كانت كلّ المعلومات تشير إلى أنّ جلسة اللجان النيابية المشتركة اليوم ستنتهي بإقرار نصّ موحّد لاقتراح قانون وضع ضوابط مؤقتة واستثنائية على التحويلات والسحوبات المصرفية (“كابيتال كونترول”)، تمهيداً لإحالته إلى الهيئة العامّة وإقراره في الجلسة التشريعية المتوقعة الأسبوع المقبل. لكن فور دخول النوّاب إلى القاعة، فوجئوا بتوزيع اقتراح جديد عليهم لم يسبق أن اطّلعوا عليه. وكان لافتاً أنّ الاقتراح لم يكن موقّعاً من أيّ نائب، ولم يكن محوّلاً من الحكومة بصفته مشروع قانون، كما لم يُوزّع على النوّاب قبل وقت من الجلسة حتى يتسنّى لهم إبداء ملاحظاتهم عليه.
هكذا وجد النواب أمامهم اقتراحاً جديداً لتقييد السحوبات والتحويلات، تبيّن لاحقاً أنه الاقتراح الذي تتبنّاه الحكومة، والذي عمل عليه، بشكل خاص، نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي والنائب نقولا نحّاس، بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي.
لكن تلك الحالة استدعتْ اعتراضات بالجملة من قبل النوّاب، يتقدّمهم رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان. فالاقتراح يقفز فوق عمل اللجنة، الذي استمرّ لأكثر من سنة. كما يقفز فوق التعديلات التي أقرّتها لجنة الإدارة والعدل، من دون التنسيق مع أيّ منهما. ونتيجة لذلك، حصلت مشادات كلامية بين كنعان ونائب رئيس المجلس النيابي إيلي الفرزلي، كما بين كنعان ونحّاس، انتهت بتأجيل النقاش حول الاقتراح لأسبوع.
من الملاحظات الأساسية على الاقتراح أنّه يعطي مصرف لبنان صلاحيات شاملة لتحديد قيمة السحوبات والتحويلات أكثر من تلك التي حصل عليها في الاقتراحين المعروضَين (سبق لـ”المفكرة القانونية” أن أبلغت لجنة المال والموازنة ملاحظاتها على مسودّة اقتراح القانون رسمياً). كما يعيد التأكيد على تحرير المصارف من الأحكام التي يمكن أن تصدر بشأن النزاعات القضائية التي انطلقت في لبنان وفي الخارج. والأهمّ أنّه ينزع صلاحية القضاء (كانت كُرّست في لجنتي المال والموازنة والإدارة والعدل) في كلّ ما يتعلّق بمخالفة أحكام القانون، مقابل إعطاء اللجنة المصرفية العليا صلاحيات واسعة.
فالمادة السابعة من الاقتراح المعدّل في لجنة المال، كما التاسعة في الاقتراح المعدّل في لجنة الإدارة والعدل، تشير إلى إلغاء “كلّ نص يتعارض مع أحكام هذا القانون، باستثناء ما يتعلق بالولاية العامة للقضاء، ولاسيما أحكام الفقرة الأخيرة من المادة 208 من قانون النقد والتسليف”. لكن هذه المادة أزيلت تماماً من الاقتراح الحكومي، وتمّ الاكتفاء، في المادة السابعة الجديدة، بحصر صلاحية “تحديد التدابير القانونية الملائمة” بالهيئة المصرفية العليا.
في المقابل، لم ينسحبْ تحرير المصارف من ولاية القضاء على المودعين، إذ نجد في المادة نفسها إشارة إلى أنّ “من يُقدّم مستندات مزوّرة أو غير صحيحة، يُلاحق أمام القضاء الجزائي المختصّ وفقاً للقوانين المرعية”.
إضافة إلى ذلك، تشير المادة الثامنة من الاقتراح الحكومي، إلى “أنّ أحكام هذا القانون تُطبّق فوراً على الدعاوى والمنازعات في الداخل والخارج التي لم يصدر فيها حكم مبرم وغير قابل لأي طريق من طرق المراجعة”. وبذلك، يكون النص المقترح من الحكومة قد ذهب أبعد من النص المشابه الذي أقرّته لجنة المال والموازنة، وضمّت فيه النزاعات التي لم يصدر بشأنها حكم مبرم إلى مندرجات القانون، الأمر الذي يعيد الدعاوى المرفوعة ضد المصارف، والتي صارت في مرحلة صدور الأحكام، إلى نقطة الصفر. علماً أن لجنة الإدارة والعدل كانت حذفت صراحة هذه المادة، فسمحت باستكمال الدعاوى المرفوعة أمام القضاء، من دون أن تُحدّد مصير الدعاوى الجديدة.
هذا الاقتراح المقدّم من فريق رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أكّد ما كان تردّد سابقاً عن عمله لصياغة مشروع جديد بالتوافق مع الرئيس نبيه برّي ومصرف لبنان وجمعية المصارف، ظاهره السعي إلى أخذ ملاحظات صندوق النقد بعين الاعتبار وباطنه تحرير المصارف من أيّ تبعات لمخالفتها القانون، إلّا بحدود ما يقرّره المصرف المركزي، الذي سيكون له اليد الطولى في تنفيذ أحكام قانون “الكابيتال كونترول”.
ولذلك، تمّ التغاضي عن مهلة الأسبوعين التي أعطاها رئيس المجلس النيابي نفسه، في الجلسة العامّة التي عقدت في 28 تشرين الأول، للجان المشتركة لتوحيد الاقتراحين المعدّلين في لجنتي المال والموازنة والإدارة والعدل، إلى حين نضوج الاقتراح الجديد. علماً أنّ رئيس الحكومة كان أشار حينها إلى ورود ملاحظات واقتراحات بشأنه من صندوق النقد الدولي. وقد وافقه الرأي النائب نقولا نحّاس الذي اعتبر أنّه لا يجب إقرار هذا الاقتراح قبل بحثه مع صندوق النقد الدولي ضمن خطّة متكاملة واقترح أن تعمد الحكومة إلى درس المقترح ضمن مهلة شهر. لكن بنتيجة جلسة اليوم، تبيّن أنّ ملاحظات صندوق النقد الدولي لم تكن سوى الشمّاعة التي أريد لها أن تحمل التعديلات التي تريدها المصارف. فقد كان واضحاً أنّ الاقتراح الجديد لم يحُزْ على موافقة صندوق النقد. وهو ما أكّده الشامي بنفسه، مُشيراً إلى أنّ المفاوضات لم تنتهِ بعد.
وبعدما تبيّن أنّه يستحيل تمرير الاقتراح في اللجان قبل دراسته، سعى الفرزلي إلى تحويله إلى لجنة فرعية، لكن الاقتراح سقط، لصالح طلب كنعان الحصول على رأي الصندوق بشكل واضح، إما من خلال حضور من يمثله أو من خلال إرساله ملاحظاته خطياً، تداركاً لاحتمال أن يُصار إلى اتفاق جديد على النص، يعود ويُنسف مجدداً بعد ورود ملاحظات جديدة من الصندوق. علماً أنه سبق للصندوق أن قدّم ملاحظاته أيام الحكومة السابقة خطياً، حيث أخذت لجنة المال بمعظمها، قبل أن يُعلن ميقاتي ورود ملاحظات جديدة، ثم يُعلن الشامي أنّ النصّ يراعي مطالب الصندوق، من دون أن يستبعد احتمال الوصول إلى صيغة أخرى بعد انتهاء المفاوضات.
وفيما رفعت الجلسة قبل البدء بمناقشة الاقتراح الجديد أو الاقتراحيْن القديميْن، فقد أعلن الشامي أنّ الاقتراح الجديد يختلف عمّا سبقه بخمس نقاط أساسية:
- لا يتضمّن مشروع الحكومة أيّة أرقام.
- تمّ تضمين الأسباب الموجبة عبارة تشير إلى أنّ الأرقام التي سيعتمدها المصرف المركزي يجب أن تكون منسجمة مع خطة الحكومة.
- السماح للصناعيين بتحويل الأموال إلى الخارج، وفق آلية تسمح بعودة هذه الأموال.
- توحيد سعر الصرف على سعر صيرفة.
- إعطاء دور للجنة الرقابة على المصارف لمراقبة حسن تطبيق القانون.
ولأنّ تحوّلاً في الموقف قد طرأ فجأة، وصار برّي وسلامة من أشدّ الساعين إلى إقرار القانون (بنسخته الأخيرة)، بعدما ساهما في تأخير إقراره لنحو سنتين، سارع رئيس المجلس إلى الدعوة إلى جلسة ثانية تناقش الاقتراح نفسه يوم الإثنين المقبل. وهو ما فُسّر على أنّه مسعى منه لإنجاز الاقتراح قبل الجلسة التشريعية المقبلة. علماً أن الفرزلي كان أشار بعد الاجتماع إلى أن الشامي “أُعطيَ أسبوعاً لكي ينهي مناقشاته مع صندوق النقد، فيعود بالاقتراح لدراسته في اللجان المشتركة وبالتالي يبنى على الشيء مقتضاه”.
بالنتيجة، صار أمام اللجان المشتركة ثلاثة نصوص مختلفة للاقتراح الذي قدّم في 20/5/2020 من كتلتي التنمية والتحرير ولبنان القوي. الأول أنجزته لجنة المال والموازنة في 7/6/2021، والثاني أنجزته لجنة الادارة والعدل في 29/7/2021، والثالث قدّمته الحكومة في 1/12/2021، من دون مراعاة الأصول القانونية. وهذه الاقتراحات الثلاثة ستكون محور جلسة الإثنين التي ستكون صاخبة، وتتضمن الأسئلة نفسها التي طرحت اليوم، قبل النقاش في مضمونها غير المُتوافق عليه: كيف سيُنقاش اقتراح لم يُقدّم رسمياً؟ وكيف سيُناقش اقتراح لم يوافق عليه صندوق النقد الدولي علما أنه كان الحجة لتأخير إقرار القانون لسنتين؟
لتحميل اقتراح قانون وضع ضوابط مؤقتة واستثنائية على التحويلات والسحوبات المصرفية