تتأثر التركيبة السكانية للبلاد التونسية بعاملين هامين يبرزان انفتاحها الثقافي والحضاري: أولهما الهجرة وثانيهما السياحة. اذ يعد قرابة عشر سكان البلاد التونسية من المهاجرين الذين يستقر بهم المقام بالبلدان التي تستقطب اليد العاملة او تلك التي تعد وجهات دراسية يحبذها التونسيّون في استكمال دراساتهم العليا[1]. كما تعد السياحة التي تشكل احد اهم الانشطة الاقتصادية سببا لتوافد ملايين من الاجانب سنويا للإقامة بتونس لمدد محددة[2]. ويؤدي التفاعل الاجتماعي مع الهجرة والسياحة الى تنامي ظاهرة ارتباط مواطنين تونسيين بأجانب بموازاة تنامي ظاهرة اقامة الاسر ذات الاصول التونسية ببلدان المهجر، وتاليا الى جعل الزواج المختلط ظاهرة اجتماعية هامة ذات انعكاسات كبيرة على تركيبة المجتمع.
وعدا عن أن ظاهرة الزواج المختلط لم تعد بفعل تطورها تثير الاعتراض، فانه ينظر اليها في كثير من الصور كامتياز يتجاوز الثراء الثقافي للأسرة متعددة الثقافات ليتركز حول مزايا تعدد الجنسيات مع ما يعنيه من حرية تنقل خصوصا اذا ما كانت جنسية القرين الاجنبي غربية. غير ان مزايا الاسرة متعددة الثقافات والجنسيات تستحيل الى سلبية كبرى في صورة تحول العلاقة بين الزوجين الى نطاق منازعة بدايتها انفصال القرينين ومركز ثقلها النزاع حول الأبناء. فنزاع الابوين يذكّي الاختلاف الثقافي والحضاري والعقائدي داخل الاسرة ويسعى عادة كل واحد منهما الى الاحتماء بنظامه القانوني والقضائي ليحقق الانتصار لثقافته في تصوره لمستقبل ابنائه. وتتهم عادة دول الاقامة دول الموطن الاصلي ومن بينها تونس، بأن هذه الدول تتستر على مواطنيها الذين يختطفون او يستغلون زيارة ابنائهم لبلدهم ليفرضوا التغيير القصري لمقر اقامة الابناء .
وتذكر في هذا السياق مثلا احصائيات فرنسية انه خلال سنة 2012 سجلت 158 حالة اختطاف طفل من طرف احد ابويه كانت 17 حالة منها وجهتها البلاد التونسية .وتوحي اهمية نسبة "التورط" التونسي في اختطاف الاطفال حسب الاحصائيات الفرنسية بدور للمنظومة الرسمية التونسية في حماية ابناء الجنسية التونسية الذين يستعملون وطنهم كملاذ آمن يسهل حسم نزاعاتهم الاسرية خارج اطار قوانين بلد الاقامة بانتزاع قسري للطفل من محيطه العائلي والحضاري.
وما يبدو اتهاما مؤيدا بوقائع وأرقام في فرنسا وغيرها من البلدان التي ترتبط ثقافيا وحضاريا مع تونس بأسر متعددة الثقافات والجنسيات يقابله اتهام داخل تونس من الاطراف التونسيين في الزيجات المختلطة يعكس المشهد. اذ أن الآباء التونسيين "لاطفال" من أزواج اجانب يتهمون المؤسسة القضائية التونسية بالخضوع للضغوطات الدبلوماسية لبلدان ازواجهم بشكل يؤدي الى انتزاع ابنائهم منهم دون مسوغ قانوني، ويتهمون الحكومات التونسية المتعاقبة بالتقاعس في مواجهة ظاهرة اختطاف ابنائهم من تونس من قبل امهاتهم بوسائل غير مشروعة وبالاستعانة بتنظيمات اجرامية محترفة[3].
ولفهم أسباب الاتهام المتبادل في التعاطي مع "مسألة الحضانة" في نزاعات الاسرة متعددة الجنسيات، يقتضي التمييز في البداية بين صورتين، وفق ما اذا كان مقر اقامة العائلة الاعتيادي داخل تونس أو خارجها.
البلاد التونسية كمقر اصلي للمحضون
تعد الحضانة من منظور القانون التونسي عند قيام الرابطة الزوجية من حق الأبوين[4]فيما يعتد في اسنادها في حال انفصام الزواج او انعدامه بالمصلحة الفضلى للمحضون كمعيار اساسي. ودرج فقه القضاء على افتراض توفر المصلحة الفضلى للطفل في حضانة الام لأبنائها ما لم يثبت للمحكمة بالدليل ما يعاكس ذلك. كما أدى تطور التصور القانوني لمفهوم المصلحة الفضلى للمحضون لمنع التمييز بين مستحقي الحضانة باعتبار الدين أو الجنسية خصوصا اذا كانت مستحقة الحضانة هي الام[5]. ويؤدي بالتالي اعمال المعايير الموضوعية الى الاسناد المبدئي للحضانة للام دون التفات لجنسيتها او ديانتها طيلة الامد القانوني للحضانة والذي وان لم يوضح القانون مدته فان فقه القضاء استقر على كونه يستمر لحين بلوغ سن الرشد المدني اي ثمانية عشر عاما.
وتعطي الحضانة الأم الحق في حفظ ولدها في معاشه[6]. كما تجعل منها كما قرر ذلك الفصل 67 من مجلة الاحوال الشخصية ولية لمحضونها فيما تعلق بسفره ودراسته والتصرف في حساباته المالية. ويكون في مقابل ذلك للأب حق الولاية على ابنه فيما خرج عن صلاحيات الحاضنة كما يكون له الحق في زيارته واستصحابه بما يسمح له بالمشاركة في رعايته وإجراء رقابة على حسن حفظ الام الحاضنة لابنه. ويؤدي تنازع الحقوق والواجبات بين الام الحاضنة والولي القانوني الى طرح السؤال حول حق الام الحاضنة في مغادرة البلاد التونسية بعد ان انقضى سبب اقامتها بها بانفصام زواجها مع تواصل تمتعها بحق الحضانة.
وفيما يبدو جوابا على الاشكالية المطروحة، يشترط القانون التونسي بموجب الفصل 61 من مجلة الاحوال الشخصية ألا تسافر الحاضنة بمحضونها سفر نقلة يؤدي الى منع الولي من ممارسة صلاحيات ولايته . ودرج فقه القضاء التونسي على اعتبار ان انتقال الحاضنة داخل رقعة البلاد التونسية لا يؤدي لإسقاط الحضانة، فيما عد سفر الحاضنة بمحضونها خارج البلاد التونسية متى كانت تونس المقر الاصلي لإقامة المحضون سببا لإسقاط الحضانة. ويلاحظ هنا ان مفارقي الاجنبيات من التونسيين يتمسكون بكون تمتع الحاضنة بحق الولاية في السفر على محضونها يؤدي فعليا لتعمد الحاضنة مغادرة البلاد التونسية صحبة المحضون على نحو يحرمهم من ممارسة حقوقهم الابوية في سياق ما يصطلحون على تسميته ب"التغييب الأبوي".
ورغم أن القانون التونسي في اشتراطه عدم سفر الحاضنة بالمحضون سفر نقلة يتوافق مع الاتفاقيات الدولية في المجال التي تشترط في تحديد مقر المحضون ان يتم تقديم المصلحة الفضلى للمحضون بما يحقق استقراره في محيطه الحضاري ويحفظ له علاقات مستقرة ومتوازنة مع ابويه، فان تعمد الحاضنة مخالفة شروط اسناد الحضانة بالنقلة يؤدي فعليا لخلق حالة يستعصي التعامل معها. اذ يتعذر على نسبة هامة من الاباء التونسيين الذود عن حقوقهم امام قضاء الدول التي تلجأ اليها الام الحاضنة لكون نظام تأشيرات السفر يمنعهم من الانتقال الى هناك. كما يؤدي ارتفاع تكلفة التقاضي بتلك الدول مقارنة بإمكانيات الافراد التونسيين ومستوى مداخيلهم الى ايجاد حاجز فعلي يمنع الاباء من حقهم في التقاضي. وفي مقابل ذلك يصطدم استصدار التونسيين لأحكام بإسقاط الحضانة من قضائهم الوطني بتعذر تنفيذ تلك الاحكام بالدول الاجنبية لان تلك الدول تتهم تونس بعدم تنفيذ الاحكام المماثلة التي تصدر عنها بما يجيزها في نطاق المعاملة بالمثل عدم تطبيق الاحكام التونسية. ويؤدي الامر الى غياب القيمة العملية للقاعدة القانونية جراء خضوع النزاع لاعتبارات تتعلق بالعلاقات الدولية وذات الامر يتكرر في صورة ما اذا كان المقر الاصلي للمحضون خارج تونس مع تغيير في الادوار.
مقر المحضون خارج البلاد التونسية:
يعمل البعض على اصطحاب ابنه لتونس ليطلب لاحقا اسناد حضانته اليه. ويتم الالتجاء الى اعتبار الثقافة والدين كمبرر للطلب، فيتم التمسك بكون مصلحة الطفل تقتضي ان يتم تنشئته في بلده الام. ويتبين من عدد من احكام القضاء التونسي ان المحاكم التونسية في كثير من الصور اكدت على ضرورة حماية المقر الاصلي للمحضون وحق الحاضنة في استرجاع محضونها. غير ان الشهادات المتواترة لأمهات اجنبيات كن ضحية لاختطاف ابنائهن من آبائهم التونسيين تقيم الدليل على ان ظاهرة انتصار المؤسسة القضائية لطلب اسناد الحضانة للأب في منازعات قضائية تغيب عنها الام التي تقيم بالخارج يعد ممارسة مؤكدة وان كانت تتعارض مع الاتجاه السائد في فقه القضاء التونسي. اذ يؤدي اختطاف الابناء من مقر اقامتهم الاصلي وتعمد استبقائهم بتونس لاحقا لصعوبة في استرجاع الامهات لحضانة ابنائهن خصوصا وان الحالة الواقعية التي تنجم عن الاختطاف تؤدي الى ايجاد مبررات لرفض اسناد الحضانة لاحقا للام بدعوى ان اسنادها الحضانة يحرم الابناء من العيش في مجتمع ينشئهم على ثقافة وليهم الدينية والثقافية. وتبين عودة معيار الثقافة في تحديد شروط اسناد الحضانة متى كان مقر الاقامة الاصلي خارج البلاد التونسية ان مفهوم المصلحة الفضلى للمحضون يمكن ان يشحن بمفاهيم تقصي البحث عما يقصد بها اصالة لتتحول الى مصلحة ذات بعد آخر عنوانه الانتصار لرابطة الجنسية دون اعتبار لخاصيات الزواج المختلط. وتبدو الممارسة التي تؤدي لانتصار القضاء لمفاهيم "تعالي ثقافي" عنوانها حماية ثقافة الاب أو حق الام في تنشئة ابنها في مجتمع متطور ثقافيا من الانحرافات التي تمارس بصمت في حق مصلحة الطفل ثمرة الزواج المختلط الفضلى رغم تطور القوانين بما يؤكد ان تجاوز الاشكالات القائمة يستدعي تعاونا دوليا في المجال يجعل من اختطاف الاباء لأبنائهم من الجرائم التي تحظى مكافحتها بتعاون اممي وبإجراءات قضائية سريعة وميسرة .
للإطلاع على النسخة الإنكليزية من المقال، إنقر هنا
[1]تذكر احصائيات رسمية تونسية اعدتها وزارة الشؤون الاجتماعية سنة 2013 لنه يوجد أكثر من مليون و 223 الف مهاجر تونسي بالخارج سنة 2012 مقابل 698 الف سنة 2000 كما ان نسبة المهاجرين تمثل 11 بالمائة من مجموع السكان في تونس و أن أبرز البلدان المستقبلة للمهاجرين التونسيين سنة 2012 هي فرنسا بنسبة 54.7 بالمائة وايطاليا بـ 15.4 بالمائة تليها ليبيا بـ 7.8 بالمائة ثم المانيا بنسبة 7.1 بالمائة.
[2]احصائيات وزارة السياحةزار تونس سنة 2013 اكثر من ستة ملايين ومائتين وستين الف سائح.
[3]الندوة صحفية الجمعية التونسية للنهوض بالرجل والأسرة والمجتمعبتاريخ 23 اكتوبر 2013 تغطية صحيفة الصحافة التونسية ، تحت عنوان آباء تونسيون.. اختطف أبناؤهم من أمهات اجنبيات بتواطئ سياسي وديبلوماسي . الصحافة 25/10/2013.
[4]الفصل 57 من مجلة الاحوال الشخصية.
[5]ينص الفصل 59من مجلة الأحوال الشخصية على أنه "اﺫﺍ ﻜﺎﻨﺕ ﻤﺴﺘﺤﻘﹼﺔ ﺍﻟﺤﻀﺎﻨﺔ ﻤﻥ ﻏﻴﺭ ﺩﻴﻥ ﺃﺏ ﺍﻟﻤﺤﻀﻭﻥ ﻓﻼ ﺘﺼﺢ ﺤﻀﺎﻨﺘﻬﺎ ﺇﻻ ﺇﺫﺍ ﻟﻡ ﻴﺘﻡ ﺍﻟﻤﺤﻀﻭﻥ ﺍﻟﺨﺎﻤﺴﺔ ﻤﻥﻋﻤﺭﻩ ﻭﺍﻥ ﻻ ﻴﺨﺸﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻥ ﻴﺄﻟﻑ ﻏﻴﺭ ﺩﻴﻥ ﺃﺒﻴﻪ. ﻭﻻ ﺘﻨﻁﺒﻕ ﺃﺤﻜﺎﻡ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﻔﺼل ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻡ ﺇﻥ ﻜﺎﻨﺕ ﻫﻲ ﺍﻟﺤﺎﻀﻨﺔ." ويؤدي اعمال الفصل المذكور الى تاكيد حق الام في حضانة ابنها وان كانت من دين غير دين وليه.
[6] يعرف الفصل 54 من مجلة الاحوال الشخصية الحضانة بكونها "حفظ الولد في مبيته والقيام بتربيته".