تَشهد العلاقات الرسمية بين تونس وإيطاليا دينامية قوية بعد 25 جويلية 2021. فبالإضافة إلى الزيارات المتبادلة بين رئيس الجمهورية التونسي ورئيسة الحكومة الإيطالية (آخرها مشاركة قيس سعيّد في قمة إيطاليا- إفريقيا المنعقدة بروما في جانفي 2024)، أثمرت هذه الحركيّة جملة من التفاهمات والاتفاقيات التونسية-الأوروبية برعاية إيطالية. وعلى الرغم من كل الحديث عن التعاون وعلاقات الجوار والدعم الاقتصادي، فإن مسألة التصدّي للمُهاجرين غير النظاميين المنطلقين من تونس نحو السواحل الإيطالية وترحيلهم تبقى المحور الرئيسي لكل هذا الحراك الديبلوماسي. ويأتي هذا التقارب التونسي-الإيطالي في انسجام مع تنامي الخطاب الرسمي المُعادي للمهاجرين في كلا البلدين.
في هذا السياق، حاورت المفكرة القانونية مجدي الكرباعي، النائب السابق في مجلس نواب الشعب التونسي (2019 – 2021) كممثل عن التونسيين المقيمين في إيطاليا، والذي عُرفَ فضلا عن عمله السياسي بنشاطه في مجال الدفاع عن حقوق المهاجرين في إيطاليا، وحتى قضايا أخرى تهمّ العلاقة بين البلدين ومن أبرزها قضية “النفايات الإيطالية” المورّدة إلى تونس. وكان الحوار فرصة لاستطلاع موقفه من التقارب الرسمي بين البلدين وتكثيف التنسيق الأمني بينهما، وتقييمه لانعكاسات هذه التطورات على أوضاع المهاجرين التونسيين في إيطاليا.
المفكرة القانونية: قضايا الهجرة غير النظامية كانت من بين المسائل المجتمعيّة والسياسيّة المسكوت عنها خلال فترة حكم بن علي، لكن بعد ثورة 2011 صارت تحظى بحضور مهم في النقاش العام ووسائل الإعلام والدراسات الأكاديمية وحتى الخطاب السياسي. كما تأسّست جمعيات ومنظمات تعنى بهذه المسألة. هل تأثّر هذا الزخم بالمناخ السياسيّ السائد في تونس بعد 25 جويلية 2021؟
مجدي الكرباعي: فعلا، لم تَكن هذه القضايا موضع تداول في الإعلام والمجال السياسي قبل 2011، وحتى مجتمعيا لم يكن يُنظر إليها كظاهرة تسترعي الانتباه الشديد. يسمع الجميع عن “الحرقة” (الهجرة غير النظامية) ومجموعات صغيرة من الشباب أغلبهم من شرائح اجتماعية مُهمّشة يركبون البحر باتجاه ايطاليا، لكن حتى عدديا كانت الظاهرة محدودة. كما أن القوانين والسلطات التونسية كانت متشددة جدا، ومن يتم إلقاء القبض عليه وهو بصدد اجتياز الحدود يجد نفسه مُعرّضًا لعقوبات سجنية. طبعًا كانت هناك حوادث غرق ومفقودين وعمليات ترحيل للمهاجرين من إيطاليا، لكن سياسة التعتيم والمحدودية النسبية للظاهرة لم تمنحا قضايا الهجرة غير النظامية هامشا كبيرا من الاهتمام.
بعد الثورة تغيّرت الأمور. فمن جهة تضاعفت أعداد “الحراقة” (مهاجرون غير نظاميين) وتزايدت الحوادث والمآسي المرتبطة بعمليات “الحرقة”. ومن جهة أخرى سَمحَ الوضع السياسي بتناول هذه المسائل بحرية. وشخصيا كنت أخوض في هذه القضايا بشكل متواتر في وسائل الإعلام وفي البرلمان عندما كنت نائبا. هذا الاهتمام، أو بعبارة أدقّ الخوض والنقاش في قضايا الهجرة غير النظامية، تراجَعَ بكل تأكيد بعد 25 جويلية 2021. وهنا يجب أن نشير إلى مفارقة: فما بين 2016 و2019، تراجعَت أعداد التونسيين الوافدين على السواحل الإيطالية إلى بضعة آلاف، حتى أنها لم تتجاوز 2500 “حارق” في سنة 2019. لكن ابتداء من 2020 عادَت الأرقام إلى الارتفاع بشكل كبير، حيث سجّلَت تلك السنة وصول 12 ألف مهاجر غير نظامي، ثم أكثر من 15 ألف في سنة 2021 وأكثر من 18 ألف في سنة 2022 ونفس الرقم تقريبا في 2023. هذا يعني أن ظاهرة “الحرقة” أخذت بعد 25 جويلية أبعادا جديدة، سواء من حيث الأرقام أو المخاطر، لكن في الوقت نفسه تراجَعَ الخوض فيها أو بالأحرى تَغيّرَ الخطاب الرسمي ومنحى النقاش. ثمّة أمرين يُهيمنان اليوم على النقاش حول الهجرة في تونس: الخطاب المعادي للمهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء العابرين لتونس باتجاه أوروبا، والمفاوضات مع الإيطاليين والأوروبيين للوصول إلى اتفاقيات هدفها التصدي للهجرة غير النظامية انطلاقا من السواحل التونسية، سواء تعلّقَ الأمر بالتونسيين أو أفارقة جنوب الصحراء. أصبح النقاش حول الهجرة ينحصر في مسألة وقف تدفق المهاجرين.
المفكرة: كيف يتفاعل الإعلام والرأي العام والسياسيون في إيطاليا مع الخطابات الرسمية والممارسات التي تستهدف المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس؟
الكرباعي: بكلّ تأكيد، هناك متابعة لما يحدث في تونس ولمَا يصدر عن سلطاتها الرسميّة فيما يخصّ الهجرة غير النظامية، سواء من الإيطاليين المعادين للمهاجرين أو المدافعين عن حقوقهم. عندما يتحدّث الناطق باسم الإدارة العامة للحرس الوطني حسام الدين الجبابلي عن منع السلطات التونسية لقرابة 80 ألف مهاجر من الوصول إلى السواحل الإيطالية في سنة 2023، فهذه أرقام تتلقّفها الحكومة الإيطالية والأوساط المعادية للمهاجرين وتُوظّفها في البروباغندا والتدليل على نجاح السياسات الإيطالية في التصدي للهجرة غير النظامية. ومن ناحية أخرى، خطاب السلطة السياسية في تونس وتعاون السلطات الأمنية التونسية مع نظيرتها الايطالية، يُحثان الإيطاليين على دعم الرئيس سعيّد باعتباره حليفا في التصدي للهجرة غير النظامية؛ دعم سياسي ومالي. بالإضافة إلى المبالغ التي تم الاتفاق حولها عند توقيع مذكرة التفاهم حول “الشراكة الاستراتيجية والشاملة”. إذ رصدت مؤخرا الحكومة الإيطالية 3 ملايين يورو لتمكين تونس -بالتنسيق مع المنظمة الدولية للهجرة- من ترحيل مهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء نحو بلدانهم. لكن هناك منظمات إيطالية مثل “الجمعية الإيطالية للدراسات القانونية حول الهجرة” تقدّمَت بطعن لتعطيل تحويل هذه المبالغ إلى تونس مبررة موقفها بعدم احترام السلطات التونسية لحقوق الإنسان وقيامها بعمليات ترحيل قسري غير قانوني للمهاجرين واستهدافها لهم باعتداءات مختلفة وتركهم في الصحراء مما أدى إلى وفاة بعضهم.
هناك متابعة وردود فعل حتى فيما يتعلق بتصريحات وزير الداخلية التونسي المثيرة للجدل مثل التي أدلى بها مؤخرا في البرلمان (خلال جلسة عامة بتاريخ 6 مارس 2024)، وكثيرا ما تتّصل بي منظمات إيطالية للتعليق حول ما يَرِد في الخطاب الرسمي التونسي بخصوص مسائل الهجرة. فمثلما استوردنا في تونس مصطلحات ومفاهيم تتبع أقصى اليمين الأوروبي وتُحذّر من الخطر الثقافي والديمغرافي والأمني الذي يُشكّله المهاجرون على دول الاستقبال، فهناك اليوم استعادة واستغلال للخطاب المعادي للمهاجرين الذي يُبثّ في تونس من قبل العنصريين في إيطاليا: “انظروا، حتى التونسيون واعون بخطر الهجرة ويسعون إلى حماية هويتهم العربية الإسلامية وتركيبتكم الديمغرافية من أفارقة جنوب الصحراء. فلماذا نُلام عندما نفعل نفس الشيء ونريد حماية حدودنا وهويتنا؟” و”الاستبدال الكبير ليس نظرية مؤامرة ولسنا الوحيدين الذين نُحذّر منه، هناك شعوب أخرى حتى في الجنوب تُدرك هذه المخططات وتسعى لإفشالها”. هكذا يَستعمل إيطاليون من أقصى اليمين الخطابات والممارسات المعادية للمهاجرين في تونس لتبرير خطاباتهم وسياسَاتهم العنصرية تجاه المهاجرين في إيطاليا.
المفكرة: الزيارات المتبادلة ومظاهر التقارب الرسمي الملحوظ بين القيادتين التونسية والإيطالية، والتي تُوّجت بتوقيع مذكرة التفاهم حول الشّراكة الاستراتيجية والشّاملة بين تونس والاتّحاد الأوروبي، هل تصبّ في مصلحة المهاجرين التونسيين، أم تُعقّد وضعيتهم أكثر؟
الكرباعي: شخصيّا لم ألحظ أيّ تحسّن في أوضاع التونسيين في إيطاليا. على العكس من ذلك، هناك تضييق أكبر على المهاجرين غير النظاميين. في سنتي 2022 و2023 سجّلنا ارتفاعا كبيرا في عدد عمليات الترحيل نحو تونس: أكثر من 2300 شخص خلال سنة 2022 ويُنتظر أن يكون العدد مماثلا أو أكبر بالنسبة لسنة 2023 في انتظار صدور الإحصائيات الرسمية من الجانب الإيطالي. عدد التونسيين الموجودين في مراكز الاحتجاز يشهد هو الآخر ارتفاعا ملحوظا في السنوات الأخيرة. حتى بعض الإجراءات الاستثنائية مثل “الحماية الخاصة” التي كانت تُمنح لبعض المهاجرين غير النظاميين المحتجزين تمّ التراجع عنها. كلّ ما حصل أن إيطاليا صارت تعتبر تونس نموذجا يُحتذى به في مجال التصدي للهجرة غير النظامية وتريد أن تُوقعَ مع بلدان أخرى على اتفاقيات مشابهة لمذكرة التفاهم حول الشراكة الاستراتيجية والشّاملة التي وقعتها تونس. في الأيام القادمة (17 مارس 2024) ستتحول رئيسة الوزراء الايطالية جورجيا ميلوني إلى مصر مصحوبة برئيسة المفوضية الأوروبية للتباحث حول هذا الموضوع.
المفكرة: يشدّد الخطاب الرسمي في تونس على عدم نجاعة الحلّ الأمني في مواجهة الهجرة غير النظامية، وضرورة تبني مقاربات اقتصادية/تنموية وإنسانية عادلة، ويؤكد على عدم استعداد تونس للعب دور حارس لحدود أوروبا. لكن في الوقت نفسه، يؤكد وزير الداخلية الإيطالي أن تعاون السلطات الأمنية التونسية والليبية منعَ وصول 122 ألف مهاجر غير نظامي إلى إيطاليا خلال سنة 2023. هل تغيّرَت المعادلات القديمة فعلا؟
الكرباعي: هناك فرق شاسع بين الخطاب الرسمي والوقائع على الأرض. الحلول الأمنية هي الأكثر حضورا، عندما تقوم السلطات الأمنية التونسية باعتراض حوالي 80 ألف مهاجر غير نظامي في طريقهم إلى إيطاليا فهذا حلّ أمني. وعندما تُوافق على ترحيل آلاف التونسيين من إيطاليا إلى تونس -من بينهم من يستطيع تسوية وضعيته- فهذا حلّ أمني أيضا. عندما تَستعمل خطابا معاديا للمنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق المهاجرين وتتّهمها بتسهيل قدوم المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس وخدمة “مخطّطات التوطين” فهذا يعني أننا ما زلنا ضمن الحل الأمني. ما زلنا ضمن معادلة التعاون الأمني مقابل المساعدات المالية.
المفكرة: لكن، ألا تَعتبر الاتفاقية الأخيرة أفضل من سابقاتها، فتونس استطاعت الحصول على محفزات مالية أكبر ويُفترض أننا إزاء اتفاق شراكة سيوفّر تمويلات لمشاريع تنموية وفُرَص عمل؟
الكرباعي: صحيح تونس ستتحصّل على أموال أكثر. وهذا يعود بكل بساطة إلى تطوّر أدائها وجهودها في التصدي للهجرة غير النظامية. يعني استطاعت السلطات الأمنية منع عدد كبير من “الحرّاقة” وفي المقابل ستصرف أوروبا مبالغ أكبر. ما زال الحل الأمني هو الأساس، والمعادلة القديمة للعلاقة بين الأوروبيين ودول الجنوب ما تزال قائمة ولم تتغير. ثم إن هذه المساعدات المالية لن تحلّ مشاكل تونس، إذ أنّ أزمتنا أعمق واحتياجاتنا أكبر بكثير. حتى الـ ـ150 مليون يورو التي منحهَا الاتحاد الأوروبي لتونس مؤخرا في إطار برنامج دعم الإصلاحات الاقتصادية الكلية لن تذهب إلى التنمية، بل ستُضخّ في ميزانية الدولة لتقليص العجز.
المفكرة: حسب الأرقام التي قدمها وزير الداخلية الإيطالي، تم ترحيل 2308 مهاجر تونسي من إيطاليا نحو تونس خلال سنة 2023، كيف تتم عملية الترحيل؟
الكرباعي: هناك مَسارَات مختلفة ومراحل متعددة. بداية، يتم فرز التونسيين الذين يصلون إيطاليا عبر جزيرة “لامبدوزا”. لا يتم احتجاز العائلات والقصّر. أما الشباب والكهول و”المعاوِدين” (من سبق لهم الوصول إلى إيطاليا بطريقة غير نظامية ووقع ترحيلهم إلى تونس) فيتم الإبقاء عليهم في مراكز احتجاز هي عمليا بمثابة سجون، حيث لا يُسمح لهم بالخروج والتواصل مع العالم الخارجي وحتى التحدث إلى محامين، وهناك تقارير عُرضَت أمام البرلمان الإيطالي تتحدث على إجبار المحتجزين على تناول أدوية مهدئة للسيطرة عليهم وتجنّب مقاومتهم. يُحتجزون في انتظار ترحيلهم إلى تونس. في السابق، كانت مدة الاحتجاز القانونية ثلاثة أشهر يمكن تمديدها ـ45 يوما، وعند نهاية هذه الآجال القانونية دون ترحيل المهاجر المحتجز يتمّ إطلاق سراحه. قبل الترحيل يتمّ عرض المهاجرين التونسيين على قنصل تونس في “باليرمو” أو موظف من القنصلية حتى يُصدرَ جوازات المرور التي تَعني موافقة الدولة التونسية على استقبال هؤلاء المرحّلين. وهناك رحلات أسبوعية بين إيطاليا وتونس لإيصال المُرَحَّلين إلى مطار طبرقة (ولاية جندوبة شمال تونس)، وعادة ما يكون ذلك يومي الاثنين والخميس. تقوم الشرطة الإيطالية بوضع المُرَحَّلين في الطائرة مع تقييد أيديهم وأقدامهم، وعند وصول الطائرة إلى تونس تصعد الشرطة التونسية إلى الطائرة وتستلم المرحلين. وبعد التفتيش والإجراءات الإدارية تُطلق سراحهم. الترحيل لا يقتصر على التونسيين الذين يُحتجزون لدى وصولهم “لامبيدوزا” الإيطالية، بل يشمل كذلك المُقيمين في إيطاليا منذ مدة طويلة، إما لأنهم لا يملكون أوراق إقامة قانونية أو لأن هذه الأوراق انتهت مدة صلاحيتها ولم يستطيعوا تجديدها.
المفكرة: في إطار تشديد سياستها الهجرية، أصدرت إيطاليا عدة مراسيم وقوانين تتعلق بالمهاجرين غير النظاميين وطالبي اللجوء في سنة 2023، ما هي أبرز القرارات وما هي انعكاساتها المحتملة على المهاجرين التونسيين؟
الكرباعي: أهمّ هذه القرارات هو التمديد في فترة الاحتجاز وانتظار الترحيل لتصل إلى 18 شهرا، بعد أن كانت 3 أشهر قابلة للتمديد بـ 45ـ يوما. كما تمّ تقويض إمكانية التمتع بـ”الحماية الخاصة”. في السابق، كان بإمكان طالبي اللجوء من التونسيين وغيرهم التمتع بثلاثة أصناف من الحماية الدولية: اللجوء (للحماية من اضطهاد الأفراد على أساس سياسي، أو ديني، أو عرقي، أو جنسي) والحماية الفرعية (للحماية من خطر الإعدام والمعاملة اللاإنسانية والحرب) والحماية الخاصة التي تُمنَح لمن لا تَنطبق عليهم معايير الصنفين الأولين لكن تُراعى حالتهم العائلية-الاجتماعية أو الجسدية أو النفسية وحتى آثار الكوارث الطبيعية. تَمتَّع بعض المهاجرين التونسيين غير النظاميين أو المقيمين بشكل غير قانوني بالحماية الخاصة، لكن لم يعُد هذا الخيار متوفرًا اليوم. هناك أيضا المرسوم الصادر في سبتمبر 2023 والذي يَفرض على طالبي اللجوء ممّن رُفضِت ملفاتهم وينوون الاستئناف دفع مبلغ قيمته حوالي 5000 يورو أو البقاء في مركز احتجاز في انتظار القرار النهائي. وتَجدر الإشارة هنا إلى أنّ عدة قضاة إيطاليين تحدّوا هذا المرسوم وأبطلُوا قرارات احتجاز طالبي لجوء رُفضَت ملفاتهم، ومن بينهم تونسيون.
المفكرة: من خلال متابعة ما تنشره بعض وسائل الإعلام التونسية والإيطالية، نلاحظ تواترًا لحوادث التعذيب وسوء المعاملة التي يتعرّض لها تونسيون في مراكز الاحتجاز والسجون في إيطاليا.
الكرباعي: في 14 مارس المقبل، ستنطلق محاكمة المسؤولين عن تعذيب مواطن تونسي خلال فترة الاحتفاظ به في مركز الاحتجاز. وهناك أدلة مصورة على هذه الحادثة. كانت السلطات الإيطالية تنوي ترحيله إلى تونس، لكن تحركنا مع منظمات إيطالية لإيقاف عملية الترحيل وفتح تحقيق في مسألة التعذيب. وهذه ليست حادثة معزولة. فقد سجّلنا عدة شكاوى من سوء المعاملة في مراكز الاحتجاز وحتى في السجون. في نوفمبر 2021 تُوفي مواطن تونسي (وسام عبد اللطيف) يبلغ عمره 24 سنة في مركز احتجاز وتواصلت السلطات الإيطالية مع السلطات التونسية لتبليغ عائلة المتوفي بأن ابنها تُوفيَ على إثر نوبة قلبية وأن جثمانه سيُنقل إلى تونس. اتّصلت بي العائلة وعبّرَت عن استغرابها من سبب الوفاة المعلن نظرا لصغر سنّ المتوفي وحالته الصحية الجيدة، ورجتني أن أستفسر أكثر عن الموضوع. تواصلت مع نواب إيطاليين واستطعْنا تعطيل نقل الجثمان إلى تونس وطالبنا السلطات الإيطالية بتشريح الجثة وفتح تحقيق. تبيّنَ فيما بعد أن المتوفي أُصيب بنوبات غضب متتالية فنُقل إلى قسم الحالات النفسية الاستعجالية، حيث ظل طيلة 72 ساعة مقيّدًا إلى الفراش وتمّ حقنه بكمية من الأدوية تسبّبت في موته. ومؤخرا -نوفمبر 2023- وجّهَ القضاء الإيطالي إلى ممرضة تهمَة حقن وسام عبد اللطيف بدواء خاطئ. وهناك أيضا حالات وفاة في مراكز الاحتجاز والسجون وخارجها يلفّها الغموض ولم تضغط السلطات التونسية للحصول على توضيحات أو فتح تحقيقات جدية.
المفكرة: لكن ماذا عن دور البعثات الديبلوماسية التونسية؟ إيطاليا هي ثاني أكثر بلد في العالم -بعد فرنسا- تتواجد به تمثيليات ديبلوماسية لتونس، من الجنوب إلى الشمال مرورا بالعاصمة روما.
الكرباعي: المشكل الأساسي يتعلق بالكفاءة. كثير من التعيينات في البعثات الديبلوماسية تَخضع لمنطق الموالاة والترضيات وتَتدَاخل فيها عدة أطراف سياسية وحتى نقابية، سواء تعلّق الأمر بملحقين اجتماعيين أو سفراء وغيرهم. هناك من يتولّى منصبا دون أن تكون له المؤهلات اللازمة، ومنهم من لا يُتقن اللغة أو ليست لديه معرفة جيدة بأوضاع الجالية التونسية أو علاقات متينة مع مختلف الأطراف ذات العلاقة بالهجرة، ممّا يُصَعّب تفاعله مع المشاكل التي تعترض المهاجرين. وهناك من يتعامَل مع المناصب الديبلوماسية كفرصة تمكّنه من تحصيل راتب بالعملة الصعبة والحصول على امتيازات ضريبية عند العودة إلى تونس. يلتحقون بالبعثة الدبلوماسية ويَلزَمون مكاتبهم من دون بذل جهود في الاقتراب من المهاجرين والاطلاع على مشاغلهم وزيارة مراكز الاحتجاز والسجون، أو التواجد في التظاهرات والمبادرات ذات العلاقة بمسائل الهجرة.
هذا التقصير في التواصل مع التونسيين في إيطاليا والتفاعل مع مشاكلهم وحمايتهم عندما يتعرضون لمختلف أشكال الانتهاكات يُشجع السلطات الإيطالية على التمادي أكثر، ويُقوّي احتمالات تعرض المهاجرين إلى ممارسات لاإنسانية وخطيرة. هذا التقصير يَشمل حتى الموتَى: في أكتوبر الفائت غرقَ قارب هجرة غير نظامية وتم العثور على جثث تونسيين تمَّ التعرف على هوياتهم بعد إجراء فحوصات الحمض النووي ومقارنتها بفحوص عائلاتهم في تونس. وكان يُفترَض بعد ذلك أن تَسعى السلطات التونسية إلى استلام الجثامين من السلطات الإيطالية ونقلها لتُدفَن في تونس. لم يحدث هذا. وفي 18 جانفي 2024، بعد أشهر من الاحتفاظ بالجثث في مشرحة المستشفى دفَنَت السلطات الإيطالية جثامين ستة مهاجرين تونسيين في مدينة “مازارَا” الإيطالية من دون أن يتمّ إعلام عائلاتهم. وعندما أَثرتُ هذا الموضوع في الإعلام التونسيّ، أصدرت وزارة الخارجية التونسية بيانا تنفي فيه ما اعتبرته مغالطات وتؤكد من خلاله أنّها متابعة للملف وعلى تواصل مع السلطات الإيطالية وعائلات المهاجرين لنقل الجثامين سريعا. لكن بعد أسابيع من صدور هذا البيان، لا تزال الجثامين مدفونة في الأراضي الإيطالية ولا جديد في الملف.
المفكرة: ملف “الحراقة” المفقودين فُتح في فيفري 2011 ولم يُغلق إلى اليوم. تقدّر السلطات التونسية عددهم بالمئات، في حين تتحدث بعض المنظمات عن آلاف المفقودين. هل لديكم تقديرات لأعدادهم؟ من يتحمّل مسؤولية كل هذا التعثّر في الملف؟
الكرباعي: من الصعب إعطاء رقم دقيق، لكن شخصيا أقدّر عدد المفقودين بأكثر من 1000 شخص من مطلع سنة 2011 إلى اليوم. بكل تأكيد هناك تقصير من جهات عدة. مثلاً الوكالة الأوروبية لمراقبة وحماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي “فرونتكس” (FRONTEX) تقوم بدوريات استطلاع ومراقبة لقوارب المهاجرين غير النظاميين ويمكن أن توفر معلومات. بعد حادثة مركب “كوترو” (وفاة 94 مهاجرا غرقا بالقرب من سواحل بلدة كوترو الإيطالية) أكّدَ بعض الناجين أنه بعد غرق المركب وانتظارهم الإغاثة حوّمَت في السماء طائرة للوكالة الأوروبية واستطلَعت الموقع. على إثر هذه التأكيدات تحرّكت منظمات وشخصيات إيطالية لمطالبة “فرونتكس” بتسليم تسجيلات العملية الاستطلاعية. رضخَت الوكالة للضغوط وسلّمَت فيديوهات تَظهر فيها وجوه وجثث بشكل واضح، مما يسهل التعرف على هوياتهم. وحتى إن لم تمتلك الوكالة تسجيلات لكل حوادث غرق قوارب المهاجرين أعتقد شخصيا أن لديها بكل تأكيد سجلّ كبير من التسجيلات التي يُمكن أن تساعد السّلطات وأهالي المفقودين في التعرف على مصير بعضهم. لكن من البديهي أن الوكالة لن تتعاون بشكل تلقائي، فهذه التسجيلات يمكن أيضا أن تتحوّل إلى دليل إدانة ضدّها بسبب عدم تحرّكها لإغاثة المهاجرين الذين غرقَت مراكبهم. وأرى أن تضغط عائلات المفقودين على السلطات التونسية لكي تطالب الاتحاد الأوروبي بإتاحة الاطلاع على أرشيف “فرونتكس”، وقد لا نجد معلومات عن كل المفقودين وإجابات ترضي كل العائلات، لكن سيَحدث تقدّم أكيد في الملف.
المفكرة: بعيدا عن مسألة الهجرة غير النظامية، كيف يتفاعل التونسيون المقيمون في إيطاليا مع الحرب على غزة؟
الكرباعي: طبعًا تحركت الجالية التونسية في إيطاليا وشاركت في عدة مظاهرات وتحركات للتعبير على التضامن مع غزة وفلسطين والمطالبة بوقف الحرب. لكن مدى قوة وتأثير هذه التحركات يرتبط أيضا بمدى تفاعل الرأي العام الإيطالي مع الحرب وموقفه منها. كما أن هناك بعض المخاوف لدى المهاجرين في إيطاليا بسبب التضييقيات على حرية التعبير عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، وحتى خشية التتبع القضائي أو الترحيل. ولا يتوقف الأمر عند حدود إيطاليا، ففي الآونة الأخيرة كشف طلبة تونسيون تقدموا بملفات للحصول على تأشيرة الدخول إلى إيطاليا أنه تم استدعاؤهم لحضور مقابلة إضافية داخل السفارة الايطالية في تونس. وقد أكدّ عدد من هؤلاء الطلبة أنه طُرحَت عليهم أسئلة لا علاقة لها بطلب التأشيرة، مثل موقفهم من الحرب على غزة وحتى التبرعات والمساعدات التي يجمَعها الهلال الأحمر التونسي لصالح الفلسطينيين. بعد ذلك، فوجئ مئات الطلبة بأن مطالبهم رُفِضت ولم يمنحوا التأشيرة. وقاموا بعدة تحركات ووقفات احتجاجية أمام مقرات القنصلية والسفارة الإيطاليتين في تونس. ما تعرّض له هؤلاء الطلبة يدلّ مرة أخرى على أن كل الكلام عن مذكرات تفاهم واتفاقيات شراكة وتعاون وتسهيل تنقل المواطنين بين الضفتين لا معنى له، وأن موازين القوى الحقيقية هي التي تحدّد طبيعة العلاقات بين تونس وإيطاليا والاتحاد الأوروبي عموما.