“
خلال نقاش استضافته “بيروت مدينتي” في ساحة اللعازارية بعنوان “شو العلاقة بين سياسات مصرف لبنان والإفلاس وسعر الأرض وأزمة السكن؟”، اقترح أحد الحاضرين أن تقوم الانتفاضة الشعبية بوضع اليد على الشقق الفارغة في بيروت وذلك من أجل حل مشكلة السكن التي سوف تستفحل أكثر مع تسارع الأزمة الإقتصادية وكي لا تبقى الشقق بدون أن يستفيد منها أحد. فبحسب أرقام البلدية يبلغ عدد الشقق الفارغة في بيروت، 116 ألف شقة، ورغم أنّه يُعتقد أنّ عدداً من مالكيها سجّلها على أنّه شاغرة للتهرّب من الضريبة، إلّا أن عددها يبقى على أي حال كبيراً. ويستند اقتراح المشارك على تجربة حصلت في بلدان تعرّضت لانهيار اقتصادي مثل اسبانيا واليونان اللذين شهدا مبادرات لا تقلّ أهمية، منها منح اللجان الشعبية سلطات مثل منع ترحيل العائلات غير القادرة على دفع أقساط المصارف، وبناء مساكن شعبية للمتضرّرين من الأزمة، والضغط على البلديات لتثبيت أسعار الإيجارات لعدة سنوات.
للوهلة الأولى قد تبدو بعض هذه الإقتراحات “يوتوبية”، إلّا أنها حصلت فعلاً وتحصل في البلدان التي عاشت أزمات إقتصادية حادة حول العالم لأنها فرضت بقوة الإرادة الشعبية ولم يكن هناك مهرب منها كي لا يبقى الناس في الشارع. في الحالة اللبنانية تتضاعف أسباب القيام بمثل هكذا خطوات، عندما نعرف أن وجود هذا العدد الهائل من الشقق الفارغة وظيفته في الأساس المضاربة العقارية التي تقودها المصارف وشركات التطوير العقاري الضخمة، إما من أجل إبقاء الأسعار عند مستويات مرتفعة يعجز عن دفعها حتى أبناء الطبقات الوسطى، أو من أجل بيعها في المستقبل عندما ترتفع الأسعار مجدداً.
لا تدفع هذه الشقق أية ضرائب على وجودها فارغة كما يحصل في أي بلد في العالم (تقدّر “بيروت مدينتي” الضرائب التي يجب أن يدفعها أصحاب الشقق بـ200 مليون دولار سنوياً). كما أنّها أداة لاحتكار السوق والتحكّم به من قبل المصارف والمطوّرين العقاريين: مثلاً مع أنّ هناك أزمة اقتصادية اليوم، ولا وجود لطلب حقيقي على الشقق، تبقى الأسعار كما هي، لا بل يتوقّع البعض أن ترتفع في الفترة المقبلة، ما يعتبر غير منطقي طبعاً، لو كنّا في أية سوق “طبيعية”.
تخبرنا منى فوّاز من “بيروت مدينتي” ومديرة “مختبر المدينة” Urban Lab (التابع لمعهد “عصام فارس” في الجامعة الأميركية) وباحثات أخريات في “المختبر”، كيف تمكّنت المصارف من الهيمنة على “حق السكن” خلال العقود الثلاثة الماضية بمؤازرة سياسات مصرف لبنان، وكيف أوصلتنا هذه الهيمنة إلى الأزمة التي نعيشها اليوم.
تبدأ القصة، وفقاً لفوّاز في منتصف التسعينيّات، عندما قامت الدولة بعدة إجراءات للخروج من الركود العقاري الذي حصل بعد موجة من “إعادة الإعمار” المستمرة منذ انتهاء الحرب. قدّم المصرف المركزي تسهيلات للمصارف من أجل إعطاء قروض سكنية، أتت بشكل متزامن مع إلغاء وزارة الإسكان وظهور المؤسسة العامة للإسكان التي بدأت بإعطاء قروض أيضاً. خلال عدة سنوات أصدر مصرف لبنان عدة قرارات ساهمت بدخول المصارف إلى السوق العقاري كمطورين ومالكين، من بينها السماح بتملّك عقارات لاستيفاء القروض المتعثرة (في السابق كانت توضع في المزاد العلني)، تخفيض الإحتياطي الإلزامي للمصارف في حال أخذت قروض سكنية منه (حصل على ثلاثة مراحل 2001 و2006 و2011)، استملاك العقارات كاستيفاء لديون متعثرة، بالإضافة إلى قرارات أخرى شجعت المتموّلين الكبار على دخول السوق، بينها رفع سقف القروض إلى 800 مليون ليرة في العام 2011 ثم مليار و200 مليون في عام 2015.
أسست الدولة مصرف الإسكان في الأساس بذريعة دعم القروض السكنية لأصحاب المداخيل المحدودة، بينما كان الواقع معاكساً، حيث ساهم رفع سقف القروض بدخول المتمولين على الخط واستملاكهم العقارات كأداة سريعة للربح. يضع المتموّل نقوده في المصرف بفائدة تصل إلى 16% بينما يأخذ قرضاً سكنياً بفائدة 4% فقط، ما يعني ربحاً سهلاً على حساب الدولة الذاهبة إلى الإفلاس.
من جهة أخرى، أدّت سيطرة المصارف على السوق العقارية إلى إفلاس المطوّرين العقاريين الصغار، وتأمين كل عناصر الإحتكار. هناك من يستطيع بناء عشرات المباني السكنية وتركها فارغة لوقت لاحق، بعكس مطوّرين آخرين يعجزون عن الإستمرار بدون بيع مبانيهم (ي حال حصول ركود عقاري. وبحسب أبحاث “مختبر المدينة”، تلعب الشبكات الإجتماعية السياسية والطائفية التي توجد المصارف ضمنها، دوراً أساسياً في تعزيز هيمنتها على السوق، فهي تمتلك “يداً طايلة” كما يقال بالعامية اللبنانية، ليس فقط من خلال القدرة على التهرّب من القوانين والحصول على أفضل الأراضي والعروض، بل أيضاً من خلال الحصول على الزبائن عبر الجمعيات ذات الطابع الطائفي والسياسي الفاعلة في لبنان، وهو ما يعجز عنه المطوّرون العقاريون الباقون الذين واجهوا الإفلاس بعد مشروع أو مشروعين (يشكل هؤلاء 95% من المطوّرين العقاريين بينما تشكل القلة المهيمنة 5% فقط منهم وفق “أوربان لاب”).
ترافق ذلك مع سياسات إقتصادية للدولة كرست الإقتصاد الريعي وساهمت في إضعاف القطاعات الإنتاجية بشكل عام (الزراعة، الصناعة …) بينما دعمت الدولة القطاعات المصرفية والخدماتية والعقارية حصراً. لم تعد النقود تدخل إلى البلد سوى عبر السوق العقارية، ومع تحويل مصرف لبنان رساميل المصارف والمستثمرين إلى ملكيات عقارية، أصبح الواقع النقدي مرتبطاً بشكل مباشر بالعقارات (أصبح الإبقاء على سعر ثابت لليرة يحتّم الإبقاء على أسعار عالية للعقارات). هكذا وضع المصرف المركزي اللبنانيين أمام خيارين لا ثالث لهما، إما السكن اللائق إو صرف جيد الليرة، وفي النهاية بعد أن حصل الإنهيار وجد اللبنانيون أنّهم خسروا الإثنين في الوقت نفسه.
راكمت طبقة السياسيين والمطوّرين العقاريين وأصحاب المصارف، مليارات الدولارات على مدى العقود الماضية بسبب السياسات التي أقرّها المصرف المركزي ومجلس النواب. ولكن يبدو اليوم أنّه لا يوجد توجّه لتحميل هؤلاء مسؤولية الأزمة التي تسببوا بها، بل بالعكس يبدو أن الطبقات الفقيرة والوسطى التي لم تستفد سوى من فتات هذه السياسات، هي التي ستتحمل عبء الأزمة أكثر من غيرها.
لذلك، فإنّ اقتراح السيطرة على العقارات الفارغة الموجودة اليوم في بيروت بالإرادة الشعبية، ليس “يوتوبيا ثورية” بل هو أقل ما يمكن أن يقوم به اللبنانيون من أجل استرداد الأموال التي نهبت منهم. وهو السبيل الوحيد ربما للحصول على حق السكن اللائق بعد أن صودر هذا الحق من قبل “القلة” التي عملت الدولة في خدمتها على مدى العقود الماضية.
“