“حتى الأساتذة هجّروهم، ومن بقي منهم بات لا يرغب بالعمل في مجال التعليم، رواتبهم باتت بلا قيمة حرفيا، مضى حوالي 3 أشهر على بدء العام الدراسي ولا يزال عدد لا بأس به من المدارس يبحث عن معلمين ومعلمات، الوضع صعب جدا، وإذا استمرّ على حاله لن يبقى أستاذ في لبنان إلّا مكرها”، بهذه العبارات يلخّص أحد مديري المدارس الخاصة موجة الهجرة التي وصلت إلى المدرسين والمدرسات مؤخرا، والتي بدأ المعنيون يحذّرون منها ولاسيّما أنّ أكثر من 700 أستاذ ترك التعليم الخاص هذا العام فيما تسلّمت وزارة التربية حوالي 600 طلب إذن إجازة غير مدفوعة من أساتذة في الملاك، 90% منها مرفقة بطلب إذن بالسفر، وفق ما يؤكده مصدر في وزارة التربية للمفكرة. أمّا أعداد الأساتذة المتعاقدين الذين تركوا التعليم فمن الصعب تحديدها ولكنّها أيضا بالمئات حسب ما يؤكّد المصدر نفسه ومصادر نقابية أخرى.معني.
هجرة أساتذة المدارس “مستجدة”
“لطالما كانت هناك عروض وفرص عمل في الخارج للمدرسين والمدرسات اللبنانيين ولاسيّما في الدول العربيّة، إلّا أن خيار السفر من أجل الاستقرار في الغربة كان مستبعدا عند هذه الفئة بشكل عام ولاسيّما أنّ رواتبهم، وخصوصا بعد إقرار سلسلة الرتب والروتب، كانت تضمن حياة كريمة، فبقيت حالات السفر من أجل العمل والهجرة في هذا القطاع فردية. أمّا اليوم فقد تغيّر الوضع تماما، كلّ أستاذ بات يبحث عن أي فرصة عمل في الخارج حتى في الصين حيث وصل عدد من الأساتذة اللبنانيين” يقول نقيب الأساتذة في التعليم الخاص رودولف عبود، لافتا في حديث مع “المفكرة القانوينة” إلى أنّه لا يمكن إعطاء أرقام دقيقة حول الأساتذة الذين هاجروا، إلّا إنّ عددهم بالمئات وبازدياد مستمر طالما الوضع الاقتصادي على حاله، وطالما لا توجد معالجة جدية وسريعة لأوضاع المعلمين والمعلمات.
ويشير عبود إلى أنّ الأرقام المتوافرة وغير المحدثة تفيد بأنّ هناك 700 مدرس ومدرسة تركوا التعليم الخاص في العام الأخير، هاجرت أو سافرت نسبة من بينهم بهدف العمل في الخارج، فيما فضّل بعضهم التوقف عن التعليم كليا، ولاسيّما المدرسات، لأنّ الراتب فقد قيمته، مشددا على أنّ هذا العدد لا يعكس الأزمة الفعلية لهجرة أو ترك الأساتذة التعليم، إذ إنّه لا يشمل كلّ المدارس الخاصة، فعدد لا بأس به منها لا يبلّغ عن ترك المدرسين والمدرسات.
وكما هو الحال في المدارس الخاصة، تعاني المدارس الحكومية من موجة هجرة غير مسبوقة فمئات الأساتذة،من متعاقدين وفي الملاك، تركوا العمل في مدارس لبنان بهدف العمل خارجه.
وفي الإطار يوضح مصدر في وزارة التربية والتعليم العالي لـ “المفكرة القانونيّة” أنّ حوالي 300 أستاذ في التعليم الأساسي و300 آخرين في التعليم الثانوي (من الملاك طبعا) قدّموا طلب إجازة غير مدفوعة منذ مطلع العام الدراسي، وأنّ 90% من هذه الإجازات مرفقة بطلب إذن بالسفر.
وفيما يوضح المصدر أنّه يحقّ لأستاذ الملاك إجازة ب 6 أشهر كلّ 5 سنوات وأنّه يُعتبر في مستقيلاً في حال عدم عودته إلى العمل بعد 15 يوما من انتهاء إجازته، يكرّر الأساتذة الذين التقيناهم أنّ هذا ما سيحصل إذ “إنّ ما سيخسرونه من راتب أو مستحقات بات بلا قيمة في ظلّ فقدان الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها”.
وبعكس أساتذة الملاك لا يحتاج الأستاذ المتعاقد إلى أي إذن بالسفر. يكفي أن يخبر مدير المدرسة التي يعمل فيها بأنه سيتوقف عن العمل، حسب ما يوضح رئيس لجنة المتعاقدين في التعليم الأساسي حسين سعد، لافتا في حديث مع “المفكرة القانونيّة” إلى أنّه لا أرقام دقيقة حتى اللحظة عن عدد الأساتذة المتعاقدين الذين تركوا التعليم في المدارس الرسمية بشكل عام، أو بهدف الهجرة خصوصا لأنّ العام الدراسي الحكومي لم ينطلق بشكل منتظم بعد، وستضح أعداد الأساتذة الذين تركوا التعليم بعد شهر من انتظامه، وتحديدا بعد أن ترسل المدارس لوائح لوزارة التربية حول عدد الساعات والشواغر.
ويشير سعد إلى أنّ ترك الأساتذة التعليم وبحثهم عن فرص عمل خارج القطاع أو خارج البلد، بات ظاهرة مؤخرا وأنّ قسما كبيرا من بينهم يقدّر بالمئات سافر قبل بد العام الدراسي خلال فصل الصيف، وهناك أساتذة جاهزون للسفر ينتظرون إما الردّ من مؤسسات في الخارج أو الانتهاء من العمل على أوراقهم مرجحا أنّ تستمر موجة هجرة الأساتذة في المدارس الحكومية.
الدول الخليجيّة ومصر وتركيا وجهات أساسيّة
شكّلت الدول العربية ولاسيّما الخليجية منها الوجهة الأساسية للمعلمين والمعلمات اللبنانيين، فسافر عدد كبير منهم، ولاسيّما خلال فصل الصيف، إلى السعودية وقطر والعراق ومصر بشكل أساسي، كما انتقل بعضهم إلى تركيا التي استقبلت هذا العام عددا لا بأس فيه من الأساتذة اللبنانيين، حسب ما يكرّر عبود وسعد، مشيرين إلى أنّ الذين توجهوا إلى هذه الدول تحديدا سافروا بهدف العمل كمدرسين، وأنّ الرواتب التي يتقاضونها هناك تتراوح بين بين 800 و 2000 دولار (حسب الدولة والمدرسة وسنوات الخبرة) أي أنّها غير مغرية، ولكنّها تصبح كذلك مقارنة بقيمة الراتب في لبنان.
ويُشار إلى أنّ رواتب أستاذة الملاك في التعليم الحكومي تترواح بين مليون وخمسة ملايين (حسب عدد الدرحات) أـمّ الأستاذ المتعاقد فيتقاضى 20 ألف ليرة على الحصة (تعليم أساسي) و36 ألفا (تعليم ثانوي) ويحقّ له 28 ساعة في الأسبوع (حاليا 26 لأنّ أيام الدراسة حدّدتها وزارة التربيّة بأربعة أيام بدلا من خمسة). أيّ أنّ راتب أستاذ التعليم الأساسي المتعاقد لا يتجاوز مليونين و 240 ألف ليرة ما كانت قيمته حوالي 1500 دولار وباتت اليوم 112 دولار. أمّا أستاذ التعليم الثانوي المتقاعد فيبلغ أقصى راتبه الشهري 4 ملايين ليرة أي ما كان يساوي ألفين و 600 دولار واليوم بحدود 200 دولار طبعا من دون خصم الأعطال الرسمية أو الإضرابات التي لا يتقاصى بدلها، كما أنه لا يتقاضى بدل نقل.
الكحل أفضل من العمى
يترك المعلمون والمعلمات لبنان ويعملون في مدارس الدول العربية أو في تركيا على قاعدة “الكحل أفضل من العمى” و”الشحتفة في بلد يوفّر الخدمات الأساسية أفضل من اللاشيء على حد تعبير نبيل (33 عاما)، وهو الذي عمل لأكثر من 7 سنوات كأستاذ لمادة الرياضيات في مدارس خاصة لبنانية، وسافر منذ أشهر إلى إحدى الدول الخليجية.
كان نبيل يتقاضى بحدود المليون ونصف المليون ليرة أي ما كانت قيمته ألف دولار وباتت اليوم بحدود الـ 75 دولارا ، “الأمر تحوّل إلى كابوس لم أستطع أن أصدّق أنّ راتبي بات لا يكفي بدل النقل، لا يكفي شيئا، حرفيا بات التوقّف عن العمل كمدرّس والعمل سيّان في لبنان”.
يتقاضي نبيل حاليا 1200 دولار ويعيش في سكن مشترك مع عدد من الأساتذة اللبنانيين، راتبه يوفّر له الأساسيات ولكنّ الأهم بالنسبة له توافر الخدمات الأساسية من كهرباء وأدوية وقدرته على إرسال 200 دولار لعائلته شهريا، “بالطبع لا أعيش برفاهية، ولكنّني أعيش بكرامة، توافر الكهرباء وحده مكسب، أن يكفيني راتبي لتأمين الأساسيات مكسب، والأهم أنّني بتّ أستطيع أن أرسل مبلغا ولو بسيطا لدعم عائلتي في لبنان بدلا ما كنت آخذ منهم للذهاب إلى العمل”.
يكرّر الأساتذة أنّ الرواتب التي تعرضها الدول الخليجيّة ( ما بين 1200 إلى 2000 دولار) حاليا أكثر ممّا يُعرض في تركيا (ما بين 600 دولار إلى 1000) إلّا أنّه مقارنة بكلفة المعيشة تصبح الرواتب متساوية وتكفي “بأفضل الأحوال للعيش بمستوى مقبول وإرسال مبلغ بسيط لإعالة العائلة في لبنان” كما يقول حسين (49 عاما) مدرس لغة عربية ومدير مدرسة سابق غادر لبنان مع زوجته (مدرّسة أيضا) منذ بداية العام 2020 إلى اسطنبول.
“راتبي في لبنان ما عاد يكفي لتأمين الأساسيات، سافرت إلى تركيا براتب محدد بـ 600 دولار، أعمل أنا وزوجتي حاليا، راتب واحد يكفي لمصاريف الشهر وذلك لأنّي أحصل على خصم 90% على أقساط ولديّ المدرسية، وإلا لن يكون كافيا، أقساط المدارس الخاصة هنا مرتفعة، وبعض اللبنانيين يضعون أولادهم في مدارس حكومية”، يقول حسين ملخصا وضعه في تركيا.
إفريقيا وجهة أساتذة لبنانيين تركوا التعليم كليا
إلى جانب الدول العربية وتركيا شكّلت البلدان الإفريقيّة وجهة أساسية لعدد من الأساتذة فضّلوا أو اضطروا إلى ترك مهنة التعليم فوجدوا فرصا في مجالات أخرى ولاسيّما كمحاسب أو مسؤول عمّال وبرواتب متدنيّة لا تتجاوز 800 دولار شهريا، إلّا أنّ هذا المبلغ إذا ما احتسبناه على سعر صرف السوق الموازية يساوي ما يتقضاه الأستاذ في لبنان في سنة كاملة.
منير (54 عاما) هو واحد من هؤلاء الأساتذة الذين توجهوا إلى إفريقيا وتحديدا إلى ساحل العاج حيث بات يعمل في بيع الفرش لأنّ راتب الأستاذ في هذه الدولة بحدود 80 دولارا ورغيف “الباغيت” الواحد بدولار حسب ما يقول لـ “المفكرة” مشددا على أنّه يعزّ عليه أن يخبرنا بأنّه “هُجّر” من لبنان بعد أكثر من 27 عاما من العمل في التعليم الثانوي كأستاذ للعلوم الطبيعية والكيمياء وأنّه يعيش “شحتفة” بـ 300 دولار ليرسل 500 إلى عائلته (زوجته وولدين).
يخبر منير “المفكرة” أنّه خاف أن لا يستطيع تعليم ولديه (الأول في الجامعة والثاني في المرحلة الثانوية) ويقول: “أيعقل أن أكون قد علّمت أجيالا وأجيال ومن ثمّ أعجز عن تعليم ولديّ، أنا ومنذ ولدا أدّخر لهما المال في حساب مصرفي بالدولار من أجل أن يحصلا على تعليم عال مميّز، ولكنّ المصارف قرّرت أنّ تحتجز أموالنا، أن تعطينا إياها بالقطارة وأن تجتزئ منها، هم لم يسرقوا أموالنا المال يعوّض هم سرقوا مستقبل أبنائنا”.
يروي منير كيف تغيّرت حياته رأسا على عقب منذ بداية الأزمة الاقتصادية نهاية العام 2019 وكيف زادت تبعات انتشار وباء كورونا الوضع سوءا ولاسيّما إقفال المدارس أبوابها:” كنت أتقاضى 3 ملاين ليرة في الشهر، أي ما كانت قيمته ألفي دولار واليوم باتت 150 دولارا، كان المبلغ قبل الانهيار الاقتصادي يكفيني لأعيش حياة كريمة حتّى أني استطعت أن أدّخر مبلغا قيمته 70 مليون ليرة اضطررت إلى سحبه وإنفاقه كاملا خلال العام 2020 حين أقفلت المدارس وكنت أقبض نصف راتب خسر أصلا أكثر من 50% من قيمته (كان الدولار حينها لا يزال بحدود الـ 10 آلاف)، وبعدها بتّ عاجزا عن تأمين الضروريات والأساسيات، كان أمامي احتمالين إما أن أموت أزمة قلبية وفقع أو أن أحاول الوقوف على قدمي، أقله من أجل إكمال تعليم ولدي، فسافرت إلى ساحل العاج التي وصلتها منذ أشهر وأعمل في بيع الفرش مقابل 800 دولار”.
رغم استقرار وضع منير في العمل، يشعر بالقلق فحتّى المبلغ الذي يرسله حاليا قد يصبح غير كاف في حال استمرّت الاوضاع الاقتصادية بالتدهور، كما يشعر بالغضب والحزن إذ إنه لم يتقبل بعد كيف لأستاذ مثله هُجّر وهو في خمسينياته، وكيف تمعن سياسات الحكومة بضرب قطاع التعليم القطاع الأساسي لتطور أي بلد.
جودة التعليم على المحك
يتخوف العاملون في قطاع التعليم من تراجع جودة الخدمات التي يقدّمها هذا القطاع في لبنان بسبب موجة الهجرة المستمرة، “الأساتذة الذين يهاجرون بمعظمهم من أصحاب الكفاءات والخبرة، وعلى الأرجح يتمّ استبدالهم بأساتذة أقل خبرة، وهذا سيؤثّر على جودة التعليم” يقول سعد، معتبرا أنّ مماطلة الدولة “بإعطاء أساتذة التعليم الحكومي حقوقهم وتسوية أوضاعهم يدخل في إطار خطة ممنهجة لضرب القطاع الرسمي وخصخصته تنفيذا لخطة صندوق النقد الدولي الذي طلب تخفيض عديد القطاع العام”.
وكذلك، يكرّر عبّود أنّ من هاجر من الأساتذة هم بمعظمهم من أصحاب الكفاءة والخبرة ومن مختلف الإختصاصات من دون نفي هجرة خريجين جدد أتيحت لهم فرص السفر، ويعتبر أنّ موجة الهجرة هي عامل إضافي يؤثّر على جودة التعليم إلى جانب عامل تدهور الوضع الاقتصادي للطالب والمدرّس والعودة إلى التعليم الحضوري بعد انقطاع استمر لأكثر من عام.