أبعد من قرار التوريد المحلّي: لماذا لن يكفي قمحنا خبزنا؟


2022-07-13    |   

أبعد من قرار التوريد المحلّي: لماذا لن يكفي قمحنا خبزنا؟
إحدى مراحل جمع القمح في موسم الحصاد الحالي، بريف دلتا النيل. يطلق عليه الفلاحون "ضم القمح"

في الرابع عشر من مارس 2022، ألزمت وزارة التموين والتجارة الداخلية المصرية المزارعين بتوريد 12 إردباً[1] لفدان القمح الواحد، على الأقل، أي 60% من إنتاجية الفدان تقريباً. وخصصت أكثر من 400 نقطة لاستلام القمح المحلّي. وحظرت الوزارة على المزارعين بيع باقي إنتاجية الفدان من دون تصريح رسمي منها. يسري ذلك القرار بأثر رجعي، على مشتري القمح المحلي قبل صدور القرار. ويترتّب على مخالفة القرار حرمان المخالفين من الدعم الزراعي مثل الأسمدة وخلافه، فضلاً عن تعرّضهم لخطر المساءلة القانونية[2]. يأتي هذا القرار على أثر الحرب بين روسيا وأوكرانيا اللتين تعدّان أكبر مورّدتين للقمح لمصر إذ تغطّيان أكثر من نصف حاجتها من القمح تقريباً. ويهدف القرار الذي يأتي ضمن سلسلة من الإجراءات والتدابير الحكومية الأخرى، إلى رفع مساهمة مخزون القمح المحلي في تغطية الاحتياجات الاستهلاكية، وتعويض نقص المستورد منه.

تسعى هذه المقالة إلى فهم السياق الأشمل لهذا القرار، والعلاقة بينه وبين المحاور الثلاثة الآتية: تغير السياسة الزراعية المصرية، والأمن الغذائي والتحديات الاقتصادية والبيئية المرتبطة به.  

الحرب الروسية الأوكرانية تغيّر الموازين

لا تتخذ الدولة قرارات مركزية لفرض زراعة محاصيل معيّنة في كل فصل، كما سبق وفعلت أنظمة ما بعد يوليو 1952، فيما عُرف بالدورة الزراعية المحددة. في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك. وتزامناً مع السياسة الرأسمالية المنتهجة، تركت الدولة للمزارعين اختيار المحاصيل، ضمن جملة من القرارات والقوانين بهدف رفع اليد عن أيّ تدخّل مباشر أو دعم وتوجيه الفلاحين عبر الجمعيات الزراعية التي تعدّ حلقة وسط بينها وبينهم[3]. انعكس التغيير الزراعي تدهوراً في أوضاع الفلاحين وتراجعاً في إنتاجية المحاصيل الوطنية، ومنها القمح. لكن الدولة في المقابل حافظت على تولّيها مسؤولية تحديد سعره، واستلامه من الفلاحين الراغبين في توريده لها، مع التشديد على بيعه للقطاع الخاص في السنوات الماضية، وكفاح تسريبه للسوق السوداء، من دون منع حدوث ذلك نسبياً بالفعل[4].

فرضت الحرب وضعاً استثنائياً، إذ ألزمت الفلاحين بالتوريد وبسعر أقلّ من مثيله العالمي. فقد اعتادت الحكومة في السابق على تسعير القمح بسعرٍ مُجزٍ كي تشجّع زراعته، وبيعه لها دون غيرها، بحسب الصحافية ندى عرفات[5]. ما حدث هذا العام هو أنّ الحكومة رغم وضعها سعراً عالياً للقمح كالمعتاد، إلّا أنّه نتيجة الحرب وتبعات ارتفاع سعر القمح، زادت أسعاره عالمياً بما يفوق التسعيرة الحكومية. حاولت الأخيرة تدارك الزيادة ورفع التسعيرة، لكنّ الأسعار واصلت ارتفاعها لدرجة كبيرة وغير متوقعة، وتجاوز ذلك قدرتها على تغطية الزيادة، ثمّ اضطرّت لفرض قرار التوريد المذكور أعلاه، حتى يتسنّى لها وحدها الحصول على القمح المحلي.

وبحسب ندى عرفات، تعطي الحكومة الفلاحين السماد والمياه والكهرباء المدعّمة، وهو ما يجعل للحكومة أحقية في الحصول على القمح المحلّي خصوصاً في وقت الأزمات. من ناحية أخرى، تعتبر تكلفة القمح والأعلاف عالية على الفلاحين، وبالتالي يصبح بيع الفلاح طنّ القمح للحكومة بسعر من 6 إلى 8 آلاف جنيه، ثمّ شراء الدقيق بـ 11 جنيه[6]، غير منطقي، إذا كان بإمكانه الاحتفاظ بقمحه واستخدامه كعلف بدلاً من شراء الأعلاف الغالية أو طحنه وبيعه كدقيق للقطاع الخاص؛ وهو ما يمنعه القرار الأخير، نتيجة إلزامها لهم بتوريد غالبية إنتاجية القمح لها.

توضح الصورة المراحل المتعاقبة لنمو القمح. في الجزء الأيمن المراحل الأولى لزراعته قبل النضج والاستعداد لحصاده. أما في الأيسر فتظهر مرحلتا نضجه وجمعه

السلطات غائبة أثناء الزراعة، حاضرة حين الحصاد

بالرغم من وجاهة هذا الطرح، لكنه يغفل غياب الدعم الحكومي في كافة مراحل الدورة الزراعية السابقة لقرار التوريد، من إرشاد وتوجيه معرفي، ودعم لأسعار الأعلاف وخلافه، لا سيما مع رفع تحرير سعر صرف الجنيه في 2016، وما سبقه من رفع لأغلبية دعم مدخلات الإنتاج الزراعي في 2014، وما يتركه ذلك على الفلاحين من ضغوط وأعباء متزايدة، لا يجدون من يشاركهم حملها رسمياً. يصف عادل (مزارع خمسيني من ريف الدلتا) ذلك بـ “ضعف حكومي، لأنّ الرغبة في التحكم بمرحلة البيع غير ممكنة من دون تحكّم أو تدخل في المراحل السابقة لزراعة المحصول”[7].  ويشرح “لم تتحكم ولم تتدخل لصالحي وأنا أزرع، إذاً لا تتحكم فيّ وأنا أبيع”. ويرى أنّ الإجبار على التوريد ما هو إلا إثقال الفلاح بعبء تحمّل الدعم الذي تقدّمه الحكومة في صورة خبز للناس، وبخاصة سكان المدن، برفع مسؤوليته من على كاهل الحكومة، ووضعه على الفلاح.

تحصر ندى عرفات ضرر القرار على مجموعة الفلاحين المضطرين إلى التوريد للحكومة، لكنها تتوقف عند أهمية التفريق بينهم وبين مجموعة ثانية من الفلاحين ممن سوف يعزفون عن توريد القمح، غير عابئين بحافز الحصول على السماد. المجموعة الأولى هم المحتاجون للحصول على سعر القمح نقداً وبصورة عاجلة لدفع إيجارات الأراضي مثلاً أو لأي غاية مادية، لأنّ الحكومة هي الوحيدة التي يمكنها الشراء، بخلاف قدرتها على الدفع الفوري “كاش”، بالرغم من السعر الحكومي الأقل من السعر العالمي هذا العام.

الاكتفاء.. من أين وكيف؟

رسمياً، يتكرّر الحديث عن التوسّع في زراعة القمح، وهو جزء من وعد سياسي قديم، حيث صرّح يوسف غالي، وزير الزراعة الأسبق، في 1983 بأنّه سيتمّ إنجاز الاكتفاء من القمح خلال ثلاث سنوات، وهو ما لم يتمّ حينها. ولا ينفي ذلك، الزيادة الفعلية لحجم الأراضي المزروعة بالقمح هذا العام مقارنة بالدورة الزراعية الماضية لعام 2021، وفقاً لتصريحات حكومية. تقدّر الزيادة بنحو نصف مليون فدان عن دورة القمح الزراعية للعام الماضي، بحسب الحكومة. وتأتي الزيادة المزروعة من مصدرين: أراضي مملوكة للدولة وعلى رأسها الجيش، أو أراضي المزارعين بالريف التقليدي. نفتقر إلى معلومات حول المصدر الأول الذي يحيطه غموض وسرية متعمّدة على حد وصف الباحث الزراعي ومدرس علم الاجتماع الريفي صقر النور، وبرأي ندى عرفات أيضاً التي تقول إنّ “هناك تعتيماً ضخماً على المعلومات المتعلّقة بنشاطات الحكومة والجيش، يجعلنا عاجزين عن معرفة حجم المساحات المزروعة من قبل الدولة، أو حجم إنتاجها، أو أي تفاصيل تخصّها”. أما الزيادة التي يعتبر الفلاحون مصدرها، فهي بحسب التصريحات الحكومية قرابة 80% من الفلاحين الذين تواصلت معهم جهات حكومية زرعوا القمح في جزء من أراضيهم العام الماضي (2021). ويوضح صقر أن غالبية إنتاج القمح تأتي من الحيازات الصغيرة ممن لا يتجاوز حجم أراضيهم 10 فدادين بالمناطق الريفية القديمة[8]. ويقدّر الفارق بين متوسط إنتاجية فدان القمح في توشكي والمقدرة بحوالي طنّين للفدان، وهي لا تزال أقلّ من متوسط إنتاجية الفدان في الريف القديم الذي يبلغ نحو 3 أطنان، “وهذا فارق إنتاج كبير” بحسبه.  بخلاف ذلك، عادة لا يزرع المستثمرون قمحاً ولا يمكن للدولة بالطبع إجبارهم، وهم يفضّلون زراعة محاصيل أعلى ربحية سواء لتحقيق اكتفاء لبلدانهم من محاصيل معينة، يحظر فيها زراعتها، إذا كانوا مستثمرين أجانب، أو للتصدير بغرض الاستثمار والكسب مثل الموالح والفاكهة والورود. لذا فهو يرى أنّ التوسّع بزراعة القمح لم يصاحبه تغييرٌ في السياسة الزراعية المتحيّزة للتصدير والمستثمرين، من جهة. ومن جهة أخرى، تعدّ الزيادة في مساحات القمح المزروعة محلياً غير ضخمة، ولا يتجاوز تأثيرها 10% من الكمية المستوردة، حسب صقر الذي يعتقد أنّ السياسة الزراعية بوضعها الحالي تبدو نموذجاً معرقلاً لزراعة القمح وإنتاجه، وأنّه لو رغبت الدولة في دعم زراعة القمح، ينبغي عليها دعم أصحاب الحيازات الصغيرة والتركيز عليهم، من منتجي القمح.

يتّفق ما قاله المُزارع عادل مع وجهة نظر صقر عن أنّ دعم الفلاحين هو السبيل للتوسّع بزراعة القمح. ويوضح أنّ “شكارة السماد كانت بـ 160، ارتفع سعرها إلى 250. لو الحكومة تنوي دعم الفلاح، تساعده بتغطية بـ 100/ 150 جنيه من قيمة شكارة السماد، كنوع من المساهمة في تحمّل التكلفة العالية، مع الحرص على رفع سعر القمح ليضاهي العالمي، كما يحصلون عليه من الخارج بالدولار”.   

مساحة تتداخل فيها زراعة محصولي البرسيم والقمح، بدون غلبة لأحدهما على الآخر، وهذا خيار العديد من المزارعين، لتغطية احتياجات مختلفة تبعاً لنوع المحصول

فيما لا تعتقد ندى عرفات أنّ الاتجاه للتوسّع في زراعة القمح هو عبء على الفلاحين، لأنّ الدولة لا تلزمهم بزراعته، ترى أنّ العبء يكمن في غياب سياسة زراعية كُفؤه لدعم الفلاحين، الذين يعانون بالفعل، جراء غياب دور الجمعيات الزراعية في التواصل معهم وإرشادهم، كما يضطرّون لدفع تكاليف باهظة لزراعة المحاصيل، وفي حال حدوث أي خسارة للمحصول لا يجدون من يعوّض عليهم. تُقرّ بأهمية أن يشمل الدعم كافة مراحل (الدورة الزراعية) وليس من وقت حصد المحصول وتوريده (نهاية الدورة)، خصوصاً أنّ الفلاحين زرعوا كالمعتاد هذا العام من دون دعم أو توجيه يتناسب مع هدف التوسّع في امتلاك كمية من القمح لتغطية الاحتياجات. كان تحديد كمية التوريد بـ 12 أردباً للفدان يستلزم دعماً كاملاً من البداية، ليمكّن الفلاحين من تحقيق هذا الإنتاج، إذ أنّ هذه الكمية ليست محلّ اتفاق رسمي وشعبي. فمن ناحية الفلاحين والمختصّين بالشأن الزراعي لا يعتبر 12 أردباً للفدان رقماً دقيقاً لأنّ إنتاجية الفدان متغيّرة حسب كفاءة الأرض المزروعة وقدرة وجودة إنتاجيتها.

يعبّر المزارع عادل عن نتيجة عكسية ستحدثها قرارات الحكومة بخصوص زراعة القمح وإجبار المزارعين على توريده من دون تغيير في السياسة الزراعية “ترك الغلاء المشتد في كل شيء على الفلاح، ثم مطالبته بتوريد قمحه، والتضييق عليه لتحمّل عبء الوضع الحالي”، وهو ما قد يدفعه إلى زراعة البرسيم مثلاً كغذاء للمواشي العام المقبل، حيث أنّ “علف الردة (الناتجة عن طحن قشور القمح) بستة جنيهات، والقمح نفسه الذي تشتريه الحكومة من الفلاح كلّه بستة جنيهات لكيلوغرام القمح الخام”.

رغم تقليص الحكومة الدعم للمزارعين، إلّا أنّ مواصلة الحديث عن سعي للاكتفاء الذاتي هو جزء من خطاب سياسي ودعاية، وإنْ لم تتّسق مع الممارسات الفعلية، منذ عصر مبارك، والذي استمر بالتصريح عن الاكتفاء، وعجّت الصحف آنذاك بخطابه، في ظلّ أزمة غذاء عالمية في 2008. صاحبه سعي محموم من السلطات نحو صندوق النقد، وهكذا يتكرّر السيناريو ذاته حالياً.

أحد الفلاحين يسقي الماشية من طرمبة ماء يدوية كانت منتشرة في قرى الريف والصعيد، ولا يزال بعضها موجود إلى الآن

كيف تغطّي الحكومة التكلفة المالية للأزمة؟

يحتاج الإصلاح الزراعي إلى سياسة زراعية متكاملة ومحدّدة في خطط طويلة الأجل قد يستغرق جني ثمارها مدى زمنياً غير قصير، بينما يغلب على الأداء الرسمي وتصريحاته التركيز على النتائج السريعة والخطط العاجلة. فهل هذا هو ما يحول دون دعم الفلاحين والسير نحو التوسّع في زراعة المحاصيل الاستراتيجية وعلى رأسها القمح، بما يحقق الأمن الغذائي المفترض، ويستدعي تراجع الاهتمام الرسمي المنصبّ على الزراعة التصديرية بالعقود الماضية؟

في تقدير صقر، لا يتعلّق الأمر بهذه المفاضلة، لأنّ الخط الرسمي “للإصلاح” الاقتصادي الحالي (منذ أن بدأ في 2016)، طويل هو الآخر، وتزداد مدته بمرور الوقت. وبالتالي فاختيار هذا النموذج الاقتصادي المنعكس على الزراعة والغذاء وخلافه هو اختيار أيديولوجي تعتقد الدولة أنّه يتمتّع بجدارة اقتصادية دون غيره، خصوصاً مع اللجوء المتزايد نحو صندوق النقد الدولي، والذي يتطلب الاعتماد عليه سياسات اقتصادية تدعم التصدير وكبار المستثمرين، لا الزراعة الفلاحية وصغار المزارعين. لا يمنع ذلك من أن تتبنّى الدولة خطاباً يحاول إشعار الناس بالسرعة. وعلى النحو نفسه تدار أزمة القمح الاقتصادية بمنطق الطوارئ. وتميل معه لإبداء قدر من عجلة ونجاعة غير واقعية.

في فبراير الماضي، صرح وزير المالية أنّ ارتفاع أسعار القمح العالمية سيكلّف الدولة نحو 12 مليار جنيه إضافية خلال العام المالي الجاري، وأنّ ارتفاع سعر توريد القمح المحلي، سيزيد هذا الرقم إلى 47 مليار جنيه. وفي مارس، أوضح وزير التموين الفارق بين التكلفة المنصوص عليها في موازنة العام الحالي، مقارنة بالتكلفة المفروضة نتيجة المستجدات الاقتصادية، فحسبه:  “افترضت الوزارة متوسط سعر 255 دولاراً للطنّ، لكن تكلفة الطنّ وصلت إلى 350 دولاراً، والآن تسجّل فاتورة شراء القمح نحو 402.5 مليار دولار، منها نحو أكثر من مليار دولار للقمح المحلي، ومن 1.2 إلى 1.4 مليار دولار للقمح المستورد”.

تتوقع ندى عرفات سيناريوهات تغطية العجز ما بين “طباعة الحكومة نقوداً جديدة إن أرادوا، أو الحصول على أموال من أي مصدر قروض أو غيره، للتمكّن من توفير غطاء مالي أي كان مصدره، والعمل على الاقتطاع من قطاع لصالح آخر، وإن كان هذا سيؤدي إلى تضخم، وغلاء ومشاكل اقتصادية إلخ، لكن هذا الأداء المعتاد للتعامل مع مشكلة العجز. سيتحمل المواطنين وطأة العجز وخيارات مواجهته في صورة غلاء عام بالأسعار كما يحدث غالباً، كي لا تجازف وتسمح بالنقص في القمح. ما سيؤدّي إلى غلاء العديد من السلع الأساسية وليس فقط القمح.

في النهاية، فإنّ النتيجة العائدة على المواطنين من كل هذا هي “إنّ ميحصلش كارثة، بغياب القمح من المخابز التابعة للحكومة” على حد تعبير ندى عرفات. كما يعدّ عدم غلاء الخبز المدعّم حتى الآن نتيجة أخرى، وفيما بعد سيكون توافر الخبز في حد ذاته أقصى استفادة للمواطنين، حتى ولو بسعر أعلى. 

وبحسب مصادر معلومات ندى عرفات “ثمّة زيادة مؤجّلة بسعر الخبز المدعم آتي وقد تجنّبتها الحكومات المتعاقبة، ولجأت بدلاً عنها للتغيير في وزنه، لكن مع وصوله إلى 90 غراماً وأحياناً أقلّ، لم يعد يسمح بمزيد من الانتقاص”. تُفضّل الحكومة تأجيل زيادة سعر الخبز الآن، بسبب تبعات الوضع الاقتصادي الحالي في مصر تحديداً بعدما فقدت العملة المحلية 14% من قيمته في مارس الماضي، لكن ما أن تمر فترة، حتى تعلن الحكومة عن زيادة سعر الخبز المدعم وهذه ستكون الزيادة الأولى بالسعر منذ التسعينيات. 

بالإضافة إلى التحدّي الاقتصادي، هناك عامل آخر يزيد من صعوبة التوسّع بزراعة القمح والسير نحو الاكتفاء، وهو تغيّرات المناخ. يتضاعف الخطر بغياب خطط مواجهته على وضع باقي المحاصيل التي سيزداد إهمالها في حال بقي القمح هو المتصدر للاهتمام.

التغير المناخي: تهديد مُضاعف يضعف المواجهة

بيئياً، يؤدّي تغيّر المناخ إلى تقليص مساحات الأراضي الزراعية، بالإضافة للتأثير على المحاصيل إما بعدم القدرة على زراعة بعضها، أو تلف وسوء جودة بعضها الآخر ومنها القمح. يشكو المزارعون، ومنهم عادل من التغيّر حيث يؤكّد أنّ حالياً فدان الأرض الواحد لا يطرح 20 أو 25 أردباً كما تتوقّع الحكومة، بل أنّ التغييرات المناخية الحالية وتقلّبات الجو بين حالات مختلفة برد وحر وهواء ورياح ومطر وجفاف تؤدي لهدر كبير في المحصول مقارنة بما سبق. 

في نوفمبر 2021، أعلنت الحكومة المصرية عن إطلاق استراتيجية وطنية لتغير المناخ. صاغت فيها مفاهيماً عامة، وتوجهات غير مقرونة بخطط واضحة الأهداف ومحددة بخط زمني معلن. يعقّب صقر: “تحتوي مبادئ عامة فقط، لكن في قطاع الزراعة لا يوجد سياسة واضحة”. يتابع “على حد علمي، هناك عدد صغير من المشاريع البيئية بدعم من المؤسسات الدولية وتمويلها الخارجي ذات الصلة”. لكن ليس هناك رؤية واضحة حول التعاطي مع التغير المناخي بزيادة أو نقص التركيب المحصولي بناء على المعطيات البيئية الأخيرة التي باتت معلومة ومنشورة في تقارير اللجنة الدولية لتغير المناخ، مما يدفع اتجاه بعض المزارعين لمحاصيل ثانية ويلفت النظر إلى أهمية أخرى كالذرة الرفيعة لقدرتها على مقاومة التغييرات. يحتمل تضمين هذه المشاريع على بعض الدعم المرتبط بتغير المناخ، إلّا أنّه دعماً محدوداً في عدده ومحدد جغرافيا في نطاق تغطيته وتركيزه على قرية بعينها أو منطقة مهددة. 

تُغيب المعلومات الخاصة بمشروعات الحكومة وخطواتها ذات الصلة (إن وجدت) أي رؤية لتفاصيل وعودها، كما تقول. وتجدر الإشارة إلى أنّه حتى الآن لم يتمّ الإعلان عن تفاصيل الاستراتيجية الوطنية للتغيرات المناخية 2050 رغم مواصلة الحديث عن التوسّع الموعود، والذي يتوقع تأثيره على زراعة وإنتاج محاصيل متعدّدة. كما يصعب تحقيق هدف زيادة مخزون القمح المحلي لدى الحكومة، ويحول دون تأمين حاجتنا الغذائية منه.

يعكس لجوء الحكومة للاستيراد وإتمام صفقات لشراء قمح مستورد مؤخراً، إدراكها إلى أن “تجميع القمح المحلي بموجب قرار التوريد لن يجدي ولن يحقق الهدف، وأنه لا بديل عن الاستيراد الآن” بحسب ندى عرفات. يدعم من صحة تحليلات ندي وصقر التوجه الفعلي إلى عدد من الخيارات الأخرى لتغطية الاحتياج من القمح عن طريق اعتماد تكنولوجيا جديدة، واستصلاح أراضي للزراعة بالخارج، واستيراده من دول أخرى بما فيها الهند، التي سبق ورفضت قمحها بسبب جودته. 


[1] الإردب هو وحدة قياس وزن القمح، ويساوي حوالي 150 كيلوغرام. أما إنتاجية الفدان الواحد من القمح فعدد إردبه متغيّر حسب كفاءة الأرض وجودة إنتاجية المحصول، في المتوسط يمكن لفدان القمح إنتاج 18 أردباً تقريباً.

[2] قانون رقم 95 لسنة 1954،. يعاقب كل مخالف لقرارات الدولة التي تحددها وزارة التموين بخصوص سلعة من السلع المدعومة حكومياً، بالحبس من سنة إلى 5 سنوات، ويغرّم من 300 إلى 1000 جنيه، وتضاعف العقوبة في حال تكرار المخالفة.

[3] الجمعية الزراعية هي جماعة تضمّ المشتغلين بالزراعة وذوي الصلة والمصالح المرتبطة بهم. تهدف إلى دعم القطاع الزراعي والفلاحين والتنسيق بينهم من جهة وبين الحكومة في إطار خطط الدولة الرسمية. ينظّم عملها وتأسيسها قانون رقم 51 لسنة 1969.

يشمل نشاط الجمعية جميع مجالات الإنتاج الزراعي ومراحله المتعاقبة والخدمات الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلّبها حاجات أعضائها ومنطقة عملها وبصفة خاصة ما يأتي: (1) الإسهام في تنفيذ خطط الدولة في تنظيم زراعة الأرض وتجميع الاستغلال الزراعي والدورات الزراعية بالتعاون مع أجهزة الدولة المختصة. (2) تنظيم حصول الأعضاء على القروض العينية والنقدية اللازمة لزراعة أراضيهم واستغلالها. (3) توفير الآلات الزراعية الحديثة وتنظيم انتفاع أعضاء الجمعية بها. (4) الإسهام في دعم الصناعات الريفية والبيئية بالتعاون مع الأجهزة العامة المختصة. (5) إدارة واستغلال أراضيها وكذلك الأراضي التي يعهد إليها بها الأشخاص الاعتبارية أو الأفراد. (6) المساهمة في أداء الخدمات العامة لأعضائها بالتعاون مع الأجهزة المختصة. (7) مباشرة الاختصاصات الأخرى المخولة لها طبقا للقوانين واللوائح.

[4] كيف أحكمت مصر قبضتها على ملف القمح رغم الأزمة؟، هاجر زين العابدين، الوفد، مارس 2022.

[5]  أجري الحديث معها في تاريخ 20 أبريل 2022.

[6]  بيع محصول القمح في صورته الأولى، يعني عدم حصول الفلاحين على أي من: قشور ومخلفات القمح التي تتحوّل فيما بعد إلى أعلاف للمواشي، وكذلك حبوب القمح نفسها التي تتحوّل إلى دقيق بعد طحنها. تحدّد الحكومة سعر توريد المحصول، بحيث تتراوح تكلفة كيلوغرام القمح ما بين 6 و8 جنيهات، في حين يضطرّ الفلاح إلى شراء الأعلاف والقمح بسعر أعلى بعد فصله وتجهيزه للاستهلاك، ما يؤدّي إلى زيادة الأسعار، لذا يكون الاحتفاظ بالمحصول الخام وإعادة استخدامه في صور أخرى لاحقاً، أكثر جدوى وتوفيراً بالنسبة للمزارعين.

[7] أجري الحديث معه في تاريخ 20 أبريل 2022.

[8] أجري الحديث معه بتاريخ 23 أبريل 2022.

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، سياسات عامة ، تحقيقات ، سلطات إدارية ، مؤسسات عامة ، مصر ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني