في تطوّر خطير يندرج ضمن الحملة التي تشنها قوى السلطة على الفئات المهمشة في لبنان لا سيما المثليين، كتب وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال محمد المرتضى تغريدة اعتبر بموجبها “أن المادتين 9 و10 من الدستور تفرضان على الدولة تأدية فروض الإجلال لله تعالى واحترام التعاليم الدينية ومنع أي تعليم يناقض القيم الأخلاقية المنبثقة عنها”.
وفي حالة وضعنا جانبا الخلفية المشبوهة التي تقف وراء هذه الحملة على المثليين في ظل الانهيار الشامل الذي يعيشه لبنان، لا بد من تفنيد مزاعم وزير الثقافة نظرا لتأويله النص الدستوري بهدف الحدّ من الحريات العامة والفردية والانقضاض على القليل المتبقي من حقوق اللبنانيين.
تنص المادة التاسعة من الدستور على التالي: “حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على ألا يكون في ذلك إخلال في النظام العام، وهي تضمن أيضا للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية” بينما تنص المادة العاشرة على حرية التعليم وحقّ الطوائف بإنشاء مدارسها الخاصة.
ولا شكّ أن المادة التاسعة تحديدا جرى استخدامها مكثفا من أجل تقديم تفسيرات محافظة للدستور بغية منع أيّ تطور للمجتمع اللبناني وتأبيد الحالة القائمة بحجة احترام الدستور. إذ أن إقرار قانون الأحوال الشخصية المدنية يتم رفضه بذريعة مخالفته لهذه المادة الدستورية بحيث يصبح الزواج في لبنان شأنا يخضع بالكامل لصلاحيات الطوائف التاريخية المعترف بها في القرار 60 ل.ر. الصادر عن المفوض السامي الفرنسي سنة 1936. ووفق هذا المنطق، لا يمكن إقرار الأحوال الشخصية المدنية من دون تعديل دستوري يجيزها.
وهذا ما ردت عليه المفكرة القانونية في مقال أظهرت فيه أن اعتراف الدستور بالأحوال الشخصية للطوائف لا يعني إطلاقا رفض وجود أحوال شخصية للمواطنين الذين لا يريدون الانتماء إلى هذه الطوائف التاريخية وهو ما تعترف فيه صراحة المادة 10 من القرار 60 ل.ر. التي تقبل ليس فقط بوجود لبنانيين لا ينتمون إلى أي طائفة بل أيضا بحق اللبنانيين بتأسيس طائفة خاصّة بهم تعكس معتقداتهم ونظرتهم إلى الوجود تدخل ضمن ما يعرف بطوائف الحق العام، على أن يخضع اللبنانيون الذين لا طائفة لهم أو ينتمون إلى طائفة الحق العام في أحوالهم الشخصية إلى القانون المدني.
لكن وزير الثقافة قرر التوسع أيضا في تفسير المادة التاسعة منصّبا نفسه فقيها دستوريا ورقيبا على أخلاق اللبنانيين، إذ ذهب حدّ الاعتبار أنّ الدستور يفرض على الدولة احترام التعاليم الدينية ومن بينها تجريم “الشذوذ الجنسي المخالف لنظام الخالق”. فبعد رفض الزواج المدني، ها هي المادة التاسعة من الدستور تستخدم مجدّدا لكن بشكل أخطر هذه المرة كونها تجعل الدولة اللبنانية برمتها خاضعة للتعاليم الدينية، إذ قد يتخيل أن القانون الوضعي بات الوسيلة التي يتوجب من خلالها إخضاع كل اللبنانيين لعقائد ماورائية محددة.
يصطدم تفسير وزير الثقافة هذا بالغاية الحقيقية التي أرادها الدستور من المادة التاسعة. ففي جلسة 20 أيار 1926 للمجلس التمثيلي المخصصة لإقرار هذه المادة، نجد أن مقرّر اللجنة التي تولّت صياغة مبادئ الدستور شبل دمّوس قد أجاب على نقطةٍ مهمّة تتعلّق بطبيعة الدولة اللبنانية إذ نقرأ في المحضر النقاش التالي:
“الخازن: ما القصد من القول وهي تضمن أيضًا للأهلين نظام الأحوال الشخصية إلخ؟…
دمّوس: القصد من هذه تأييد ما جاء في المادة السادسة من صك الانتداب. والغرض من ذلك أن الطوائف اعتادت منذ 600 سنة أن تمارس نظام أحوالها الشخصية، لذلك كفلت ذلك عصبة الأمم المتّحدة وكفلها هذا الدستور.
منذر: والدولة بتأديتها فروض الإجلال إلخ ما معناها؟
دمّوس: يعني البلاد مجموعة أديان وكلّها أقلية، والدولة لا تنتمي إلى أحدها ولكنها تحترم الجميع”.
وهكذا يظهر جليا أن الهدف من اعتراف الدستور بالأحوال الشخصية هو تأمين المساواة بين الطوائف التاريخية وتمكينها من ممارسة شعائرها الدينية بحرية كون الدولة هي الوحيدة التي تستطيع أن تنظّم الحريات العامة بشكل محايد من دون تفضيل أتباع طائفة على طائفة أخرى.
فالدستور يعلن المبدأ العام في مستهل المادة التاسعة التي تقول بأن “حرية الاعتقاد مطلقة”، وهذه صيغة لا نجد مثيلا لها في سائر مواد الدستور لناحية التشديد على الطبيعة المطلقة والكاملة لهذه الحرية الجوهرية، أي حرية الاعتقاد وما يتبع ذلك من حرية عدم الاعتقاد بأي دين أو عقيدة كانت.
وقد أكّد المجلس الدستوري في قراره رقم 1 تاريخ 23/11/1999 على هذا التفسير للمادة 9 من الدستور معلنًا أنها “تنطوي على موقف محايد للدولة تجاه الأديان”، فالدولة في لبنان لا تتبنى أي دين رسمي لها، ولا تهدف إلى فرض الأخلاق الدينية على المواطنين كونها دولة مدنية، ومصدر شرعيّتها هو إرادة الشعب اللبناني صاحب السيادة وفقا للفقرة “د” من مقدمة الدستور.
وهكذا يصبح جليا أن موقف وزير الثقافة يخالف كليا الغاية التي أرادها الدستور، وهو في الحقيقة يصدر عن جهل كامل بطبيعة الدولة اللبنانية وتطوّرها القانوني منذ الانتداب الفرنسي وحتى اليوم. فالاعتراف بالأحوال الشخصية الطائفية هو تأكيد على طبيعة الدولة المدنية وسموها في علاقاتها مع الطوائف التاريخية، إذ ان الوجود القانوني لهذه الأخيرة يتوقف بالكامل على اعتراف الدولة بها وإصدار تشريعات وضعية تجيز لها ممارسة صلاحياتها حصرا في مجال الأحوال الشخصية، على ألا يؤدي ذلك إلى المس بالانتظام العام والدستور وحريات اللبنانيين وحقوقهم.
وفي النهاية، لا بد من دحض حجة وزير الثقافة صاحب الطموح اللاهوتي بأن الدولة ملزمة بتأدية فروض الإجلال لله تعالى وتبيان أن هذا النص الدستوري في الحقيقة لا معنى له من الناحية القانونية. فإذا ما وضعنا جانبا أن النص الفرنسي الأصلي لهذه المادة يشير ليس إلى الله تعالى بل إلى “العلي” (Très-Haut)، وهو مفهوم يعكس التوجهات الماسونية التي كانت سائدة حينها عند الفرنسيين الذين تولوا صياغة هذا النص بين سنتي 1925-1926، نلاحظ أن تفسير وزير الثقافة هو بالغ الخطورة كون الطوائف اللبنانية الموزعة على الديانات المسيحية واليهودية والإسلامية لا تملك فهما واحدا لله، وهي تعتنق أصلا عقائد متناقضة لا يمكن التوفيق بينها بأي شكل من الأشكال.
لذلك، ليست وظيفة الدولة اللبنانية تأمين التوافق العقائدي بين الطوائف، ولا هي تستطيع تبني التعاليم الأخلاقية لهذه الأديان إذ يستحيل تطبيقها في الآن نفسه نظرا لتعارضها، ما يعني أن الدولة لا تقبل بتطبيق منها إلا ما هو ضروري لاحترام استقلالية الطوائف، وما يتيح لها في الوقت عينه الحفاظ على دورها الحيادي لحماية الحريات العامة والانتظام العام.
خلاصة القول، إن موقف وزير الثقافة هو اعتداء مكتمل الأوصاف على الطبيعة القانونية للدولة اللبنانية وتحريف للدستور يصدر عن رغبة قمعية وإرادة سياسية تريد تحريض اللبنانيين على مواطنين لا ذنب لهم سوى دفاعهم عن حرياتهم الشخصية. فكما كان موقف الوزير محمد المرتضى في قضية التحقيق بانفجار المرفأ يصب في خانة عرقلة العدالة وضرب منطق الدولة والمؤسسات، ها هو اليوم يستكمل حملته الشعواء ليس على المثليين، بل على حقوق وحريات جميع اللبنانيين، وعلى ما تبقى من الدولة اللبنانية. بالفعل لقد أعطى الوزير محمد المرتضى للثقافة بعدا لم نعهدْه من قبل، إنها ثقافة التحريض والترويج لخطاب الكراهية وضرب كل مكتسبات المجتمع عبر التستر وراء حجج دستورية واهية.