“
لم يمتثل بعض طلّاب المدارس في بيروت لأوامر مدرائهم ومديراتهم بعدم المشاركة في التظاهرات، وأصرّوا على البقاء في الشارع حتى تحصيل بعض من الحقوق التي يطالبون بها. تحدّوا تهديدات إداراتهم وتوجّهوا نحو مبنى وزارة التربية في اليونيسكو، صباح الخميس في 21 تشرين الثاني، من أجل المطالبة بنظام تعليمي جديد ومحاربة الفساد في الوزارة التي يفترض أن تعلي مصلحة الطلّاب على مصالح وزيرها.
طلاب يسألون عن تاريخهم
يشكو الطلّاب من المنهج التعليمي في المدارس وبخاصّة من مادة التاريخ التي “يتوقّف” التاريخ فيها عند الجلاء الفرنسي عام 1946 وبعد ذلك بقليل في المناهج الجامعية وذلك مخافة الخوض في أحداث الحرب الأهلية التي لا يوجد وجهة نظر موحّدة تجاهها. وترتفع بين الطلاب المتظاهرين أمام وزارة التربية لافتة يعربون فيها عن اعتراضهم على عدم إدراج أحداث الحرب الأهليّة في كتب التاريخ:
“ـ إنتو ما بتعرفوا شو عشنا بالحرب
ـ طب عرّفونا”
فعلى مدى عقود تشكّلت لجان لبحث هذا الأمر ووضع مسودّة كتاب تاريخ موحّد ونجحت لجنة شكّلتها حكومة سعد الحريري عام 2010 في وضع مسودّة منهج شامل لمادة التاريخ تصل في المعالجة إلى ما بعد أحداث 7 أيار 2008 وتشمل ما يعرف بـ”ثورة الأرز” عام 2005 إلّا أن حكومة نجيب ميقاتي التي تسلّمت السلطة لاحقاً ارتأت أن تتوقف المعالجة قبل “ثورة الأرز” ما أعاد البحث إلى الصفر.
وبالتالي لا يعرف طلّاب المدارس وحتّى الجامعات عن الحرب الأهليّة إلّا ما يتناقلوه عن أهاليهم أو ما يشاهدونه في الأفلام القليلة التي أعدّت عن الحرب. وفي الانتفاضة الشعبيّة الحالية، يعدّ التحذير من عودة الحرب الأهلية من أبرز الأدوات التي تستعملها السلطة وأحزابها لضرب الانتفاضة. ويستنكر الطلّاب في لافتة أخرى تهرّب السلطة من توحيد كتاب التاريخ:
“ليه ما بدكن نعرف تاريخكن؟”
لم يسلم كتاب التربية المدنيّة أيضاً من شكاوى الطلّاب الذين شبعوا مما وصفوه دروسه النمطيّة والممجّدة للدولة، ومن التوجيهات للمواطنين التي توحي بأنّ القانون في لبنان مطبّق على أكمل وجه. وما فعلته الانتفاضة الشعبيّة أنّها أرست مفاهيم جديدة لدى الطلّاب كان كتاب التربية المدنيّة غافلاً عنها، إذ شعروا أنّهم بحاجة ليعرفوا عنها أكتر وأن تكون مندرجة ضمن دروسهم المدرسيّة مثل الدولة المدنية والعلمانية. ويسأل أحد الطلاب: “كتاب تربية وطنيّة طويل عريض، بس وين العلمانيّة؟ وشو يعني دولة مدنيّة؟”. واختصرت إحدى اللافتات الموقف من المنهج الدراسي غامزةً من قناة الجغرافيا:
“يتميّز لبنان بمناخه المعتدل ومنهجه المتحجّر”
وأمام مبنى الوزارة، أحرقت والدة أحد الطلّاب كتب التاريخ والتربية المدنيّة والجغرافيا أمام جميع الطلّاب والإعلام وهي تشكو من النظام التعليمي الذي يعاني منه ابنها وزملاؤه، ومستنكرة المعلومات التي يضطر أن يحفظها الطلّاب من دون أن تفيدهم لاحقاً. وكذلك استنكرت حصر كتاب التاريخ بالحربين العالميتين الأولى والثانية دون الحرب الأهليّة، منتقدة تقاعس الوزارة وإهمالها لمشاكل الطلاب.
وبالإضافة إلى انتقاد المنهج التعليمي البالي، عبّر الطلاب عن خوفهم من المستقبل وهم ترون معاناة الأجيال التي سبقتهم إلى الجامعة وسوق العمل. وأسفت إحدى الطالبات من أن تكون “الواسطة” التي ترفض مبدأها، هي الوحيدة القادرة على مساعدتها لبناء مستقبلها في الوضع الحالي في لبنان.
مواجهة مع “سلطة” المدارس أيضاً
في نضالهم الحاليّ، لا يواجه الطلّاب السلطة السياسيّة فقط، بل سلطة إداراتهم أيضاً. ويخبر أحد الطلّاب كيف هددّتهم المديرة مجدّداً بالطرد في حال نزولهم إلى الشارع، وهي لم تتوان عن كيل الشتائم على الطلّاب ومحاولة تحطيم قيمة ما يفعلونه. ويذكر أنّ هذه المديرة نفسها لحقت ببعض الطلاب إلى الحافلة ونجحت في منع ثلاثة منهم من النزول إلى الشارع. ويصف طالب آخر من المدرسة نفسها كيف كانت المديرة تمنعهم صباحاً من النزول، وكادت أن تضرب أحد زملائه. تحاول هذه المديرة على عكس مدراء آخرين دعموا نزول الطلّاب إلى الشارع، أن تستخدم منصبها لتكون يد السلطة السياسيّة في ضرب اندفاع الطلّاب ليكونوا جزءاً من الانتفاضة الشعبيّة. المفارقة أنّ أحد طلّاب المدرسة ذاتها رفع مطلب استقلالية القضاء في التظاهرة أمام وزارة التربية: “نحنا منعرف إنّه ما رح نحقّق شي بدون استقلالية القضاء. صح نحنا صغار بس منعرف”.
تعتبر إدارة معظم المدارس اليد التي تحاول السلطة ضرب النضال الطلّابي بها، هذا النضال الذي عاد الحديث عنه إلى الواجهة من جديد، بعد غياب دام عقود. ولكنّ الطلّاب الواعين لوضعهم ضمن السياق العام أتوا إلى وزارة التربية ليوجهّوا صرختهم ونضالهم نحو وزارة التربية ونظامها التعليمي الذي اعتبروه في إحدى اللافتات جزءاً “من منظومة الفساد”. ولا يبدو أنّ شيئاً ينال من عزيمة الطلّاب وإصرارهم على النزول إلى الشارع ولا حتّى تحذيرهم من ضياع سنة دراسيّة عليهم كما تفعل السلطة ومناصروها، أو وضع الطلّاب في مواجهة بعضهم البعض كما حاولت بعض الإدارات أن تفعل في بعض المدارس وباءت محاولاتها بالفشل. فعندما يمنع الطلاب من الخروج بهدف المطالبة بحقوقهم الطبيعيّة، يصبح صفّهم بمثابة “سجن” كما يصف أحد الطلّاب وبالتالي يصبح الخروج منه بمثابة الخروج إلى الحرية.
“