خلال حزيران 2015، شهد لبنان معركة فئوية خاضها جسم الأطباء ضد الإعلام وعمليّاً ضد القضاء. وقد انطلقت هذه المعركة بعد صدور قرار قضائيّ بتوقيف أحد الأطبّاء على خلفيّة الشكوى التي تقدم بها والد الطفلة ايلا طنوس. وكان تمّ بتر أعضاء الطفلة الأربعة. فرغم تأكيد النقابة إحترام أحكام القضاء، فانّها لم تجدْ حرَجاً في إعلان إضراب مفتوح، إلا في حالات الطوارئ حتى يتمّ الإفراج عن الطبيب المحتجز. وقد علّل نقيب الأطباء في مجموعة من التصريحات والمؤتمرات الصحفية هذا الموقف بأن النقابة لا تقبل استسهال سوء معاملة الطبيب وإهانته أو وضعه في مصاف “السارقين والمهرّبين والمجرمين”، وأنها تعتبر أن “سير التحقيق ممكن من دون التوقيف بالضرورة”.
وبمعزل عن الجدل الحاصل حول الخطأ الطبّي ومدى ثبوته في هذه الحالة (وهو أمر تعد المفكرة قرّاءها بإعداد ملفّ خاصّ عنه)، فإنّ موقف نقابتي الأطباء كشف مسائل لا تقلّ خطورة عن مسألة الخطأ الطبي:
الأولى وربما الأهمً، أنه عكس استسهالاً هائلاً في التدخُّل في القضاء، وسط لامبالاة المرجعيات المعنية بالقضاء (نقابتي المحامين ومجلس القضاء الأعلى ومجمل السلطات العامة). فبمعزل عن توفّر أسباب التوقيف الاحتياطيّ أو عدمه، فإنّ صاحب الصلاحيّة في اتخاذ قرار الترك هو القضاء وليس النقابة. وبالطبع، كان بإمكان النقابة أن تنتقد القرار القضائي أو أن تحتكم الى الرأي العام، أما وأنها سعت الى فرض وجهة القرار القضائي من خلال ممارسة نفوذ فعلي (أخذ صحة المواطنين رهينة من خلال إضراب الجهاز الطبي)، فإن ذلك يشكل تدخّلا قضائيا ذات أبعاد جرميّة، وتقتضي ملاحقته. وقد جاء تصريح نقيب الأطباء في طرابلس ايلي حبيب بأنه تلقى وعداً من وزير العدل أشرف ريفي بإخلاء سبيل الطبيب مقابل كفالة مالية، ليبدّد أي شكّ في هذه المسألة.
الثانية، أن هذا الاعتداء على القضاء يأتي من قبل هيئة منشأة بموجب القانون لتنظيم مهنة الطبّ وتاليا لضمان حقّ المواطنين بالصحة. وهي بذلك استغلّت النفوذ المعطى لها قانوناً للإنقضاض على مؤسسات الدولة. وحصول هذه الواقعة بالتّزامن مع تأخّر نقابة المحامين في بيروت في حسم الجدل حول إعطاء الإذن بملاحقة محام اعتدى على زوجته، إنّما يعطي لهذه الإشكالية أبعاداً أشمل حول ضرورة العمل على إعادة الإنسجام بين عمل النقابات المهنية والمنظومة العامة للدولة.
الثالثة، أن النقاش الدائر في هذا الشأن يفتح مجدّدا اشكالية التوقيف الإحتياطي، من زاويتها الأكثر إيلاماً. فاذا صحّ أن ثمّة استسْهالاً في التوقيف الاحتياطيّ بما يتجاوز أحياناً الإعتبارات الواجب مراعاتها وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية، فإنّ هذا الاستسهال ينطبق عموماً على الطبقة الأقلّ حُظوةً فيما يتمتّع أصحاب المال والنّفوذ بطرق تدخُّل تؤدّي غالباً الى تضييق حالاته. وبالعودة الى موقف البستاني، يظهر أنّ ما راعه ليس آلية التوقيف الاحتياطي وكيفية ممارستها، إنّما بالدرجة الأولى أن يُعامل الأطبّاء معاملة قليلي الحظوة من دون أي اعتبار لمقاماتهم الإجتماعية. وقد جاء اضراب الأطباء كانتفاضة لإعادة تثبيت هذه المقامات. ومن هذه الزاوية، تحوّلت النقابة المهنية الى أداة لتكريس التمييز الطبقي.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.