منذ بدء الانهيار مروراً بتفجير 4 آب وصولاً إلى اختفاء الخدمات.. آلاف اللبنانيين تركوا لبنان وآخرون ينتظرون فرصة النجاة


2021-10-12    |   

منذ بدء الانهيار مروراً بتفجير 4 آب وصولاً إلى اختفاء الخدمات..  آلاف اللبنانيين تركوا لبنان وآخرون ينتظرون فرصة النجاة
الصورة من موقع بيكسيلز

نهاية العام 2019 بلغ معدل البحث عن كلمة “هجرة” في لبنان على محرّك “غوغل”  حدّه الأقصى خلال خمس سنوات، وفي العام الحالي بدأ الحديث عن ارتفاع غير مسبوق في أعداد اللبنانيين الذين تركوا لبنان بهدف الاستقرار خارجه خلال الأعوام الثلاثة الماضية، الأمر الذي دفع  مركز إدارة الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت إلى الحديث عن “بداية موجة هجرة جماعية” (exodus) صنّفها الثالثة بعد موجتين كبيرتين. الموجة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر (1865 – 1916) حين قدّرت أعداد الذين تركوا جبل لبنان بـ 330 ألف شخص لأسباب تتعلّق بصراعات طائفية بين الدروز والموارنة فضلاً عن تبعات الحرب العالمية الأولى على جبل لبنان من مجاعة وانتشار الأمراض والأوبئة منها الطاعون وفرض التجنيد الإجباري من قبل العثمانيين، وكانت وجهة اللبنانيين حينها الولايات المتحدة ودول أميركا اللاتينية فضلاً عن غرب إفريقيا ومصر.

أما الموجة الكبيرة الثانية فكانت، وحسب “المرصد”،  أثناء الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990) حين قدّرت أعداد المهاجرين في تلك الفترة بحوالي 990 ألف شخص وكانت كندا وأستراليا ومن ثم أوروبا فضلا عن دول الخليج وجهات اللبنانيين حينها ولاسيّما في ظل تقديم عدد من هذه الدول تسهيلات هجرة ولجوء لهم. 

حسب الأرقام المتوافرة تجاوز عدد المواطنين الذين تركوا لبنان منذ 2019 حتى 2021 (أيار) 86 ألفاً،  الأمر الذي يعدّ مؤشّراً خطيراً حسب المعنيين، ولاسيّما إذا ما أخذت مؤشّرات مرافقة له بعين الاعتبار منها ارتفاع الإقبال على طلبات جوازات السفر والتي قاربت في العام الحالي 260 ألف طلب، وتعبير أكثر من 69 % من الشباب اللبناني عن تفكيرهم في الهجرة والسعي إليها، وهذه النسبة هي الأعلى بين كلّ البلدان العربية، بحسب تقرير “استطلاع رأي الشباب العربي” الصادر العام الماضي عن شركة “أصداء بي سي دبليو” (ASDA’A BCW)، هذا فضلاً عن تركّز الهجرة في قطاعات حيوية ولاسيّما في قطاعي الطبابة والتعليم اللذين حذرا من نزف للكفاءات سيترك أثراً سلبياً لسنوات طويلة مقبلة وهو موضوع تحقيقات منفصلة تعدّها “المفكرة”.

أما أسباب الموجة الثالثة الحالية فهي اقتصادية بالدرجة الأولى تدفع الاختصاصيين إلى توقّع استمرار موجة الهجرة لمن استطاع إليها سبيلاً، منها ارتفاع نسبة الفقراء في لبنان إلى 74% من السكان هذا العام حسب  تقرير لـ “الإسكوا” صدر في أيلول الماضي، ولاسيّما مع استمرار انهيار قيمة الليرة مقابل الدولار في السوق الموازية، وارتفاع نسبة البطالة. فقد أعلنت إدارة الإحصاء المركزي بعد مسح أجري بين نيسان 2018 وآذار 2019  أنّ نسبة البطالة بلغت 11.6% بين اللبنانيين، لكنّ “الدولية للمعلومات” رأت أنّ النسبة أكبر من ذلك قبل 17 تشرين وتصل إلى 25% من حجم القوى العاملة.

وترى “الدولية” للمعلومات في تقرير نشرته في أيار العام الماضي، أنّ حال الشلل التي يشهدها لبنان منذ 17 تشرين الأول 2019 والتي زادت حدةً مع تفشي وباء كورونا رفعت نسبة البطالة إلى 32%. وترتفع هذه النسبة وفق لدراسة أجراها البنك الدولي وبرنامج الأغذية إلى نحو 39.5% مع نهاية العام 2020.

ولتراجع الخدمات الأساسية في لبنان والتي تمثّلت بانقطاع  الكهرباء وشح البنزين والدواء، دور أساسي في تفكير اللبنانيين في الهجرة أو الاستقرار خارج لبنان حتى من قبل عدد من العائلات الميسورة مادياً والتي تركت لبنان بحثاً عن المدارس على سبيل المثال بعدما كان العام الدراسي مهدّداً بسبب شح البنزين وعدم توافر التيار الكهربائي، أو سعياً للعيش في بلد لا يفقد فيه الدواء، وستخصّص “المفكرة” لاحقاً تحقيقاً منفصلاً حول “هجرة الخدمات”.

ولا يمكن الحديث عن أسباب ترك أو سعي اللبنانيين إلى الهجرة والاستقرار في الخارج من دون التطرّق إلى العامل النفسي، إذ إنّ نسب مراجعي العيادات والمراكز المتخصّصة بالعلاج النفسي ارتفعت مؤخراً في لبنان ولاسيّما بعد تفجير الرابع من آب والذي كان محطة أساسيّة لاتخاذ قرار السفر بالنسبة لعدد كبير من اللبنانيين.     

وفي هذا الإطار توضح الاختصاصية النفسية ورئيسة جمعية “إمبرايس” ميا عطوي أنّ عدد الاتصالات الشهرية التي تلقاها الخط الوطني الساخن للدعم النفسي تضاعف وبلغ 1100 اتصال بعد تفجير المرفأ بعدما كان بحدود 600 اتصال.

وتشير عطوي في حديث لـ “المفكرة” إلى أنّ موضوع الهجرة أو رغبة اللبنانيين في ترك لبنان كان واضحاً من خلال حديث المتّصلين فمعظمهم يسأل إن كان الحلّ بالهجرة وإن كان عليهم ترك لبنان لافتة إلى أنّ ارتفاع عدد الاتصالات يعود أيضاً إلى ارتفاع كلفة الاستشارة النفسية فالخط الساخن يقدّمها مجاناً، فضلاً عن الهجرة الكبيرة للأطباء والمعالجين النفسيين.

ومع ارتفاع نسبة الراغبين في الهجرة من لبنان وتأزّم الأوضاع الاقتصادية، عادت حركة الهجرة غير الشرعية إلى الواجهة ولاسيّما عبر البحر،  ويتوقع تقرير لـ”الدولية للمعلومات” أنّه في ظل صعوبة الحصول على تأشيرة سفر أو هجرة سيعمد آلاف اللبنانيين إلى الهجرة غير الشرعية مباشرة من لبنان، وعليه نحن أمام تكرار متوقّع لمراكب الموت التي لم تخرج سوى من الدول التي شهدت حروباً عنيفة، أو عبر إحدى الدول التي يمكن للبنانيين الدخول إليها من دون تأشيرة سفر كتركيا مثلاً.

ولم تقتصر حركة الهجرة غير الشرعية على قوارب الموت بل وصلت إلى المطار، إذ أعلن الأمن العام أنّه أوقف في شهر تشرين الأول من العام 2020  شبكة تنشط في تهريب لبنانيين وفلسطينيين إلى أوروبا، وتحديداً إلى إسبانيا عبر مطار بيروت. 

نودّع أبناءنا كما ودّعتنا أمّهاتنا.. التاريخ يعيد نفسه 

“لا ضير إن بكيت اليوم، فأنا لم أبك يومها، صوت القذائف ومشاهد الموت جعلت الفراق جميلاً سهلاً، أو لنقل أهوَن الشرّين” تقول إيفا (80 عاماً) راوية لـ”المفكرة القانونية” كيف كانت الهجرة برّ الأمان الوحيد لتنجو بابنها البكر من حرب كانت دائرة في لبنان خلال سبعينيّات القرن الماضي، وكيف شعرت حين دخل ابنها مطار بيروت متّجهاً إلى الولايات المتحدة وكأنّ همّاً انزاح عن صدرها.

“ليس ابني الهمّ، ولكنّه الوطن الذي لا يتّسع لأبنائنا، لأبنائه، لا في زمن الحرب ولا في زمن السلم، الحمد لله نجوت بابني” تقول إيفا وهي تراقب الشوارع المعتمة الخالية من الناس من شرفة منزلها في منطقة سنّ الفيل.

وداع إيفا لابنها كان العام 1977 ونحن اليوم في العام 2021، أي أنّه مضى على الحكاية 44 عاماً طوى  خلالها لبنان صفحة الحرب ودخل زمن السلم، ولكنّ المطار وتحديداً بعد العام 2019 عاد ليكون البوابة الفاصلة “بين الموت والحياة في هذا البلد” على حدّ تعبير ليلى (58 عاماً) التي أوصلت ابنها قبل شهرين إلى المطار لتنجو به، وهو وحيدها،  تماماً كما أوصلتها أمها قبل أكثر من 40 عاماً إلى المطار نفسه لتنجو بها هي أيضاً. 

“وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، أمي أوصلتني تحت القصف وأنا أوصلت ابني في زمن الانهيار، ولكن النتيجة واحدة، وما لم أفهمه عن إصرار إمي على أن تخرجني من لبنان حينها، أفهمه اليوم جيّداً، الفكرة نفسها وهي النجاة فقط”.

الراتب ما عاد يكفّي الحاجات الأساسية.. نريد السفر إلى أي مكان

إذا كانت ليلى تبحث عن مستقبل أفضل لابنها فإنّ كلّ ما تريده ربى (35 عاماً) مواصلة الحياة بكرامة. 

“الأمر لم يعد يتعلّق بتأمين المستقبل أو جمع المال بل بات مرتبطاً فقط بالقدرة على الاستمرار بالعيش” تقول ربى التي تعمل حالياً على السفر إلى إحدى الدول الخليجية مع زوجها وولديها.

تعدّد ربى في حديث مع “المفكرة” عشرات الأسباب التي تدفعها لحسم خيارها المتعلّق بترك لبنان والسفر إلى “أي مكان” على حد تعبيرها، فراتب زوجها وهو موظف في الأمن العام والبالغ مليونين و300 ألف ليرة أي ما باتت قيمته نحو 120 دولاراً، لم يعد يكفي لتأمين الاحتياجات الأساسية الضرورية التي تضطر ربى في بعض الأحيان إلى تصنيفها من المهم إلى الأقل أهمية، ولاسيما بعد أن خسرت عملها إثر إغلاق الشركة التي كانت تعمل فيها أبوابها سبب الأزمة الاقتصادية.

وكان مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية بيّن، عبر رصد أسعار بعض السلع الأساسيّة، أنّ كلفة الغذاء بالحد الأدنى لأسرة مكوّنة من 5 أفراد أصبحت تقدّر شهرياً بأكثر من 3 ملايين و 500 ألف ليرة لبنانيّة إذا لم نحتسب كلفة المياه والغاز والكهرباء.

يحاول زوج ربى الحصول على مأذونية من عمله تحت مسمّى سفرة سياحية ولكنه بالطبع، كما تقول ربى،  يحضّر نفسه للسفر نهائياً إلى السعودية “حيث وعلى الأقلّ لا تقنين للتيار الكهربائي، ومهما كان الراتب الذي لم يعد في الخليج كما السابق، يبقى أفضل من راتبه في لبنان”. 

خلال حديثها تكرّر ربى أنّ حال ابنها البالغ من العمر ست سنوات تستدعي السفر،  فهو بات لا يشعر بالأمان بعد تفجير الرابع من آب، “يطلب منّي أن آخذه إلى مكان لا يتكسّر فيه الزجاج فجأة، فهو لا ينسى تكسّر الزجاج جنبه يوم التفجير، أريده أن يشعر بالأمان، علينا أن نترك لبنان، يستحقّ ابني وابنتي وطناً أفضل”.

2019 بداية موسم هجرة حديثة 

تشير الأرقام المتوافرة إلى أنّ العام 2019  كان عاماً مفصلياً على خط هجرة اللبنانيين الحديثة أو سفرهم بهدف الاستقرار في الخارج، فقد شهد هذا العام قفزة كبيرة في أعداد اللبنانيين الذين تركوا لبنان مقارنة بالأعوام السابقة، إذ بلغ عدد هؤلاء في ذلك العام وحسب “الدولية للمعلومات” 66 ألفاً و806 أشخاص ما يعني زيادة تفوق 100% عن العام 2018 حين بلغت أعداد هؤلاء 33 ألفاً و129 شخصاً، وترتفع نسبة الزيادة لتتخطى 300% إذا ما قارنا أعداد المغادرين من لبنان العام 2019 مع العام 2017 حين بلغت 18 ألفاً و863.

وبحسب دراسة أجرتها “الدولية للمعلومات” في نهاية عام 2019 فإنّ 70% من الذين غادروا لبنان تتراوح أعمارهم ما بين 25 و35 عاماً.

وفي العام 2020 عادت هذه الأرقام لتنخفض بشكل كبير، الأمر الذي يرجعه المعنيّون إلى إجراءات الإقفال التي فرضها وباء كورونا، إذ لم يتجاوز عدد اللبنانيين الذين تركوا بلادهم خلال هذا العام 17 ألفاً و721.

ورغم تراجع الأعداد خلال العام الماضي، كان لافتاً أنّ النسبة الأكبر ممّن تركوا البلد خلاله كانت بعد منتصف شهر آب (أغسطس) أي بعد تفجير مرفأ بيروت. 

وفيما خصّ العام 2021 فإنّ الأرقام وحسب الدولية للمعلومات تراجعت بشكل ملحوظ أيضاً، إذ لم يتجاوز عدد الذين تركوا لبنان حتى أيار العام الحالي 2722  شخصاً، الأمر الذي قد يعود وحسب الباحث محمد شمس الدين إلى أسباب عدّة أبرزها أنّ من لم يترك لبنان خلال العامين الماضيين ويرغب في السفر لم يعد بإمكانه تأمين المبلغ الذي تفرضه الدول كضمانة وكشرط لمنح التأشيرة والسفر، فضلاً عن استمرار إجراءات كورونا في عدد من البلدان ولاسيّما تلك التي تتيح خيار الهجرة.

ويلفت شمس الدين في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ العدد قد يكون أكثر من المذكور لأنّه لا يشمل اللبنانيين الذين يملكون جواز سفر آخر غير اللبناني والذين ترك عدد كبير منهم لبنان أيضاً.

رغبة اللبنانيين في السفر “غير مسبوقة” 

لا تعكس أرقام اللبنانيين الذين تركوا لبنان بهدف الاستقرار في الخارج، وعلى ضخامتها،  حجم المواطنين الراغبين بالسفر،  إذ تكرّر السفارات ومكاتب الهجرة التي تواصلنا معها العبارة نفسها “رغبة اللبنانيين بالسفر غير مسبوقة، ولكنّ الرغبة شيء والمتاح شيء آخر” مشيرة إلى أنّ أعداد طالبي تأشيرات السفر ارتفعت في العام 2019 بشكل ملحوظ ومن ثمّ انخفضت في العام 2020 بسبب إجراءات كورونا لتعود وترتفع خلال العام الحالي، من دون إعطاء أرقام تفصيلية “بسبب يا يسمونه سياستنا تقضي بعدم الإفصاح عن التفاصيل”.

وفي هذا السياق توضح السفارة الألمانية في لبنان لـ “المفكرة” القانونية” أنّها استقبلت طلبات تأشيرات سفر متنوعة خلال الفترة الماضية ولكنّ الملحوظ كان ازدياد عدد الاشخاص الباحثين عن عمل داخل ألمانيا (تأشيرة عمل/تأشيرة بحث عن عمل) مضيفة أنّ الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد دفعت اللبنانيين الى البحث عن عمل خارج الحدود وفي دول عدة منها ألمانيا.

وليس بعيدا تؤكّد السفارة الفرنسية لـ “المفكرة” أنّها تلقت طلبات متزايدة بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة على جميع فئات تأشيرات السفر التي تمنحها فرنسا ولكن الحصّة الأكبر كانت لتأشيرات السياحة ومتابعة التعليم.

لم نتمكّن من الحصول على أرقام من السفارات التي تواصلنا معها فسياسة معظمها لا تسمح بإعطاء تفاصيل، فلجأنا إلى المكاتب المتخصّصة بتسهيل معاملات الهجرة والسفر عموماً، والتي أكّد معظمها بأنّ السنوات الثلاث الأخيرة شهدت إقبالاً كبيراً على تقديم الطلبات مشيرة إلى أنّه يمكن ملاحظة ارتفاع أرقام الراغبين في السفر بعد محطّات ثلاث، الأولى الأزمة التي بدأت في الربع الأخير من العام 2019 والثانية تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 والثالثة تدهور وضع الخدمات الأساسية ولاسيّما الكهرباء والبنزين والدواء وتحديداً بداية العام الحالي.  

وفي هذا الإطار، تقول صاحبة وكالة MST agency المتخصّصة بتأشيرات السفر والهجرة، ابتهال محي الدين، إنّ الأعداد التي استقبلها المكتب مؤخراً سواء لجهة التأشيرات على أنواعها أو الهجرة كانت غير مسبوقة، مضيفة في حديث مع “المفكرة” أنّ الملفت كان حديث من يتقدّمون بالطلبات عن أنّهم باعوا سيارة أو منزلاً أو قطعة أرض لتأمين الأموال اللازمة للسفر. 

وتوضح محي الدين أنّ عدد طلبات الهجرة التي تلقّاها المكتب في العام 2019 بلغ 3100 طلب كلّها إلى كندا البلد الوحيد الذي يستقبل طلبات هجرة من قبل لبنانيين حالياً (أستراليا والولايات المتحدة لا تستقبلان في الوقت الراهن)، مضيفة أنّ هذا الرقم تراجع إلى 950 في العام 2020، ولكنّه يبقى مرتفعاً إذا ما اتّخذت فترة الإقفال التام التي فرضتها كورونا بعين الاعتبار.

وفي حين تشير محي الدين إلى أنّ معظم طلبات الهجرة مؤخراً تعود لعائلات كاملة، وأنّه بدا لافتاً إقبال الأطباء والمهندسين على الهجرة، تتوقّع أن ترتفع أعداد الطلبات هذا العام لتفوق العدد الذي بلغته العام 2019 إذ لا يمرّ يوم منذ بداية العام إلّا وتستقبل فيه على الأقل 5 طلبات فضلاً عن تلقّي أكثر من 50 اتصالاً يومياً للاستفسار عن الفرص المتاحة لترك لبنان. 

وتلفت إلى أنّ ما يقارب من 40% من الذين قدموا طلبات هجرة خلال الأعوام الثلاثة الماضية عبر مكتبها هم من الأشخاص الذين لم يسافروا قبلاً وذلك كان واضحاً كونه لم يكن لديهم جواز سفر. 

وفيما تشير ابتهال إلى أنّ باب الهجرة إلى الولايات المتحدة مقفل أمام اللبنانيين حتى آب من العام 2022 بسبب إجراءات كورونا، تلفت إلى الإقبال غير المسبوق مؤخراً على تجديد “البطاقة الخضراء” من قبل اللبنانيين الحاملين هذه البطاقة وتحديداً من المسنّين. 

وإلى جانب ارتفاع أعداد طلبات الهجرة تتحدّث ابتهال عن ارتفاع أعداد الطلاب الراغبين في السفر بهدف الدراسة وتحديداً في إيطاليا وفرنسا، والذين ربما قرّروا متابعة الدراسة كوسيلة تتيح لهم فرصة الاستقرار خارج لبنان.

وتتحدّث ابتهال أيضاً عن توجّه جديد برز ولاسيّما بعد تفجير مرفأ بيروت يتعلّق بشكل السفر إلى تركيا، إذ بدا واضحاً أنّ اللبنانيين يتوجّهون إلى تركيا بهدف الاستقرار وليس السياحة ولاسيّما أنّ هذا البلد يتيح للبناني أن يبقى 90 يوماً من دون أي إجراءات خاصّة وبعد هذه المدّة يمكنه الحصول على إقامة عبر استئجار منزل (الإقامة تبقى صالحة طالما عقد الإيجار صالح) أو عبر شراء منزل، وتشرح أنّ هذا التوجّه بدا واضحاً من خلال الاستفسارات التي تلقّاها مكتبها من عائلات لبنانية عن بيوت للإيجار على مدى طويل وعن المدارس ولاسيّما في اسطنبول.

تهافت على إصدار جوازات السفر

منذ بداية العام 2021 وتزامناً مع إعادة فتح البلاد بعد إغلاقها بسبب إجراءات كورونا، شهدت مراكز الأمن العام إقبالاً  كبيراً على طلبات جوازات السفر، ففي الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي تجاوز المعدل الأسبوعي لطلبات الاستحصال على جواز سفر 7 آلاف طلب مقارنة مع بـ 4 آلاف طلب في الفترة نفسها من العام الماضي، كما بلغ عدد جوازات السفر الصادرة منذ مطلع عام 2021 ولغاية نهاية آب أكثر من 250 ألف جواز سفر، مقارنة مع نحو 142 ألف جواز سفر في الفترة نفسها من عام 2020، أي بزيادة نسبتها 82% .

ويُشار إلى أنّ الطلبات على جوازات السفر كانت مرتفعة أيضاً في العام 2019 إذ بلغت 10 آلاف طلب أسبوعياً.

وبحسب ما أكّد مصدر في الأمن العام لـ “المفكرة”، شهدت أشهر تموز وآب وأيلول أعلى نسبة إقبال على طلب جوازات السفر هذا العام ووصل عدد الطلبات الإجمالي حتى كتابة هذا التحقيق 257280 طلباً أي بزيادة ألف و206 طلبات فقط عن العام الماضي الذي سجّل بحدود 256 ألفاً و74 طلباً.

وفي قراءة بسيطة في الأرقام خلال عامي 2020 و2021 يمكن الاستنتاج أنّ الطلب على جوازات السفر بدأ بالتصاعد بعد شهر آب العام الماضي أي بعد تفجير مرفأ بيروت (قبل شهر آب كان 142 ألفاً وارتفع مع نهاية العام إلى 256074) ليعود وينخفض خلال الأشهر الأولى من العام 2021 تزامناً مع إجراءات إقفال كورونا ويبدأ بالتصاعد مجدّداً بعد إعادة فتح البلد وصولاً إلى الذروة خلال الصيف الماضي حيث انهارت قيمة الرواتب بالليرة اللبنانية وازدادت ساعات تقنين الكهرباء واشتدّت أزمة شحّ المازوت والبنزين.

كما يمكن أن يكون لزيادة الطلبات في هذه الفترة علاقة بإقبال المغتربين على تجديد جوازات سفرهم كون الأمر أقلّ كلفة في لبنان، إذ يشير شمس الدين إلى أنّ هذا العام جاء إلى لبنان 310 آلاف لبناني مغترب يقدّر أنّ نصفهم قام بإصدار جواز سفر جديد.

وكانت فئة العشر سنوات لجوازات السفر الأكثر طلباً مؤخراً مع العلم أنّ هذه الفئة أتيحت منذ العام 2018 ولم يسجّل طلب ملحوظ عليها حتى العام 2019. ومقابل ارتفاع  نسبة الطلب على فئة العشر سنوات من بين باقي الفئات تراجع الطلب على فئة السنة الواحدة بشكل كبير العام الحالي.

هجرة الكفاءات تهدّد قطاعات حيوية 

في حزيران الماضي لفت البنك الدولي في تقرير إلى أنّ لبنان يعاني من هجرة الكفاءات وأنّه سيكون للتدهور الحاد في الخدمات الأساسية في هذا البلد آثار طويلة الأجل ومنها الهجرة الجماعية مشيراً إلى أنّ إصلاح الأضرار الدائمة في رأس المال البشري أمر بالغ الصعوبة. 

وفي التقرير نفسه الذي جاء تحت عنوان “الكساد المتعمّد”، حذّر المدير الإقليمي لدائرة المشرق في “البنك الدولي” من أنّ لبنان يواجه استنزافاً خطيراً للموارد، بما في ذلك رأس المال البشري، مرجّحاً أن تغتنم العمالة ذات المهارات العالية الفرص في الخارج بشكل متزايد ممّا يشكّل خسارة اجتماعية واقتصادية دائمة للبلاد.

وفي الإطار نفسه، كان مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت اعتبر أنّ الهجرة الكثيفة للمتخصّصين والمهنيين بخاصّة من العاملين والعاملات في القطاع الصحي من أطباء وممرضين وفي القطاع التعليمي من أساتذة جامعيين ومدرّسين بحثاً عن ظروف عمل ودخل أفضل، مؤشر خطير.

وهو أمر التقى مع تصريح لمدير عام منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس مؤخراً اعتبر فيه أنّ هجرة العقول بمجال الصحّة في لبنان “مقلقة”، مشيراً إلى أنّ الأطباء والممرضين يرحلون من لبنان الأمر الذي سيكون له تأثير خطير يستمرّ لسنوات عدة مقبلة.

وكانت نقابة الممرضات والممرضين تحدّثت عن هجرة 1600 ممرض وممرضة منذ عام 2019، كما تتحدث نقابة الأطباء عن هجرة ما يقارب من 2500 طبيب وطبيبة تحديداً إلى البلدان الخليجية وأميركا وكندا وأوروبا.

كما تحدّث المعنيّون في قطاع التعليم عن هجرة المئات من أساتذة الجامعات والمدارس إلى دول الخليج  وأوروبا، وكمؤشر على الأمر يمكن التذكير بأنّ الجامعة الأميركية في بيروت وحدها شهدت مؤخراً هجرة  190 أستاذاً أي ما يشكّل تقريباً 12% من الجسم التعليمي فيها.

بالإضافة إلى الأساتذة والأطباء والممرضين، ترك لبنان منذ العام 2019 عدد كبير من المهندسين الذين كانت وجهتهم الأساسية دول الخليج ودول إفريقيا وبنسبة أقل أوروبا.

كما طاول شبح الهجرة المؤسّسات الأمنيّة إذ يكرّر عدد من الموظفين في هذه المؤسّسات أنّ عدد طلبات المغادرة والوضع في الاستيداع تجاوز المئات.

ولنا في قوارب الموت حياة

يعتبر سفر اللبنانيين مؤخراً إلى تركيا أيضاً بالنسبة لعدد منهم محطة مؤقتة بانتظار إيجاد فرصة للوصول إلى أوروبا ولو بطريقة غير شرعية وفي قوارب تُعرف بقوراب الموت بعد أن قتل على متنها عدد من الأشخاص وفقد عدد آخر، ولكنّها لا تزال بالنسبة لهم “قوارب تحمل فرصة حياة جديدة” على حدّ تعبير أحمد الشاب الطرابلسي الذي لا يتجاوز الثلاثين من عمره والذي يتحضّر للسفر إلى تركيا بعدما باع سيارته ليضيف ثمنها إلى المال الذي يحاول ادّخاره منذ العام 2019.

يتجه أحمد إلى تركيا بهدف الانتقال منها بطريقة غير شرعية إلى أي بلد أوروبي ويقول: “اعتبري أنّ هناك 50% نسبة نجاح و50% نسبة الفشل والمخاطر، ولكنّ الـ 50% نسبة كافية لأجرّب، فأنا في لبنان عاطل عن العمل ولا أشعر أنني على قيد الحياة، أبحث عن أي فرصة تحمل أملاً”.

وإذا كان أحمد استطاع تأمين المال اللازم للتوجّه إلى تركيا يخطّط عشرات الشباب في مدينته للسفر عبر مراكب الهجرة غير الشرعية التي نشطت حركتها مؤخراً من ميناء طرابلس، والتي أدّت في أيلول العام الماضي إلى مقتل 10 أشخاص قضوا على متن زورق انطلق من شمال لبنان يحمل 33 شخصاً متوجّهين إلى قبرص، وأعادت السلطات القبرصية حينها من نجا منهم إلى لبنان.

وكانت الفترة الممتدّة بين تموز ومنتصف أيلول من العام 2020 شهدت خروج 21 قارباً على الأقلّ من السواحل اللبنانية باتجاه قبرص، حسب إحصائيات مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، مقارنة بـ19 فقط خلال 2019.

وفي العام 2019 تمكّنت ثمانية قوارب فقط من الوصول إلى قبرص، في حين اعترض الجيش اللبناني سبعة أخرى، كما سجل فقدان عدد من القوارب، أما في العام 2020 فقد غادرت ثلاثة قوارب خلال شهر تموز وحده، ليتبعها 16 آخرين في الفترة بين نهاية آب والأسبوع الأول من أيلول، ثمانية من تلك القوارب وصلت إلى الساحل القبرصي، في حين اعترض الجيش خمسة قوارب، وأعادت السلطات القبرصية أربعة إلى لبنان، وتم تسجيل وصول قاربين في وقت سابق من دون أن يتم التأكد من موقع وصولهما أو مصير ركابهما.

ويتخوّف مصدر أمني في حديث مع “المفكرة” من ارتفاع أعداد قوارب الموت التي ممكن أن تنطلق من لبنان مع بداية فصل الربيع المقبل ولاسيّما مع استمرار تداعيات الانهيار الاقتصادي، مشيراً إلى أنّه غالبا ما تتراجع حركة الهجرة غير الشرعية ولاسيّما عبر البحر في فصل الشتاء.

 ويوضح المصدر  أنّ ما كان لافتاً خلال العمليات التي تم إحباطها مؤخراً ارتفاع نسبة اللبنانيين على هذه القوارب التي غالباً ما كانت في السابق تقلّ سوريين بنسبة كبيرة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الصحة والتعليم ، تحقيقات ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، أجهزة أمنية ، مجزرة المرفأ ، الحق في الحياة ، انتفاضة 17 تشرين ، الحق في الصحة ، جائحة كورونا ، الحق في السكن ، الحق في التعليم ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، حراكات اجتماعية ، لا مساواة وتمييز وتهميش



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني