وراء مزمار سعيّد تسير كلّ المتناقضات


2021-08-13    |   

وراء مزمار سعيّد تسير كلّ المتناقضات
صورة من الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على فايسبوك

أثار إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيّد، مساء 25 جويلية، حالة الاستثناء، واتخاذه جملة من القرارات أبرزها تعليق أشغال البرلمان، موجة تهليل شعبي. ورغم أنّ هذا التهليل، مهما كان حجمه، لا يصحّح خرق الدستور، ولا يلغي خطر تمركز السلطة في شخص واحد أو عودة الاستبداد، ولا يبرّر المسّ من الحريّات، فإنّ ذلك لا يعني عدم التوقّف عنده ومحاولة فهمه. انخراط لم يشمل فقط مختلف الجهات، حتى تلك المعروفة بكونها معاقل لحركة النهضة، وكلّ الطبقات الاجتماعية، بلْ كان أيضا عابرا للإيديولوجيات والتموقعات السياسية. فقد استطاعتْ موجة التهليل، ولو مؤقّتا، ردم خطوط الانقسام المعهودة، سواء بين المحافظين والتقدميين، أو بين الثوريين ومن يحنّ إلى الاستبداد. إلا أن جمع هذه التناقضات لم يكن ممكنا لولا شخصيّة سعيّد الغامضة، والصورة التي نجح في تسويقها لذاته.

بين من يحنّ إلى الاستبداد، ومن يناضل من أجل استكمال الثورة

ليس استنقاصا من قيمة الثورة التونسية، ولا تشكيكا فيها، الإقرارُ بأنّ المطلب الديمقراطي لم يكن يوما محلّ إجماع شعبي. إذ لا يزال مثال ”المستبدّ العادل“ حاضرا في المخيال الاجتماعي. وقد ظلت نسبة غير قليلة من التونسيين تفضّل الحكم الفردي، بما يعنيه لها من نجاعة واستقرار، حتى إذا كان على حساب الديمقراطية. كانت هذه النسبة تتراوح سلبا أو إيجابا من سنة إلى أخرى، ومن سبر آراء إلى آخر، حسب تطوّر الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية. ولا شكّ أن استفحال الأزمة في الأشهر الأخيرة، وفشل حكومة هشام المشيشي الذريع في التصدي للوضعية الوبائية، والصورة التي ارتسمت عن البرلمان كفضاء للبيع والشراء والعنف والتهريج، واستغلال الحصانة للإفلات تماما من أيّ محاسبة، كلّها عوامل حجبتْ خطر ”الحكم الفردي“ لدى فئات واسعة من التونسيين.

ولئن كان استبشار هذه الجماهير بقرارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد، في ظلّ منسوب الثقة الذي يحظى به، مفهوما، فإنّ ما يلفت الانتباه هو أنّ الموجة شملت نسبة هامّة من شباب الثورة. لا شكّ أن هؤلاء ليسوا أبدا بمعزل عن السياق العامّ المتأزّم، لكنّ هذا التفسير ليس كافيا. أبرز الأسباب، حسب رأينا، يكمن في موقف معظم شباب الثورة من الانتقال الديمقراطي. إذ أنّ هذا الأخير لا يشكّل في نظرهم استجابة لجزء من مطالب الثورة، بقدر ما يعتبرونه سرقة لها، وحيلة لإطفاء شعلتها والانحراف بها عن مسارها. ولعلّ ما يعمّق هذا الشعور، هو إطناب رموز حركة النهضة وحليفها ائتلاف الكرامة في استعمال معجم الثورة للدفاع عن خيارات وسياسات مناقضة لها، محركها الأوحد حسابات الربح والخسارة الحزبيّة. من هنا تفهم عبارة ”انقلاب على الانقلاب“، التي انتشرت في الساعات والأيّام الأولى بعد إعلان رئيس الجمهوريّة، كردّ على الذين يعتبرون ما حصل انقلابا. إذ أنّ الانتقال الديمقراطي، وما أفضى إليه، تحوّل في أعين الكثيرين، خاصّة من شباب الثورة، إلى انقلاب على الثورة.

الموقف السلبيّ من مسار الانتقال الديمقراطي منذ 2011 نجده كذلك لدى… قيس سعيّد. فرغم أنّه لم تعرف له مواقف معارضة للنظام السابق قبل 2011، انخرط مدرّس القانون الدستوري سريعا في الحراك الثوري، فكان من بين المنادين بخيار إجراء انتخابات تأسيسيّة قصد صياغة دستور جديد. لكنّه وقف ضدّ معظم الخيارات التي اعتمدها المجلس الوطني التأسيسي. وقد مثّلت تلك السنوات فرصة لتشكيل برنامجه البديل الذي لا يزال إلى الآن متشبثا به، ويرى فيه الاستجابة الوحيدة الممكنة للثورة، أو ”الانفجار الثوري غير المسبوق“ على حدّ تعبيره. وقد كان سعيّد قريبا من المجموعات الشبابية منذ 2011، مما جعل عدداً من شباب الثورة ينخرط في ”حملته التفسيرية“ التي أوصلته إلى رئاسة الجمهورية[1]. تقرُّب سعيّد، على عكس جلّ الطبقة السياسية، من بعض الحراكات كتلك المطالبة بحقوق شهداء وجرحى الثورة، جعل تبنّيه للمعجم الثوري يتمتّع لديهم بنوع من المصداقيّة. فمثّلت لحظة 25 جويلية، بالنسبة إليهم، فرصة لإعادة قطار الثورة إلى سكّته، أكثر مما هي خطرٌ للعودة إلى الاستبداد.

المحافظون و”الحداثيون” جنبا إلى جنب: هل أنهى سعيّد الانقسام الهووي؟

ليس غريبا أن يكون قيس سعيّد محلّ إعجاب الفئات المحافظة. هو نفسه شخص محافظ، ولا يتردّد أبدا في استعراض ذلك. لا يتعلّق الأمر فقط بمواقفه السلبيّة من بعض القضايا المجتمعيّة كالمساواة في الإرث والحريّات الفرديّة، وإنّما أيضا باستعماله المتكرّر للمعجم الديني في خطابه، وحرصه على أداء الصلاة في المساجد وعلى تصوير ذلك. بل أنّ منافَسَته لحركة النهضة في استغلال المشاعر الدينيّة للناس قد تكون ساهمتْ، بالإضافة طبعا إلى سياسات حركة النهضة نفسها، في إفقادها القدرة على تعبئة شارعها في الساعات والأيّام التي تلت إعلان 25 جويلية. سعيّد لم يكتفِ في صراعه مع النهضة بالمعجم الديني، وإنّما كانت الحجّة الأخلاقيّة حاضرة بقوّة، ليجسّد من خلالها هو نفسه مُثُل الصّدق والأمانة والنزاهة، في حين يُرمى أعداؤه بالكذب والنفاق والفساد. حجّة لم تعد النهضة قادرة على استعمالها، بعدما أمضتْ قرابة عقد في الحكم بكل ما حمله من تنكّر للوعود الانتخابية وإغراق في البراغماتية إلى حدّ الانتهازيّة.

لكنّ صراع سعيّد مع حركة النهضة جذب إليه أنصاراً جدداً, كثير منهم كان قد صوّت لمنافسه في الدور الثاني نبيل القروي خشية أن ”تسيطر النهضة على قصور باردو والقصبة وقرطاج إذا ما فاز سعيّد“. هؤلاء، تكاد تكون حركة النهضة بوصلتهم الوحيدة، إذ يصطفّون في كلّ استحقاق وراء من يُظهر العداء لها، ويبدو لهم قادرا على الفوز عليها. لا يهمّ إن كان هذا البديل هو نفسه خيارا محافظا. إذ أنّ التقدّمية تقاس لديهم فقط بدرجة معاداة تنظيمات الإسلام السياسي. دعم هؤلاء لسعيّد مشروط بشيء واحد، وهو عدم رجوع حركة النهضة للسلطة، وربّما إطلاق مسار المحاسبة ضدّ قياداتها، خاصّة في ظلّ سياسة المزايدة التي تنتهجها زعيمة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي خشية هروب أنصارها إلى البطل الجديد في الحرب ضدّ النهضة.

ربّما يكون البيان الموقع عن عدد من المثقفين كالأساتذة ألفة يوسف ونائلة السليني ويوسف الصدّيق، تعبيرا بالغا عن مساندة النخبة الحداثية لقرارات سعيّد. إذ لم يكتفِ البيان بدعم إعلان 25 جويلية، وإنّما تضمّن أيضا رفضَ أيّ ” حوار مع المارقين عن القانون“ و”أيّ تسوية مع الفاسدين أو أيّ عودة لهم إلى صدارة المشهد السّياسيّ“، مطالبا الدول الأجنبية ”بعدم محاولة فرض مواصلة هيمنة الإسلام السياسي على المجتمع التونسي بعد أن قاسى منه الويلات طيلة العشرية الماضية“. من جهته، ذهب منتدى خير الدين وهو مركز أبحاث يجمع مثقفين وجامعيين وخبراء يصنّفون ضمن النخبة الحداثيّة، إلى حدّ اعتبار أنّ 25 جويلية 2021 سيحفره التاريخ، أسوة بيومي 20 مارس 1956 و14 جانفي 2011، كتاريخ ”التحرّر الثالث“ للشعب التونسي.

”ليس لدينا ما نخسر، سوى أغلال الفساد والنهضة“

سواء كانت 25 جويلية ”لحظة تحرّر“ أو، على العكس، لحظة ارتداد عن الديمقراطية، فإن المؤكّد هو أنّها شكّلت في عيون التونسيين تغييرا سياسيا كبيرا. وكما كان الأمر في 31 جويلية 1954، حين وعد منديس فرانس تونس بالاستقلال الداخلي، وفي 14 جانفي 2011 حين سقط بن علي، انخرط جزء كبير من الناس الذين لم يعرف لهم نضال سياسيّ في الموجة الجديدة، فأصبحوا يزايدون على الجميع. فالحملة العنيفة التي استهدفتْ أساتذة وحقوقيّين وسياسيّين، اعتبروا ما حصل انقلابا أو تحفّظوا عن مساندته، شاركت فيها جموع لم يعرف لها أيّ نضال سياسيّ، خاصّة بين 2011 و2013 حين كانت حركة النهضة في أوج قوّتها، وكان من يتّهمون اليوم بالدفاع عن النهضة، في الصفوف الأمامية للتصدي لها.

يبقى أنّه، بقطع النظر عن ميل جزء من الجماهير إلى منطق المزايدة والتخوين، لا شكّ أنّ السنوات الفارطة حملتْ معها تغييرا كبيرا في مزاج الشارع التونسي في علاقة بالحركة الإسلاميّة. إذ لم تعدْ المعارضة الجذرية للنهضة تقتصر على النخب الواعية بخطر مشروعها الإيديولوجي، أو على الأجيال التي حسمتْ موقفها منها منذ عقود حين لجأت إلى العنف. لا يعلّق الأمر بتراجع شعبيّتها وحسب، حيث فقدت النهضة قرابة ثلثي أصواتها بين 2011 و2019، وإنّما ببروز مزاج شعبي قويّ يحمّلها مسؤولية الفشل في إدارة شؤون البلاد طيلة السنوات الفارطة، ولا يرى أفقا للإصلاح بوجودها في الحكم. لقد أصبحت الديمقراطية، في عيون عدد كبير من التونسيين، مرادفا لحكم النهضة. هذا الخلط ساد في الفترة الأخيرة، بفعل عوامل عديدة، ليس أقلّها تولّي راشد الغنوشي رئاسة البرلمان، ولكنّه أيضا نتيجة التقاء موضوعي في خطابات أهمّ الفاعلين السياسيّين، حيث اعتقدتْ حركة النهضة أنّها تحصّن نفسها باحتكار الدفاع عن الديمقراطية، في حين سعى الحزب الدستوري الحرّ إلى تحويل سخط الناس على النهضة إلى ندم على الثورة وكلّ ما نتج عنها، ليرسّخ رئيس الجمهورية، ولو تلميحا، ذات الانطباع، باعتباره الانتقال الديمقراطي ”انتقالا من الحزب الواحد إلى المجموعة الفاسدة الواحدة“.

إنّ أكثر ما تكرّر في خطاب المدافعين عن تطبيق رئيس الجمهورية حالة الاستثناء، هو أنّ الأوضاع لا يمكن أن تكون أسوأ مما كانت عليه، وبالتالي، ليس لدينا ما نخسر. موجة الاستبشار بقرارات رئيس الجمهورية، هي قبل كلّ شيء نتيجة طبيعية لحجم التشائم الذي كان سائدا، واليأس من إمكانية الإصلاح. لقد أصبحت الديمقراطية تتلخّص في مشهد موت المئات يوميّا جرّاء وباء كورونا، وسط لا مبالاة رئيس الحكومة الذي يصوّر بأنه يصطاف مع بعض وزرائه في أحد نزل مدينة الحمامات، وتواطؤ حزام سياسي أخضع كلّ شيء لهاجس التموقع والمصالح الماليّة الآنيّة، وقضاء عاجز عن محاسبة من في السلطة، ومتسلّط أمام أبناء الطبقات الشعبيّة.

فإذا لم تجد ”الديمقراطيّة“ مدافعين كثراً عنها، فذلك يعود أيضا إلى أنّها، في نظر الكثيرين، لم تكن كذلك.

  1. خليل عباس، « الديمقراطية الآن. قراءة في ظاهرة قيس سعيّد »، دار كلمات عابرة، 2019.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، أجهزة أمنية ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني