حكومة الليكود بين الموافقة على برامج الإنعاش والتخلي عن بعض المبادئ المتعلقة بالملكية العامة للخدمات العامة ووسائل الإنتاج. ومع ذلك حافظت هذه التجمعات على وجودها وتأثيرها ونفوذها السياسي، رغم تراجع هذا النفوذ بشكل كبير، ضمن الأزمة الأكبر التي يَعيشها اليسار الإسرائيلي. وقد جدّدَت نفسها من خلال نموذج “الكيبوتس المتجدد”، وهو مستوطَنة تُحافظ على عدد من أنظمة المعيشة التعاونية، لكنّها تُقرّ نظاماً للأجور التفاضلية ودرجة أكبر من الاستقلالية للعائلات وخصخصة الخدمات الاستهلاكية مع الحفاظ على مجانية الخدمات العامة. فوفقاً للأرقام الإسرائيلية، وإلى حدود العام 2018، يُشكل أعضاء الكيبوتس أقل من 1% من سكّان دولة إسرائيل، لكن حركة الكيبوتس ككل هي القطاع الأكثر إنتاجية في المجتمع الإسرائيلي مُقارنة بحجمها. تُنتج الكيبوتسات 42% من المنتج الزراعي، و10% من المنتج الصناعي باستثناء فروع التكنولوجيا الفائقة، وأكثر من 16% من الصادرات الصناعية. وينتشر 278 كيبوتسًا في جميع أنحاء إسرائيل، حوالي 75% منها تقع في الضواحي، وعشرات الكيبوتسات تُمثّل الحدود الفعلية للكيان، في غلاف غزة وهضبة الجولان.

الطوفان: النكبة العكسية

شَكّلَت الكيبوتسات، إحدى السّاحات التي خاضَت فوقها المقاومة الفلسطينية معركة 7 أكتوبر 2023. لقد كانت رمزية الهجوم على الكيبوتس شديدة الدلالة على فشل اليوتوبيا الصهيونية. فقد كان الطموح الأساسي للحركة الصهيونية هو توفير مكان لليهود حيث يُمكنُهم العيش بسلام، ولو كان ذلك على حساب شعب آخر. كانت الفكرة هي إنشاء مجتمع يهودي بالكامل، ولكنه حديث ومُتحرّر. هناك حجة أخرى للصهيونية تُشير إلى أنّ إنشاء دولة يهودية من شأنه جعل اليهود سعداء وآمنين. ولكن يبدو أن العكس تماماً قد حدث.

في سلسلة نشرتها صحيفة تايمز أوف إسرائيل، يروي سكان الكيبوتسات الهاربين من غلاف غزة جنوباً والجليل الأعلى شمالاً قصص هُروبِهم وعلاقتهم بالكيبوتس. واللاّفِت في هذه القصص ما يرويه الأعضاء الأكبر سناً في هذه التجمعات الاستيطانية. يَحكي عوفر نيبو (80 عاماً) من كيبوتس إيلون في الجليل الغربي قصة الكيبوتس، قياماً وحطاماً، منذ ولادة الكيان الإسرائيلي ونكبة فلسطين، وصولاً إلى هجوم 7 أكتوبر والنكبة العكسية التي تعرّضَ لها مع زوجته. ولد عوفر في عام عام 1943 في كيبوتس إيلون، الذي تمّ إنشاؤه بالقرب من الحدود مع لبنان عام 1938 كجزء من مستوطنتي شوما ومجدال. فلسطين كانت مكتوبة على شهادة ميلاده، شأنه شأن أبناء جيله. عاشَ الرّجل حرب 1948 طفلاً وعايش بعد ذلك تحولات الكيبوتس على الحدود الشمالية، لكنّه يعتبر ما حدث في 7 أكتوبر فارقاً: “كانت هناك أوقات فيها الحدود ساخنة، لكنني لا أتذكّر موقفًا اعتقدنا فيه أن البقاء فيه أمر خطير. وفي السنوات الأخيرة، كان هناك حديث عن الإخلاء أثناء التوترات الأمنية. طوال هذه السنوات قلت إنني لن أُطرد من كيبوتس آيلون، وها أنا أُطرد…عِشت هناك طوال حياتي. شغلت العديد من المناصب في الكيبوتس، كنت سكرتيرًا للكيبوتس أربع مرات. ومُوظّفاً في أرشيف الكيبوتس”.

في إحدى إجاباته يعيد المستوطن الصهيوني، بشكل دقيق، المرويّات التي نعرفها عن ضحايا النكبة الفلسطينية عام 1948. بدَا لي جوابه مطابقاً لكثير من الأجوبة التي قرأتُها لشهادات شيوخ وعجائز فلسطينيين تحدّثُوا عن لحظاتهم الأخيرة في بيوتهم التي تركوها عندما سقطت أجزاء واسعة من فلسطين في أيدي العصابات الصهيونية ربيع العام 1948. فحين سألته الصحافية ماذا تفتقد؟ أجاب: “من الصعب جدًا بالنسبة لي التعبير عن ذلك. عندما غادرنا الكيبوتس ظننا أننا سنذهب لبضعة أيّام، وها نحن نجد أنفسنا أمام أمر دائم. أشعر بضغط من عدم اليقين لم أعرفه من قبل. لقد أغلقنا الباب وتركنا المفتاح تحت إناء الزهور، وانتهى تاريخنا. ومع تطوّر الأمر وفهمي للوضع، أدركت أن الافتراض بأننا سنعود قريبًا يتضاءل أكثر فأكثر. المستقبل مُحَاط بالضباب. في الكيبوتس لدينا ثلاثة قبور: قبر أخي الذي قُتل في حرب يوم الغفران، قبر ابنتي التي أصيبت بالسرطان وتوفيت، وقبر ابنتنا الكبرى التي أنهت حياتها عندما كانت في الثلاثين من عمرها. وهذه طبقة أخرى تطفو وتربُطنا بالمكان. الماضي يربطنا أيضًا بالمستقبل. أن تغلق باب المنزل وتفترض أن ذلك لمدة يومين أو ثلاثة أيام، وتكتشف أن لا أحد يعود إلى أي مكان. هذا يُكلّفني الكثير”.

لا يعلم المرء على وجه الدقة كم مرةً سمع هذا الكلام من لاجئي فلسطيني في لبنان أو الأردن أو في غزة، وكيف أغلقَ باب منزله وسقى قِططه وشجيراته ونزح بعيداً، متأملاً العودة بعد أيام حتى تنتهي الحرب، ليجد نفسه لاجئاً مدى الحياة، وأطفاله وأحفاده قد وُلِدوا في مخيّمات اللجوء.


[1] – Ben-Rafael, E., Konopnicki, M. et Rambaud, P., 1983, Le Kibboutz, Paris, Presses universitaires de France.

[2] – Ben-Rafael, E. et Peres, Y., 2005, Is Israel One ? Religion, Nationalism and Multiculturalism Confounded, Leyden, Brill.

[3] –  Thomas Vescovi, L’Échec d’une utopie: une histoire des gauches en Israël, La Découverte Paris 2021

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني