مهاجرو إفريقيا جنوب الصحراء والاقتصاد: الواقع المُغيَّب


2024-05-30    |   

مهاجرو إفريقيا جنوب الصحراء والاقتصاد: الواقع المُغيَّب

أصبحَ تناول ظاهرة الهجرة غير النظاميّة لأفارقة جنوب الصحراء في تونس مُشبعا بالانفعالات، إلى درجة أصبح فيها كلّ طرح مخالف لتصوّرات الرئيس سعيّد حول الموضوع يَصبّ في خانة المؤامرة على الوطن. ذلك التصوّر الذي أعلن عنه في البيان الشّهير لرئاسة الجمهوريّة بتاريخ 21 فيفري 2023، والذي اعتبر توافد المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس مندرجًا ضمن “ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس” وأنّ الهدف من ذلك هو توطين هؤلاء المهاجرين “لاجتزاء تونس من انتمائها العربي والإسلامي”. هذا التصوّر “السريالي” للواقع عَزلَ التدفّقات الهجريّة عن سياقها العالمي وعن محرّكاتها الماديّة وغطّى على موجات المهاجرين التّونسيّين غير النظاميّين والمعاملة اللاّإنسانية التي يتعرّضون لها في مراكز الاحتجاز في إيطاليا.

لقد كان ذلك البيان مقدّمة لسَرَيان “نظريّة التّوطين” التي غذّت النزعة العنصريّة والعداء تجاه المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء، وحَصرَ التّعاطي معهم في الجانب الأمني لا غير. لكن في الواقع، تُشير قضيّة الهجرة في تونس إلى فشل جميع من تعاقبوا على السّلطة منذ 2011 في ترجمة قيم الثّورة حول الحريّة والكرامة والعدالة وحول نموذج تنموي بديل.

إنّ التعرّض لموقع المهاجرين غير النظاميّين في الاقتصاد التونسيّ من منطلق عقلانيّ وإنسانيّ يتطلّب أوّلا وضع قضيّة الهجرة -خارج السياق الشكلي أو القانوني- في إطارها العام، أي في سياق الاقتصاد الرأسمالي المعولَم بشكل عام، وفي سياق الاقتصاد الأوروبي بشكل خاص. أولا لأنّ تونس في قلب هذه القضيّة باعتبارها دولة هجرة، وثانيا لأنّه يتحتّم علينا أن نُدرك أنّنا نشترك مع أفارقة جنوب الصّحراء في واقع موضوعي متشابه؛ في ظروف العمل ومظاهر الاستغلال وخاضعين لنفس الفلسفة التي تَحكم السّياسات الهجريّة الأوروبيّة. في هذا السياق نجحت إيطاليا عن طريق التحالف بين رئيسة حكومتها والرئيس التونسي، في توسعة رقعة الصراع حول قضيّة الهجرة من أراضيها إلى الأراضي التونسيّة والذي برز في أسوأ تمظهراته؛ في شكل عنصريّة وعداء وعنف بين السكان المحليّين والمهاجرين غير النظاميّين. وهذا المناخ يصبّ في مصلحة الاتحاد الأوروبي لأنّه يسمح بالقمع والتهجير القسري ورمي المهاجرين في الصحراء.

موقع المهاجرين غير النظاميين في الاقتصاد التونسي

أدّى التّناول الرّسمي للمهاجرين غير النظاميّين من دول إفريقيا جنوب الصّحراء إلى اجتزاء الظاهرة وعزلها عن الشّروط الموضوعيّة التي تُحرّكها. فقد صنّفها رئيس الجمهوريّة على غرار بقيّة التحدّيات المطروحة على تونس في خانة المؤامرات الكبرى. نتج عن ذلك إغفال كون البلاد –في الأصل- مُصدّرًا للهجرة غير النظاميّة قبل أن تكون منطقة عبور، ممّا يُشير بوضوح إلى أنّ كلّ السّياسات والمواقف السّياسيّة المرتبطة بالهجرة -سواء كانت تونسيّة أو أوروبيّة- لها نفس التأثير على التّونسيّين، كما على أفارقة جنوب الصحراء.

ساهم التّعاطي الرسمي مع المهاجرين غير النظاميّين الموجودين على الأراضي التّونسيّة في تعرية الخطاب السّيادوي المغشوش. فالرئيس المتفرّد بالسّلطة، لم يطرح تصوّرات بديلة لنظرائه في أوروبّا ولم يلمّح حتّى إلى مراجعة الاتفاقيّات الثّنائيّة غير المتكافئة بين الطّرفين وعلى رأسها اتّفاق التجارة الحرّة كأحد أبرز تعبيرات البنية الاستعماريّة التي تحدّد العلاقة بين الجانبين. ورغم الإجماع والوثوقيّة في التّصريحات الرسميّة على ضرورة اعتماد مقاربة شاملة لمواجهة الهجرة غير النظاميّة، لم نلمس أيّة توجّه خارج إطار الشعار المركزي للسّلطة “لا للتوطين” والمقاربة الأمنيّة في مواجهة المهاجرين عبر مطاردتهم في البرّ والبحر، والتي تَبرز بدورها في الأرقام القياسيّة للمهاجرين الذين أحبطَ الحرس البحري محاولة اجتيازهم للحدود منذ بداية العام إلى موفّى شهر أفريل، والذي بلغ 21 ألف و500 شخص[1].

من بين المؤشّرات التي تُبرز عدم وجود تصوّرات بديلة لمنهج “الكرّ والفرّ” في التعامل مع الهجرة غير النّظاميّة، غياب المسح الدّوري للمهاجرين على الأراضي التونسيّة لأهميّته في صياغة السّياسات الهجريّة وتقييمه، علاوة على دوره في تقييم مراقبة الحدود البريّة. ففي الوقت الرّاهن لا تَملك الدّولة أية إحصائيّات في الغرض باستثناء آخر مسح وطني للهجرة الدّوليّة[2]لسنة 2020، والذي يتضمّن نتائج كليّة حول الأجانب المقيمين في تونس. وقد أفضت النّتائج إلى وجود 58990 مواطن أجنبي مقيم في تونس منهم 21466 أصيلي دول إفريقيا جنوب الصّحراء (نظامي وغير نظامي). استنادا على ذلك، وأخذًا بعين الاعتبار الفارق الزّمني والحركيّة المستمرّة التي تشهدها الهجرة غير النظاميّة وطالبي اللجوء السّودانيّين الفارّين من الحرب، نلاحظ أنّ الدّعاية الرسميّة تقوم على المبالغة والتّهويل التي تُغذّي نزعة الخوف عند التونسيّين على غرار تصريح وزير الداخليّة في جويلية 2023 بوجود 80 ألف مهاجر من إفريقيا جنوب الصّحراء، ليصرّح في جلسة استماع بالبرلمان مؤخّرا بأنّ عددهم لا يتجاوز 23 ألف[3].

لنفترض أنّ العدد الصحيح للمهاجرين غير النّظاميّين يَبلغ 23 ألفا، أي أنّه لا يتجاوز 0.2% من العدد الجملي للسكّان في تونس. فإنّ السؤال الجوهري من منطلق براغماتي بحت، هو ما العمل؟ في ظلّ منعهم من العبور نحو إيطاليا، ورفض تسوية وضعيّاتهم الإداريّة ورفض إيوائهم في مراكز مخصّصّة وإعلان نظري برفض التّهجير القسري. كلّ ما فَعلته السّلطات إلى حدّ الآن هو خلق أزمة مهاجرين بحصرهم في مناطق جغرافيّة بعينها، وتركهم في العراء في مواجهة مع السكّان المحليّين.

في خضمّ ذلك، وحسب نتائج المسح الوطني للهجرة الدّوليّة، حوالي نصف المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصّحراء ناشطون في سوق العمل، 98.3% من بينهم يمارسون عملا مأجورا وضمن هذه الفئة 4% (237 شخص) فقط يعملون بشكل نظامي، أي لديهم تراخيص عمل سنة 2017[4]. ما يعني أنّ أفارقة جنوب الصّحراء في تونس يعملون بشكل شبه كلّيّ في إطار غير منظّم، بالأساس كعمّال وعاملات في قطاعات البناء والفلاحة والمقاهي والمطاعم والمحلات التجاريّة والأعمال المنزليّة حسب بيانات المسح. يتمّ التّعامل مع هذه الفئة بنفس المنهج المعولَم لهجرة اليد العاملة الرّخيصة، فهي تتلقّى أجورا منخفضة وتعمل ساعات أكثر من نظيرتها المحليّة، كما أنّها تتعرّض لكافّة أشكال الاستغلال من دون أن تتمكّن من التّقاضي خوفا من الملاحقة القانونيّة. إنّ ترك فئة اجتماعيّة خارج الأطر النّظاميّة يولّد بطبيعته جرائم الاستغلال الاقتصادي والتشغيل القسري، كما أنّه يدفع هاته الفئة إلى تنظّم ذاتي تضامني لمواجهة إقصاء الدولة.

إنّ التّعاطي العقلاني مع وضعيّة المهاجرين غير النّظاميّين يتطلّب اعتماد مقاربة اقتصاديّة قائمة على المصلحة المشتركة، وتقتضي التّعامل معهم كقوى إنتاج والاعتراف بحقوقهم كاملة. ينطلق ذلك من مراجعة التّشريعات التي تقيّد بشكل صارم عمل الأجانب في تونس والمتمثّلة في القانون المتعلّق بحالة الأجانب بالبلاد التونسيّة الصادر في 1968 وفي مجلّة الشّغل الصادرة في [5]1966، وهي من أصلها نصوص قديمة لا تواكب التغيّرات التي طرأت على سوق الشّغل. يجب أن نشير هنا إلى أنّنا نتحدّث عن تسوية وضعيّتهم الإداريّة وليس تشغيلهم، فسوق الشّغل استوعبهم بطبيعته بغض النّظر عن حالة الإنكار الرسمي. علاوة على ذلك، يعمل المهاجرون بشكل غير نظامي أمام أعين السّلطات الرّسميّة، التي انتزعت الخيام التي نصبوها في مدينتي جبنيانة والعامرة، لكنّها لم تُوقفهم عن العمل في جني الزّيتون، حيث كانوا قوة العمل الأساسية في تأمين هذا الموسم.

يعود ذلك إلى الحاجة إليهم لتغطية النّقص الكبير في اليد العاملة في قطاعات عدّة، ومنها بالأخصّ في مجال البناء وفي العمل الموسمي في قطاع الفلاحة[6]. وذلك نتيجة هجرة التونسيّين التي بلغت في مجملها 277948 ألف مهاجر (نظامي وغير نظامي)، بين سنة 2010 وسنة 2020 حسب المسح الوطني للهجرة الدوليّة، بالإضافة إلى عزوف اليد العاملة المحليّة عن العمل في تلك القطاعات. تُفنّد هذه المعطيات الادّعاء بمنافسة المهاجرين من إفريقيا جنوب الصّحراء للتّونسيّين على مواطن الشّغل. كما أنّ عدم منحهم تصاريح عمل وبطاقات إقامة، يؤدّي إلى منحى تنازلي للأجور وإلى مزيد تردّي ظروف العمل في القطاعات التي تشغّل المهاجرين غير النّظاميّين واليد العاملة المحليّة على حدّ السّواء، ما ينتج مزيدا من الفقر والهشاشة.

السياق الدولي: الهجرة كعامل لمراكمة فائض ربح

راجتْ في فرنسا منذ بداية ستينيات القرن الماضي عبارة مفادها أنّ اليد العاملة المهاجرة “تأكل خبز الفرنسيّين”، كردّة فعل على تصاعد الهجرة من المستعمرات الفرنسية الإفريقيّة التي دحَرَت لتوّها الاستعمار الفرنسي المباشر. سبب موجات الهجرة كان الوضع الاقتصادي والاجتماعي المزري والحالة السياسيّة المأزومة التي خلّفها الاستعمار الفرنسي الاستيطاني في مستعمراته بعد نهب أراضيها واستغلال شعوبها طيلة عقود. يُحيل المعنى المباشر للعبارة الفرنسية آنفة الذكر، إلى المزاحَمة الاقتصاديّة للعمَالة الإفريقية لنظيرتها الفرنسية. لكنّ دلالاته الحقيقيّة تتجاوز ذلك لتتكثّف فيها معاني الهيمنة والعنصريّة التي تحكم علاقة أوروبا الغربيّة بإفريقيا، لأنّه يتمّ إلحاقها فقط بذوي وذوات الأصول الإفريقية، بينما تُستثنى منها العمالة ذات الأصول الأوروبية[7]

الأمر أبعد ما يكون عن مجرّد منافسة في سوق العمل، لأن سوق العمل مقسّم بطبيعته على المستوى العالمي بين الدّول وداخل الدّول أنفسها. وهناك تلازم بين حركة رأس المال وحركة الهجرة. ففي سياق الهجرة الداخليّة، والتي تكون في اتجاه واحد من الأرياف إلى المدن التي تشهد حركيّة اقتصادية في الإنتاج الصّناعي والخدماَتي، تكون اليد العاملة بشكل أساسيّ غير مؤهّلة وتشتغل في القطاعات الهشّة والخطرة (البناء، المصانع، العمل المنزلي، عمال النظافة…) وهذا ينطبق على الواقع التونسي. هذه السّمة تميّز أيضا سوق العمل بين الدّول، فالعمالة غير المؤهّلة المتأتيّة من الدّول الفقيرة تعمل بالأساس في الأنشطة الاقتصاديّة التي تعزف عنها نظيرتها في دول الاستقبال.

موجات الهجرة إلى غرب أوروبا وبالأخصّ إلى فرنسا، والتي كان من ضمنها الجيل الأوّل من المهاجرين التونسيّين (1950-1970)، معظمهم كانوا عمّالا احتاجَتهم تلك الدّول في مسار إعادة بناء اقتصاداتها إبّان الحرب العالميّة الثانيّة، لذلك كانت هجرتهم في إطار تخطيط رسمي وتشجيع على الهجرة. وجحافل العمّال الذين وطّنتهم فرنسا كانوا هم “صانعو الخبز” وعماد حقبة “الثلاثون المجيدة (1945-1973)” التي تميّزت بنموّ اقتصادي مرتفع في الدّول الصّناعيّة.

أحدثت “الصّدمة النفطيّة” في عام 1973 أزمة اقتصاديّة في الدّول الصناعيّة كانت ضحيّتها الطبقة العاملة، وبأكثر حدّة المهاجرين بوصفهم خاضعين لحالة هشاشة مضاعفة يتقاطع فيها الظرف الاقتصادي مع مختلف أشكال التّمييز العنصري. بالتوازي مع ذلك، ستشهد ظاهرة الهجرة شيئا فشيئا جملة من التحوّلات البنيويّة كنتيجة لتغيّر سياسات الهجرة لدول الاستقبال التي كانت دائما خاضعة للاستغلال الاقتصادي ولإيديولوجيا الحكم. فعلى سبيل المثال، قامت فرنسا في 1974 خلال عهدة الرئيس اليميني فاليري جيسكار ديستان (1974-1981) بتعليق الهجرة وغلق الحدود واتخاذ حزمة إجراءات قمعيّة تجاه المهاجرين تمتدّ من الدّفع نحو العودة، إلى الطرد الذي شمل أبناء المهاجرين المولودين في فرنسا. ومع اعتلاء فرنسوا ميتران (1981-1995) سدّة الرّئاسة، تمّ التخلّي عن الإجراءات السّابقة وتسوية وضعيّة 130 ألف أجنبي في وضعيّة غير قانونيّة ارتأت السّلطة أنّ البلاد في حاجة إليهم. لكنّ ذلك سيتوقّف سنة 1983 ليفتح الباب أمام عودة سياسة قمعيّة صارمة تجاه المهاجرين تقوم على حملات التثبّت من الهويّة والعودة إلى إجراءات الدّفع “للعودة الطوعيّة”. عزّز ذلك السّياق وعي المهاجرين بممارسات الاستغلال والتمييز التي يتعرّضون لها، وهذا الوعي عكَسته احتجاجات منظّمة على غرار إضراب عمال مصانع السّيارات “ستروان” و”تالبو” عام 1983، وكانت الغالبية العظمى منهم من المهاجرين[8].

ترافقت التغيّرات السياسيّة والتشريعيّة في تناول موضوع الهجرة مع تغيّر في طبيعة قوّة الإنتاج المهاجرة حسب مقتضيات الاقتصاد. لذلك ستكون نقطة ارتكاز سياسات الهجرة منذ ذلك الحين قائمة على الانتقاء والفرز الاجتماعي. فبعد أن بلغت الطاقة الإنتاجية ذروتها ثم أخذت في التراجع، تراجعت معها القدرة على استيعاب العمالة غير المؤهّلة مقابل ارتفاع الحاجة إلى العمالة المؤهّلة تحت تأثير التطوّر التكنولوجي وتوسّع الاقتصاد الخدماتي. في هذا الإطار، عرفت تونس على غرار أغلب دول الجنوب المصدّرة للمهاجرين، بداية من الثمانينات وبالتوازي مع احتداد الأزمة السياسية الاقتصادية الداخلية، حركيّة في الهجرة المنظّمة لأصحاب الشهائد العليا ترافق مع ارتفاع الهجرة غير النظاميّة للعمَالة غير المؤهلة[9].

مثّل تكريس منطقة “شنغن” كفضاء أوروبي مشترك يضمّ 27 دولة، خطوة إضافيّة في مسار التضييق على حريّة التنقّل عن طريق فرض نظام التأشيرة كآليّة فرز للعبور. دخلت إتفاقيّةشنغن حيّز التنفيذ في سنة 1995، لتكون بمثابة الجدار الذي يُعرقل دخول سكّان دول الجنوب إلى “القلعة الأوروبيّة”. مقابل تقييد تنقّل البشر، كان الاتحاد الأوروبي في نفس الفترة يُفاوض دول الجنوب حول تحرير تنقّل السّلع وإزالة الرسوم الجمركيّة، وستكون تونس أول دولة من الضفة الجنوبية للمتوسّط يُوقِّع معها اتّفاق التّجارة الحرّة سنة 1995، تلتها المغرب سنة 1996.

أنتج نظام التأشيرة ظاهرة الهجرة غير النظاميّة أو “الحرقة” في المعجم المحلّي، والتي ما انفكّت تتطوّر كميّا ونوعيّا بفعل مسارات التنمية غير المتكافئة بين ضفّتي الشّمال والجنوب. عند انطلاق الظاهرة في تونس، كان المتدخّلون في العمليّة تونسيين من المهاجرين إلى المنظّمين وكانت المعابر أساسا بحريّة نحو إيطاليا. لكنّ سنة 2011 ستكون بمثابة نقطة التحوّل في ظاهرة “الحرقة” بفعل الهشاشة الأمنيّة في كلّ من تونس وليبيا، فقد توسّعت شبكات الهجرة من شبكات محليّة ضيّقة إلى شبكات عابرة للقارّات تطوّرت فيها الجريمة وخاصّة المرتبطة بالعبوديّة والاتّجار بالبشر. كما خلقَت معابر بريّة جديدة، إضافة إلى المعابر البحريّة، وتغيّرت تركيبة المهاجرين لتضمّ النساء والأطفال وأصبحت تونس عوض ليبيا منطقة عبور أساسيّة للمهاجرين من جنوب الصحراء[10]. ترافقَ تطوّر مسار الهجرة غير النّظاميّة على مستوى عالمي مع سنّ ترسانة من النصوص التشريعيّة والاتّفاقات الثنائيّة ومتعدّدة الأطراف بين الدّول المصدّرة والدّول المستقبلة للمهاجرين تُجرّم حريّة التنقّل. ومنذ نهاية التّسعينات تركّزت السياسات الهجريّة للاتحاد الأوروبي على إفريقيا، وستكون الدّولة التونسيّة ذراعه الصّارمة في تنفيذها عبر لعب دور الحارس لحدوده البحريّة خارج فضائها الرّسمي[11].

يحجب الخطاب اليميني العنصري والمقاربات الأمنيّة تجاه الهجرة بشكليها النّظامي وغير النظامي، دورها كشرط أساسي في توسّع الاقتصادات الرأسماليّة بداية من الأنشطة الاقتصاديّة الصّغرى، وصولا إلى الشركات متعدّدة الجنسيّات التي تعتمد على المهاجرين كعمالة رخيصة للتّخفيض من كلفة الإنتاج لتحقيق فائض ربح. بل أنّ دورها يتجاوز ذلك في الدّول التي تعيش التهرّم الدّيمغرافي، على غرار بعض الدّول الأوروبيّة التي “تتجدّد بمهاجريها”. في هذا الصّدد تتوقّع المفوضيّة الأوروبيّة انخفاض فئة السكّان النشطة بـ52 مليون شخص إلى حدود 2050 داخل الاتّحاد الأوروبي، والذي يحتاج بدوره إلى 20 مليون مهاجر بين 2011 و2030، ليحافظ على موقعه الاقتصادي في العالم[12]. فقضيّة الهجرة ليست قضيّة “إنسانويّة” كما صوّرتها الدّعاية السياسيّة الألمانيّة عند استقبالها لجحافل اللاجئين السوريّين، وإنّما خاضعة بشكل مطلق للسّياسات الهجريّة الأوروبيّة التي تتعامل مع إفريقيا كجيش عمّال إحتياطي تُغطّي به حاجياتها عن طريق آليّتين. الآليّة الأولى تتمثّل في “الهجرة المختارة L’immigration choisie” التي تنتقي فيها دول الاستقبال المهاجرين المؤهّلين بشكل رسمي. وأمّا بخصوص تغطية الحاجيات من العَمالة غير المؤهّلة فتتمّ عن طريق المهاجرين غير النظاميّين كآليّة ثانية براغماتيّة بحكم الوعي باستحالة القضاء على ظاهرة “الحرقة”. ولكن أيضا لتحقيق فوائض إضافيّة قطاعيّة ناتجة عن استغلال فاحش للعمّال مثل ما هو عليه الحال بالنّسبة للقطاع الفلاحي الإيطالي. فالدّولة تغضّ الطّرف عن تشغيل المهاجرين السرّيين في الفلاحة لتترك لهم تحصيل هامش ربح يُعفيها من تدخّلات لدعم القطاع.

يرى الفيلسوف سلافوي جيجك أنّ “الهجرات الكبيرة هي مستقبلنا”[13]، وتَلقى هذه المقولة سندها المادّي في الواقع بالنّظر إلى جحافل المهاجرين النظاميّين وغير النظاميّين وطالبي اللجوء حول العالم. والقارّة الإفريقيّة في قلب هذه الظّاهرة نتيجة مسارات التنمية غير المتكافئة واختلال توزيع الثروة والتغيّرات المناخيّة، إضافة إلى الأزمات السّياسيّة والحروب المتواترة، والتي تتحمّل فيها أوروبا المسؤولية الكبرى نتيجة جرائمها السياسيّة في القارّة وإجهاضها لمحاولات التنمية الاقتصاديّة المستقلّة. إنّ طرح القضايا المتعلّقة بالهجرة واللجوء خارج إطار “الرأسماليّة المعولمة وألعابها الجيوسياسيّة”[14] هو حتما اصطفاف في جوقة اليمين وتبنّي للخطاب القومي العنصري الذي يكرّس الروابط الكولونيالية ويغذّي “البربريّة المتجدّدة” تجاه المهاجرين.


[1]  تصريح للناطق الرسمي للحرس الوطني حسام الدين الجبابلي لإذاعة موزاييك بتاريخ 19 ماي 2024.

[2] المسح الوطني للهجرة الدوليّة، المعهد الوطني للإحصاء والمرصد الوطني للهجرة، ديسمبر 2021.

[3]  تصريح النائب ياسين مامي لإذاعة موزاييك بتاريخ 20 ماي 2024.

[4]  ياسمين عكريمي، بين المقاربة الأمنيّة والعنصرة: تجربة إقريقيا جنوب الصّحراء في تونس، المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، أفريل 2020.

[5] للإطّلاع على مضامين القوانين المذكورة التي تقيّد عمل الأجانب في تونس، أنظر المرجع السّابق.

[6]  جريدة الصّباح، مع تراجع الإنتاج الوطني لزيت الزيتون..تخوفات من تأثير نقص البد العاملة على الصابة، 15 نوفمبر 2022.

[7]  حسب إحصائيّات سنة 2021 للمعهد الوطني للإحصائيّات والدراسات الاقتصاديّة الفرنسي يشكّل المهاجرون من أصول جزائريّة 12.7% ومغربية 12% وبرتغالية 8.6% وتونسية 4.5% وإيطالية 4.1% وتركية 3.6% وإسبانية 3.5%.

[8]  المراجع:

-Vie-publique.fr, Chronologie : les lois sur l’immigration depuis 1974.

-Bassem Asseh, Daniel Szeftel, La gauche et l’immigration Retour historique, perspectives stratégiques, ASILE, IMMIGRATION, INTÉGRATION CONTRIBUTION N°6, Editions fondation Jean Jurès. Janv 2024.

-Ensegnement.Lumni.fr, Ministère de l’éducation nationale st de la jeunesse, La politique d’immigration en France de 1974 à 1983.

[9] Mohamed Kriaa, Diagnostic de la gouvernance de la migration de main d’œuvre en Tunisie: synthèse des recommandations, Organisation internationale du travail, Juillet 2014.

[10] خالد الطّبابي، التقرير السنوي للهجرة 2019، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة.

[11] لمزيد الإطّلاع، أنظر في هذا الصّدد: الميثاق النيوكولونيالي وأجساد السّود المباحة، ألفة لملوم، المفكّرة القانونيّة، نوفمبر 2023.

[12] Jean-Paul Marthoz, L’économie des migrations,  2011, cairn.info.c

[13] Slavoj Zizek, The Non-Existence of Norway: on the refugee crisis, London Review Of Books, sep 2015.

[14]  المرجع السابق.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني