“
يقوم تصور السلطة المحلية كما أرساه الباب السابع من الدستور على فكرة أساسية هي الاعتراف للجماعة المحلية بالحق في تدبير صلاحياتها بشكل حر[1]. ويقطع هذا التصور مع التصور الذي كان مكرسا في التعاطي مع هذه الجماعات، والذي يفرض وصاية قبْلية وبعْدية للإدارة المركزية على أعمالها. أدّى تنزيل هذا المبدأ بمجلة الجماعات المحلية إلى تراجع معتبر لدور الإدارة المركزية في إدارة الجهة لم يكن معهودا سابقا في التصور الإداري التونسي، وفرض حضورا لفاعل جديد في مجال علاقة السلط الإدارية تمثل في القضاء الإداري.
فقد أسند الواقع الجديد للقضاء الإداري أدوارا متعددة، تجعل منه شريكا في صناعة السلطة المحلية وحمايتها في سياق تطور هام لتصور الوظيفة القضائية يتعين الوقوف عنده بتفصيل أوجه هذا التدخل والذي يبدأ بدعم الجماعة المحلية انطلاقا من الدور الاستشاري وصولا إلى خلق توازن ديمقراطي بين سلطة مركزية وسلطة محلّية قوامها الديمقراطية التشاركية.
الدعم والمساندة: الدور الاستشاري
أعلنت مجلّة الجماعات المحلّية القاضي الإداري مستشارا قانونيا لها، مستندة على خبرته في تنمية قدراتها. فالاستشارة القانونية المنصوص عليها صلب مجلّة الجماعات المحلّية والتّي يقدّمها القاضي الإداري للجماعة المحلية هي استكشاف للرأي القانوني بخصوص مسألة معيّنة قد تكون محل نزاع أمام القضاء أو قد يقع مستقبلا، حتى تكون أعمالها وتصرفاتها مطابقة للقانون. فهي استشارة اختيارية لأنّها تكون بناء على طلب من الجماعة الترابية، فالوظيفة الاستشارية للقاضي الإداري تشكل وسيلة من وسائل تحضير القرار وأداة للوقاية من النزاع[2].
حماية الجماعة المحلية من هيمنة المركز
يمنح تكريس مبدأ التّدبير الحرّ الجماعات حريّة أكبر في سير مرافقها وتدبير شؤونها إداريا وماليا وتعاقديا بما يمنحها حريّة اختيارها لطرق تدبير هذه المرافق. وهو ما يقتضي أن تكون مستقلّة عن أيّ جهة وأن لا تتدّخل السلطات المركزية في اختياراتها وتصوراتها التنموية. فالتخلّي عن الوصاية الإدارية والمالية وتعويضها بالمراقبة الإدارية البعْدية وتعزيز دور القاضي الإداري في البتّ في المنازعات التّي قد تحدث في هذا الشأن يعزّز هذه الاستقلالية. لذلك، أسندت للجماعات المحلية اختصاصات واسعة لتمكينها من الاستقلالية اللازمة[3] حتّى تقوم بمهامها. فمجلّة الجماعات المحلّية تضمّنت انتقالا واضحا من المفهوم التقليدي لسلطة الإشراف إلى مفهوم متطور يقوم على إرساء التعايش بين السلطتين عوض إخضاع سلطة منتخبة لوصاية الحكومة[4].
ولهذه الغاية، تعتمد المجلة على مساهمة القضاء الإداري في الرقابة على الجماعات الترابية. فلم تتحدّث المجلّة عن خضوع جماعة ترابية لسلطة مركزية بل احتذت في ذلك حذو القانون الفرنسي الذي ألغى الرقابة الإدارية المسبّقة على الهيئات اللامركزية ووضع مكانها رقابة إدارية بعدية تتمثل في رقابة القضاء الإداري[5]. فهذا الأخير يتدّخل للحدّ من وصاية الدولة على الجماعات من خلال منحها حرية إدارية ومالية واستقلالا ضريبيا ويتدّخل لحماية الفاعلين الاقتصاديين المحليين وحماية حرية المبادرة ومبدأ المساواة والشفافية وتكافؤ الفرص وينظر في الامتيازات الجبائية التي تمنح للمستثمرين لتكون بذلك الجماعات التّرابية قادرة على توفير موارد مالية وإمكانيات كافية تضمن لها تغطية نفقات ممارستها لاختصاصاتها وإنجازها للمشاريع المحليّة وتحقيق تنمية اقتصادية محلية وضمان استقلالية فعلية عن السلطة المركزية.
لكن يلاحظ هنا أنّ عناصر الاستقلالية المشار إليها سابقا تظلّ غير كافية ما لم تتوفّر للجماعات موارد مالية ذاتية تعطيها الاستقلالية والحريّة في تحديد اختصاصاتها. ولعلّ ما تعيشه مختلف الجماعات التّرابية في بلادنا اليوم من ضعف مواردها البشرية وقلّة مواردها الذاتية وما تواجهه من صعوبات في تغطية نفقاتها وغياب تنوّع مداخيلها الجبائية، من شأنه أن يعرقل تكريس الاستقلالية الإدارية والمالية لها بل أن يمسّ من مصداقية مبدأ التّدبير الحرّ المكرّس دستورا وقانونا.
حماية وحدة الدولة من جنوح الاستقلالية
لئن مكّن النظام اللامركزي السلطة المحلية من تسيير شؤونها من دون حاجة للرجوع إلى السلطة المركزية من خلال مبدأ التّدبير الحرّ، فإنّ هذه الاستقلالية لا تعني الانفصال المطلق أو انعدام أيّ علاقة بين هؤلاء الأشخاص والدولة. لا بل تبقى العلاقة قائمة بموجب نظام الوصاية الإدارية التّي تعتبر أداة قانونية دائمة ومستمرة بين الجماعات الترابية والسلطة المركزية، تسمح باتخاذ القرار بالطريقة والكيفية المضبوطة قانونا.
تعدّ الوصاية الإدارية ضمانة للحفاظ على مشروعية أعمال وتصرفات الأجهزة الإدارية اللامركزية كي لا تتناقض مع المصلحة العليا للدولة ومقتضيات المرافق السيادية. فالدّولة في جميع الأحوال لا يمكنها أن تتخلّى عن اختصاصاتها في مجال المراقبة الإدارية، حتّى وإن تطوّرت إلى شكل من أشكال الرقابة البعدية تفاديا لخرق القوانين والانحرافات التّي يمكن أن تمسّ بمصداقية مبدأ التدبير الحرّ.
وتكريسا لهذا التوجّه جعلت المقتضيات الدستورية والقانونية الجديدة من القاضي الإداري الجامع بين نقيضين: سلطة مركزية وسلطة لامركزية من خلال بسط رقابة تتناسب مع خصوصيات السلطتين وخلق توازن ديمقراطي للدولة من خلال سعيه للجمع بين وحدة الدولة واستقلال جماعاتها وضمانه لشفافية العلاقة بينهما وإرساء سلطة تنظيمية محلية[6]. ويؤمن القضاء الإداري هذا الدور من خلال فرض احترام القوانين المنظّمة لاختصاصات المجالس المحليّة والمساهمة في تحقيق التوازن بين الصالح العامّ الوطني والصالح العام المحلّي من خلال المراقبة القبلية.
فرض الديمقراطية التشاركية في الممارسة
يعدّ التّدبير الحرّ مبدأ دستوري نصّ عليه الدستور في الفصل 132 وهو ما يجعل تطبيقه أمرا مؤكدا لضمان بناء الثقة بين الجماعات الترابية والمواطن من خلال مشاركته في أخذ القرارات المتعلقة بالمشاريع المحلية وتفعيل الديمقراطية التشاركية على المستوى المحلّي. وتعرّف الديمقراطية التشاركية بكونها مجموعة الإجراءات والآليات والوسائل التّي تسمح للمواطنين بالانخراط المباشر في تسيير الشأن العامّ المحلّي ومناقشة الشؤون العمومية المحلّية واتّخاذ القرارات المتعلّقة بهم. وفي هذا الشأن ينصّ الفصل 139 من دستور 26 جانفي 2014 على أن: “تعتمد الجماعات المحلّية آليات الديمقراطية التشاركية ومبادئ الحوكمة المفتوحة لضمان إسهام أوسع للمواطنين والمجتمع المدني في إعداد برامج التنمية والتهيئة الترابية ومتابعة تنفيذها طبقا لما يضبطه القانون”. ومن مزايا هذه الديمقراطية، إفساح المجال للمتساكنين للنهوض بمنطقتهم اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وتعزيز روح المسؤولية الجماعية في اتّخاذ القرارات من خلال الاستماع إليهم وتشريكهم في حياة الجماعة. فالديمقراطية التشاركية تضمن مساهمة المواطنين ومشاركتهم في اتّخاذ القرارات المعلّقة بشؤونهم المحلّية. وممّا لا شكّ فيه أنّ القاضي الإداري يلعب دورا اجتماعيا مميّزا لتفسير آليات الدّيمقراطية التشاركية وتوضيح إجراءاتها وتحديد وسائلها لضمان مساهمة فعالة للمواطنين في الشأن المحلّي من خلال دوره الاستشاري وتبنّيه للحلول اللازمة وتصدّيه للنّزاعات المعروضة. فالقاضي الإداري يسعى إلى إيجاد توازن بين المصالح المشتركة لكل من الجماعات المحلية والأفراد والتوفيق بين حاجة كل منهما للآخر[7]. يلاحظ هنا أنّ نجاح الديمقراطية التشاركية لا تلقى على عاتق الدّولة وإنّما هي مسؤولية المجالس المنتخبة التّي يتوجّب عليهم الانفتاح على المجتمع المدني بمختلف مكّوناته وعلى المواطنين الذّين لهم مكانة متميّزة في تحقيق التنمية المحلّية كشركاء للجماعات من خلال وضع وتنفيذ وتقييم ومتابعة البرامج والسياسات العمومية.
خاتمة:
يساهم مبدأ التّدبير الحرّ في تطوير المسار اللامركزي من خلال جعل الجماعات التّرابية أكثر استقلالية عن الإدارة المركزية من النّاحية الإدارية والتّنظيمية، مع احترام مبدأ وحدة الدّولة والضوابط الدستورية والقانونية والتّي لا تحدّ من حريّة الجماعات في تدبير شؤونها. ومن أبرز مقومات نجاح هذا المسار، وضوح العلاقة بين الجماعة الترابية والإدارة المركزية من خلال ممارسة هذه الجماعات صلاحياتها في إطار مبادئ التّدبير الحرّ، وهي علاقة تزداد وضوحا بتدّخل متميّز للقاضي الإداري. ولئن منح الدستور والقانون المتعلّق بمجلّة الجماعات المحلّية هذا الأخير اختصاصات جديدة وواسعة، فإنّها تظلّ نصوصا قانونية ناقصة يكتنفها الغموض، باعتبار أنّها لم تضع ضوابط قانونية لفرض احترام الأحكام الصادرة ضدّ الدولة والجماعات الترابية. انطلاقا من ذلك، يُرتجى أن يعمل المشرّع لتفادي هذا الخلل الذي يعاني منه مرفق القضاء الإداري من أجل سدّ الثغرات على الإدارة، مركزية كانت أو محلية والتي يمكن أن تستّغلها للتهرّب من تنفيذ الأحكام القضائية. كما يتّجه في هذا الإطار استكمال بنيان القضاء الإداري بإنشاء محاكم إدارية جهوية واستئنافية تستجيب للمقتضيات الدستورية والواقعية حتّى يتمكّن القاضي الإداري من تحقيق توازن ديمقراطي حقيقي بين ما تقتضيه وحدة الدّولة وما تستوجبه استقلالية جماعاتها التّرابية.
- نشر هذا المقال في العدد | 12 | أغسطس 2018، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
العدالة المشوّشة بصراع الإيديولوجيات: ذاكرة فئوية لغد فئوي؟
[1] تنصيص الدستور على مبدأ” التدبير الحرّ في الفصل132منه يمكن اعتباره أهمّ مستجّد في مسار تعزيز التجربة اللامركزية بتونس وذلك تأكيدا لاستقلالية الجماعات في تدبير شؤونها وتوسيع اختصاصاتها لتحقيق التنمية المحلّية:” تتمتّع الجماعات المحلّية بالشخصية القانونية، وبالاستقلالية الإدارية والمالية، وتدير المصالح المحلّية وفقا لمبدأ التّدبير الحرّ”.
[2] وفي هذا الإطار أكّدت فصول عديدة على استشارة المحكمة الإدارية عند اتّخاذها لقرارات معيّنة( الفصول 6 9، 12، 21، 23، 25، 28، 30، 39، 51، 68، 73، 82، 102، 203، 208، 271، 272، 275،302، 377، 381
الفصل 134 من الدستور يقتضي:” تتمتّع الجماعات المحلّية بصلاحيات ذاتية وصلاحيات مشتركة مع السلطة المركزية وصلاحيات منقولة منها. توزع الصلاحيات المشتركة والصلاحياتا المنقولة استنادا إلى مبدأ التفريع”.[3]
[4] نصّ الفصل 337:”…..لرئيس الجهة الطعن في رفض السلطة المركزية تنفيذ قرارات الجهة أمام القضاء الإداري.”.
[5]إنّ رقابة الإشراف التّي تمارسها الإدارة المركزية على جماعاتها المحلية تشكل عائقا أمام التنمية المحلية إذ أن القرارات والمشاريع التي تباشرها السلطات المحلية لا يمكن تنفيذها إلا بعد مصادقة سلطة الإشراف وبالتالي تشكل عائقا أمام التنمية المحلية وهنا من شأن القاضي الإداري أن يلعب دورا فعالا من خلال قراراته القضائية في التخفيف من رقابة الإشراف خصوصا على المستوى الجهوي وبالتالي تعزيز اللامركزية الجهوية وهنا نلاحظ إرادة حقيقية للمشرع لحماية فعالة لحرية المبادرة المحلية في الميدان الاقتصادي والاجتماعي.
[6] أكّد الفصل 24 من مجلّة الجماعات المحلّية على أن:” تنظر المحكمة الإدارية الاستئنافية بتونس في تنازع الاختصاص بين الجماعات المحلية والسلطة المركزية وتصدر حكمها في أجل أقصاه شهر من أجل تعهّدها على أن يتّم الاستئناف لدى المحكمة الإدارية العليا التي تصدر قرارها في أجل أقصاه شهران..” ونصّ الفصل 266 على أن:” لرئيس البلدية الطعن في رفض السلطة المركزية تنفيذ القرارات البلدية أمام القضاء الإداري” وأكّد الفصل 332 على أنه:” لرئيس الجهة الطعن في رفض السلطة المركزية تنفيذ قرارات الجهة أمام القضاء الإداري”.
[7]نصّ الفصل 278 من مجلّة الجماعات المحلّية على أنّه:” إذا كان القرار البلدي من شأنه النيل من حرية عامة أو فردية، يأذن رئيس المحكمة الإدارية الابتدائية بإيقاف التنفيذ في أجل خمسة أيّام، وذلك بطلب من الوالي أو ممّن يهمهم الأمر”. كما اقتضت أحكام الفصل 348 أن:” إذا كان القرار الجهوي من شأنه النيل من حرية عامة أو فردية. يأذن رئيس المحكمة الإدارية الابتدائية بإيقاف التنفيذ في أجل خمسة أيام. وذلك بطلب من الوالي أو ممّن يهمهم الأمر”.
“