“النضال مستمر بعد رحيلك يا نادين”، هكذا وعدت النساء فقيدتهن نادين جوني، الصبية التي سلبت طرقات الموت حياتها فجر الأحد 6 تشرين الأول 2019، على أوتوستراد الدامور، قبل أن تنهي عامها الثلاثين. قضت نادين سنوات عمرها الأخيرة في النضال عامة، ضدّ الأحكام التي تفرض منح حضانة الأولاد الذكور عند بلوغهم سن سنتين للأب وسبع سنوات للبنت، وهي الأحكام المعمول بها لدى المحكمة الجعفرية. وبهذا القانون، سُلبت نادين حقها بحضانة ابنها كرم (9 سنوات) إثر طلاقها.
لم تكن نادين تنتظر الموت لتشغل الناس والبلاد ومواقع التواصل الاجتماعي فيها، ولتكون خبراً رئيسيا في نشرات الأخبار وعلى صفحات الصحف. حصل ذلك عبر صوتها الذي علا ولم يخفت رفضا للظلم وسعيا إلى الحق. وكانت نادين أسست مع أخريات من أبرزهم زينة ابراهيم، الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية في 2016 وشعارهh #حضانتي_ضد_المحكمة_الجعفرية. وخاضت على مدى سنوات المعارك في سبيل حقوق النساء عامة، وكرست وقتها للقضية من خلال عملها مع منظمة “أبعاد”، ومن خلال تنسيق اعتصامات وحملات. فاستخدمت الشابة الشارع لرفع الصوت ضد الأحكام الشرعية المجحفة بحق النساء، واشتهرت في هذا المجال حتى باتت وسائل الإعلام المحلية والعالمية تقصدها للتطرق إلى بعض قضايا حقوق المرأة وخصوصا سن الحضانة وتزويج القاصرات. فضلا عن ذلك، كانت نادين رأس حربة في حراك النفايات في 2015، وحاضرة دائمة في الساحات التي جمعت عشرات الآلاف من المواطنات.
مساء الإثنين 7/10/2019، وبعدما وارت الناشطات نادين في ثرى بلدتها بنت جبيل، ضربوا لها موعداً أمام المجلس الإسلامي الشرعي، ساحة النضال، التي وقفت فيها لمرات عدة تصرخ بهتافات تندد بقرارات السلطات الدينية المجحفة بحق النساء. وإلى هناك حضرت نساء كثيرات من الحركة النسوية في لبنان والتي كانت نادين من أبرز فعالياتها، ليقولوا لها أن القضية باقية وأن النضال مستمر إلى حين تعديل سن الحضانة. ومن المشاركات، ثمة من خضن معركة الحضانة في المحاكم الدينية، وأخريات سُجنّ بسبب عدم تنفيذ قرار المحكمة الجعفرية بتسليم أطفالهن لوالده، وغالبية من الناشطات في المجال الحقوقي.
صور نادين مع إبنها كرم عُلقت أمام مبنى المجلس، الذي يصادف أنه يعلّق يافطة لمناسبة ذكرى عاشوراء تفيد بـ “عاشوراء صرخة في وجوه الظالمين”، ما استدعى استغراباً من النساء المشاركات، إذ اعتبرن أن بذلك يعدّ تناقضا طالما أن الأحكام المتصلة بالحضانة تشكل ظلما كبيرا بحق النساء. محبو نادين من رفيقاتها وزملائها، والمتأثرات في قضيتها، وقفن لساعة من الوقت أمام مبنى المجلس، أضأن الشموع تكريماً لروحها، وسيطر الصمت لمدة نصف ساعة من الوقت. وطغا الحزن على الموقف، فلم تستطع المقربات إليها من رفيقاتها وزميلاتها من إمساك أنفسهن، أدمعن وبكين وشكين الظلم الذي عانته في حياتها.
ثم تحول المشهد إلى ساحة اعتصام: بدأت النساء يهتفن بأعلى حناجرهن بهتاف سبق وأطلقته نادين خلال الاعتصامات السابقة: “الفساد الفساد جوا جوا العمامات”. كرمزية لطغيان الفساد في المحاكم الدينية حيث تُتخذ الأحكام لصالح الرجال، دون أي اعتبار لموقف المرأة، حتى يُضغط عليها للتنازل عن حقوقها مقابل الطلاق.
لم تقف الهتافات عند هذا الحدّ، بل وجهن هتافاتهن نحو القاضي الجعفري الذي أصدر حكم الحضانة. هتفن عالياً: “كيف قدرتوا تناموا مبارح، بعد هيدا الخبر الجارح”. كما شككن بالمرجعية الشرعية للأحكام: “شو هالشرع وشو هالدين يلي ظلمك يا نادين”، و “نادين ماتت مقهورة بسبب محكمة مأجورة”. واستمرت الهتافات لتطالب بكف يد المحاكم الدينية عن الأحوال الشخصية: “يسقط يسقط حكم المفتي، نحن الشعب ل لازم يفتي”، و”يا مفتي إسمع إسمع حضانة ابني رح ترجع”.
خلال عملها في مجال حقوق المرأة، لم تكل نادين عن القضية، بل استخدمت صفحتها على فايسبوك لنشر الوعي ولدعم النساء، فلا يمر يوم دون أن تنشر بوستات تُظهر حدة الظلم الذي تعانيه، واعتمدت على الفايسبوك لفضح المتحرشين علنياً من دون أي خوف. ويُعبّر عارفوها عن أنها من أكثر الشابات جرأة في هذا المجال، إذ تمكنت من التأثير في الكثير من النساء المعرضات للعنف، ولا سيما أنها سعت لتغيير الصورة النمطية تجاه الحريات والمساواة بين الجنسين.
والآن وقد مرت ثلاث ليالٍ على فراقها، لا يزال محبّوها تحت وقع صدمة رحيلها. ومنشورات ما زالت الأكثر انتشاراً على مواقع التواصل الاجتماعي، تتضمن صورها وبعض من البوستات التي نشرتها مؤخراً. أهمها التي كانت تضعها لتكتب عن إبنها كرم وحرمانها من حضانته بسلطة الدين، أحدها منشور في أول يوم مدرسة لإبنها، وهو أخر منشور كتبته عنه وتقول فيه: “*صورة لابني كرم بأول يوم مدرسة*
إن هذه الصورة غير موجودة، بسبب حرمان الطفل من أمه.
بس أنا بتخايلك متل ما بدي يا ماما، لإنه نحن ما بيحقلنا نشوفكن يا ماما، لأنه نحن منتقاصص لأنه نحن أمهات، يلعن صباحكن، يلعن كل صباح منفيق قلبنا محروق فيه!“
عدت نادين الساعات أسبوعياً ليأتي اليوم، يوم السبت، الذي يُسمح لها برؤية ابنها، فكانت الليلة التي ينام بها بقربها هي حلم بالنسبة لها تتمنى استمراره . فكتبت منذ أسبوع رسالة مؤثرة تقول فيها: “سلامٌ على الليالي المقدسّة التي تغفو فيها بقربي، سلامٌ على نفحة الحب المرسومة على وجهك وملامحك، سلامٌ على النَفس الذي أنتظر سماعه بشوق والذي يملأ أُذني، سلامٌ على رَحمي الذي منه أتيتَ والذي بالحب إليه تعود، هذه ليلتي، هذا قلبي، هذا نَفَسي ووجودي أنا.“
يُشار إلى أن المحكمة الجعفرية التابعة للطائفة الشيعية تُعد مع الكاثوليك والموارنة، من المحاكم الدينية الأكثر إجحافاً بحقوق النساء لناحية سن الحضانة، إذ تسمح للأم المتزوجة من رجل شيعي بحضانة ابنها الذكر حتى السنتين فقط والفتاة حتى السبع سنوات، فقط. وتقترن حق مشاهدة الطفل غالباً بـ 48 ساعة اسبوعياً وأحياناً 24 ساعة. ويبقى احتمال حيازة الأُم على الحضانة رهناً بقبول الوالد إجراء تسوية مع الأم أو بحالات استثنائية نادرة. ويُشار إلى أنه في حالات عدة وثقتها النساء عبر الإعلام، فضحت ممارسات تُمارس ضدهن، إذ ظهر مراراً أن حرمان الأم من أطفالها قد يكون نهائياً بفعل تمنع الوالد عن تنفيذ الحق بالمشاهدة. وتم توثيق حالات أخرى تم سجن الأم في حال لم تنفذ قرار الحضانة وتسليم طفلها بقرار من محكمة التنفيذ. وكثر تعرض النساء للضغط المعنوي للتنازل عن حقوقهن مقابل حصولهن على الطلاق، حتى في حالات تقديم إثباتات تعرضهن للتعنيف.
ويُشار في هذا الصدد، أن حملة #حضانتي_ضد_المحكمة_الجعفرية التي خاضتها نادين وناشطات نسويات تُشبه إلى حد ما تجربة الجمعيات النسائية لدى الطائفتين السنية والدرزية والتي أدت إلى تعديل قوانين الأحوال الشخصية وبالتالي انعكاسه على رفع سن الحضانة للأم. بدأت عام 2011 في الطائفة السنية حيث تم تعديل سن الحضانة للأم من 7 و9 إلى 12 للصبي والفتاة، وذلك بتحفيز من حملة أطلقتها “شبكة حقوق الأسرة” برئاسة المحامية إقبال دوغان. والشبكة لعبت أيضاً دوراً في إقرار قانون جديد لتعديل قانون الأحوال الشخصية لدى الطائفة الدرزية في أيلول 2017، مما أسفر عن رفع سن الحضانة من 7 و9 سنوات إلى 12 و14 سنة تباعا للصبي والفتاة.
مقالات ذات صلة:
الموسوي الذي “تحرر” من نيابته ل”يحمي” ابنته: “من يقول أن المرأة لا تحتاج لقانون يحميها يضب أغراضه ويفل من البلد“
المرأة في موقع القرار الطائفي الدرزي: كيف بدلت مسار حراك تعديل قانون الأحوال الشخصية ونتائجه؟
قوانين الطوائف في مغازل النساء
القانون والقاضي بمواجهة أم وطفلها والعدالة: فاطمة وعلي، قصة جديدة عن إجحاف القوانين الطائفية
3 أسئلة لإقبال دوغان