تتميز معركة “هيئة التنسيق النقابية” عن غيرها من حراكات العام 2013 لتجنيدها أكبر عددٍ من الناس في نشاطاتها المتنوعة، وعلى مدى أشهر عدة وبانتظامٍ قل نظيره في التاريخ المطلبي في السنين التي تلت الحرب الأهلية. فهي المعركة التي تكاد أن تكون الوحيدة التي يتلمس المواطنون حراكها ونتائجه في واقعهم اليومي ومباشرة، إذ أن المنضوين فيها وحدهم يُعَدّون بأكثر من مئة ألف موظفٍ ومعلمٍ، والمتعاطين مع هؤلاء هم حوالي ثلاثمئة ألف تلميذ وعموم المواطنين ممن لديهم إجراءات إدارية في مؤسسات الدولة.
والهيئة إطار تنظيمي وتنسيقي لستّ رابطات ونقابة أساسية تُمثل موظفي القطاع العام وأساتذة التعليم ما قبل الجامعي في القطاعين الخاص والرسمي. كان أساس نشاطها للعام 2013 يتمحور حول إقرار ما يسمى “بسلسلة الرتب والرواتب”، وهي مشروع قانون حكومي يقضي بتصحيح معاشات الفئات المهنية المعنية على ضوء زيادات الأسعار التي شهدتها البلاد منذ العام 1998، تاريخ آخر تعديل للمعاشات.
في معركتها لإقرار السلسلة من قبل الحكومة، برز في وجه هيئة التنسيق النقابية خصمان مُعلنان، من خارج الطاقم الحكومي والنيابي، هما أصحاب الرساميل وأصحاب المدارس الخاصة. أما نشاطاتها، فتنوّعت على مدى السنوات الثلاث الماضية بين الإضراب والتظاهر والجدال الإعلامي، لكنّ عملها تميّز في سنة 2013 لتنظيمها خلال شهري شباط وآذار حراكاً مركّزاً، تمَثّل بالإضراب المفتوح الذي استمر مدة 33 يوماً، والتظاهرات والاعتصامات اليومية بموازاته والتي عمّت المناطق، بغية إجبار حكومة نجيب ميقاتي على إحالة مشروع قانون تصحيح الأجور الذي أقرّته في أيلول 2012 إلى مجلس النواب والتصدي للتعديلات التي تطلبها الجهات الخصم للمشروع.
سنعالج في هذه الورقة هذا الحراك المُركّز تحديداً، آخذين بعين الاعتبار إطاراته البنيوية في ما يخص الشخصيات الاجتماعية المنضوية فيه، من نقابيين وجماهير مُحتملة ومختلفة، من جهة، وخصائصه كمنظومة أحداث ومناسبات استثنائية من جهة أخرى: أي كحراك يؤمّن بنظرنا إطاراً مناسباً للنضال وللنفسية النضالية عند جمهوره كما عند المناضلين. والحديث في خصوص هيئة التنسيق لا شك يطول، والموضوعات التي ارتأينا معالجتها ضمن الحدود التي يسمح بها النشر الصحافي، والإعداد الدوري (في الشهرين الأخيرَين من العام)، كما الصيغة الأدبية المعتمدة، تبقى من مسؤولية خيارنا الشخصي، وهي نفسها مفتوحة على التوسّع أيضاً.
وتيرة تصاعدية ومزاج استثنائي
تجدر الملاحظة أولاً، أنه في مشهدها العام، كانت مجموعة النشاطات التي قامت بها الهيئة بين 19 شباط و21 آذار 2013، من إضراب مفتوح شمل موظفي القطاع العام وأساتذة التعليم الرسمي الما قبل الجامعي خاصةً، وأساتذة التعليم الخاص نسبياً حتى تعليقهم مشاركتهم في 4 آذار، ومن تظاهرات حصلت بوتيرة يومية (باستثناء يومي نهاية الأسبوع)، كانت توحي مجموعة هذه النشاطات بسلوكها منحىً تصاعدياً، أكان على مستوى الخطاب أو على مستوى التحركات. فكان الكلام مثلاً عن “تحرير” الأملاك البحرية عند طرحها من قبل الهيئة كمصدر لتمويل للسلسلة رداً على التسريبات الآتية من مجلس الوزراء التي كانت تربط السلسلة بأزمة تمويل وتنذر بتصاعد تلك. وقد لعبت تظاهرة الهيئة أمام مرفأ “الزيتونة باي” المرتبط بشركة “سوليدير” على هذا الوتر، إذ بدأت التظاهرة أمام مدخل المرفأ، وقد جمعت عدداً كبيراً من المشاركين بالنسبة لغيرها من التظاهرات الفرعية، ثم قرر المنظمون دخول العقار، مفاجئين القوى الأمنية الخاصة بالمرفق والرسمية. وبعد أخذ ورد واتصالات، سُمح للأساتذة والموظفين بدخول العقار مع لافتاتهم. كذلك كان هناك كلام عن تحضير لإضراب يشمل كل القطاعات العمالية في البلاد (النهار في 2آذار) في يوم 6 آذار بالتشاور مع ممثلي اتحادات عمالية ومصالح “مستقلة”.
هذا الخط التصاعدي للخطاب الداخلي للحراك وبعلاقته مع الخصوم، تَوَلَّد بنظرنا من الإطار الذي أمّنه الإضراب المفتوحوالتظاهرات أساساً للمشاركين، من تمكينه لهم المحافظة على المزاج الاستثنائي الذي يدفعهم للمثابرة والتمسك بأجندة الحراك، ولمجاراة المعركة في ما تمليه ضرورات الخصومة.هذا المزاج الاستثنائي لا يأتي بسهولة، إذ تتخلل يوميّات هذا الجمهور صراعات عديدة مع محيطه ومع “ضرورات الحياة اليومية” وخطابها الذي ينادي الفرد للعودة إلى “طبيعة الأمور” وبديهياتها: أي إلى “العمل” و”الواجب تجاه عائلاته وتجاه وظيفته”، و”المسؤولية”. هو ما تلمسناه في شهادة شخص ممن قابلناهم، وقد اعتبر أن أحد أبرز الضغوط النفسية التي عانى منها أساتذة التعليم الثانوي كانت فيما سيؤثر الإضراب على العام الدراسي أم لا وعلى نتائج تلاميذهم في الامتحانات الرسمية، ما تسبب عندهم بشكوك بالحراك تحسسته قيادة الرابطة. هذا عدا شكاوى أو استيضاحات لجان الأهل في المدارس. ويمكن أي مراقب تلمّس هذا الصراع الذهني مثلاً عند ذهابه إلى إدارات الدولة أثناء الإضراب، وتسجيله ردّات فعل الموظّفين عند طلبه منهم التصديق على وثائق أو عند استفساره حول مسار “معاملاته الإدارية”، إذ تأتيه ردّات فعل الموظفين مصبوغة بعدائيّة على شكل “شو قصّتكن؟ عندنا إضراب!”، والتي قد تبدو خرقاء إذا ما قيست من وجهة نظر عقلانية ووَجب تجنبها لكي لا تفقد القضية استعطاف الجمهور الأوسع، وهي غالباً ما يفهمها الجمهور خارج الوظيفة على أنها من “كسل الموظفين المعتاد”، بينما قد تكون أقرب عند من قالها إلى زلّة لسان تكشف عمّا تمرّ به نفسه من حيرة وعدم اتّزان معنوي خلال الإضراب، إذ يحتاج المرء الى ما يؤكّد له صوابية قطعه للمسار اليومي وجدواه.هذه الديناميكيات الاجتماعية لفعل الإضراب تضاف إلى الأهمية “القانونية” لخرق موظفي حراك هيئة التنسيق المادة 15من قانون الموظفين سنة 2012، وتعطي حقه لفهم هذا الخرق على أنه “انتصار للحركة المطلبية”، إذ تصحّ المجازفة بالقول إن لا حركة مطلبية دون الإضراب.
خطّة الطبقة السياسية لكسر الحراك المركّز
في 21 آذار 2013، وبعد 33 يوماً من بدء الحراك المركّز لهيئة التنسيق النقابية، “أحالت” حكومة نجيب ميقاتي مشروع سلسلة الرتب والرواتب إلى مجلس النواب، مرفقاً بمشروع قانون يتناول تمويلها منفصلاً عن الموازنة العامة. لم يحتسب إقرار “إحالة” السلسلة إعلامياً كـ”بادرة كريمة” لحكومة نجيب ميقاتي. فالحكومة هذه كانت قد “حرقت” رصيدها عند مماطلتها في إقرار السلسلة أولاً، مع ما رافق هذه المماطلة من سوء تفاهمات وخيبات كثيرة (لو احتسبنا الجدالات العلنية والمغلقة التي جمعت الحكومة بالهيئة لمناقشة مضامين نسخات القانون وحدها)، ثم بعد إقرار السلسلة في المماطلة في إحالتها إلى مجلس النواب. عدا ما بُني من ثنائية رمزية خلال الحراك، وأخصها في الأشهر الأخيرة، كان الميقاتي وفريقه قطبها السلبي في مصطلحات ونفوس الناشطين ومن حولهم في الصحافة. لكن الحادث الأبرز والأكثر دلالة في هذا الخصوص كان استقالة نجيب ميقاتي في اليوم التالي للإحالة، أي في 22آذار 2013، والتي، إن دلت على شيء، فهو أن رئيس الوزراء هذا ليس مهتماً بتاتاً بالاستفادة من رصيد بُني على ملف السلسلة. والاستقالة هذه تكسب دلالات أكبر إذا ما احتسبنا ما تناقله المعلقون الصحافيون، من أنها كانت منسّقة ومقرّرة في الأيام التي سبقت إحالة السلسلة عند اجتماع الرؤساء الثلاثة في روما بمناسبة تعيين البطريرك الماروني بشارة الراعي كردينالاً في الفاتيكان، وذلك بالعلاقة مع حساباتٍ “شرق أوسطية” معينة كانت في بال المعنيّين.
أما على صعيد الحراك، فقد كان لعدم مشاركة حركة أمل في اليوم الأخير بعض الدلالة، إذ خلافاً لما تناقله بعض الإعلام، كان اليوم الأخير للإضراب قد حصل بتصويتٍ بالأغلبية داخل مكوّنات الهيئة وليس بالإجماع كما حصل في الأيام السالفة، مع إعتراض للمندوبين المحسوبين على حركة أمل على الإضراب. وقد حصل الخلاف في الساعات المتقدمة من مساء يوم 20آذار، حسب رواية أحد مُستجوبينا.
والحال هذه، يبدو عند هذه النقطة أن القوى السياسية التي في الحكومة قد قررت مجتمعة تنفيس الحراك، وما كان إقرار حكومة ميقاتي للقانون مرفقاً بملف التمويل ومتضمناً موادَّ مجحفة ببعض فئات الحراك دون غيرها (الفئتان الرابعة والخامسة والمتقاعدون)، إلا ضمن الوسائل المُعتادة، المُجرّبة وغير العفوية، لكسر حراكٍ شعبي وتفريق جمهوره، بعدما اتفق على سبل هندسة التطورات الاجتماعية. والأمر ليس بقليل، على صعيد علم اجتماع الطبقة السياسية في لبنان. فهو يلقي الضوء على مهاراتٍ سياسية خاصة يبقى أن ينظر التحليل إلى ظروفها الملائمة بتمعّن.
لا شك بأن ما يجمع الفرقاء السياسيين، وبالتحديد سياسيين مختلفين من حيث أطرهم الاجتماعية، بين نبيه برّي مضياف قاعة “أدهم خنجر”، ونجيب ميقاتي، ذات الصالون والفم المغلق، وطبعاً حزب الله في وقت لاحق، هو ما اشترك فيه خطابهم العلني في موضوع السلسلة، ألا وهو التسليم بمبادئ الخطاب التقني المحاسب. من الأرجح أن كلّهم اعتبر أن “السلسلة ستمر”، منذ مرحلةٍ ما من الحراك بدت فيه الجهات المهنية متماسكة وصلبة، لكن أي “سلسلة”؟ كان يجب تذويبها للمحافظة على السياسة المالية القائمة. والخطاب التقني ليس بالنكتة، فهو كان له وقع حتى على البعض من فئات المُضربين، من أساتذة وموظفين، بحسب أحد مُستجوبينا. كما أن الخوف من “انهيار إقتصادي” لا يفقه أحد أسبابه وميكانيكياته، شبيه بالانهيارات التي حصلت سابقاً والتي لم تُفسّر رسمياً حتى اليوم، قد طال لا شك بعض الفئات الشعبية المتفرّجة والمحتكّة بالمشاركين في الحراك، ما زاد بدوره الضغط النفسي والتشويش الرمزي على هؤلاء.
والأمر نموذجي بما يعرضه من ظروف لحراك الهيئة ولغيره من الحراكات، باختلافهم مع حراكات الأحزاب المهيمنة )و”بالمقارنة” مع هذه لا شك في نفوس المواطنين(: إذ يمكننا أن نتلمّس كيف يستقيم إطار رمزي سياسي ذو هيبة كبيرة، بالرغم من ضحالة لغته وتلعثم حاملي هذه اللغة التي تكشف عنه زلّات ألستنهم الطبقية (سيصف رئيس الوزراء الحراك بـ”المجّاني” مثلاً). ونتلمّس أيضاً كيف هذه اللغة وهذا الخطاب وما يرافقه من خطواتٍ رسمية (الإجراءات المؤسساتية البدائية مثل “الإحالة”) يمكنه أن يُبقي مجموعة شعبية منظّمة في حالة ضغط مستمر، بالرغم من استواء هذه المجموعة الشعبية في وجه هذا الخطاب كقوةٍ فاعلة وأكيدة، كما تبيّنه ردود الفعل على الحراك. ثم طبعاً، كيف تقضي هذه المنظومة على ذكرى الحراك عند من اختبروه وتلمّسوا معانيه.
في الأشهر التي ستتبع، ستدخل هيئة التنسيق النقابية في متاهة “تقنوية” جديدة، إذ ستتطلب إحالة السلسلة 77يوماً إضافياً سيكون المشروع خلالها محل مراسلة بين المديرية العامة لرئاسة الجمهورية ووزارة المال، حيث ستجد الأولى أخطاءً في أرقام المشروع أربع مراتٍ ستطلب تصحيحها من الوزارة قبل أن يوقّع رئيس الجمهورية على المشروع. خلال هذه المدة، ستكتفي هيئة التنسيق بتنظيم اعتصام واحد، في 23أيار، أي بعد شهرين من توقف الإضراب المفتوح وحراكه، في ساحة رياض الصلح. ثم ستعمد إلى الوسائل التقليدية بالتهديد بمقاطعة تصحيح الامتحانات الرسمية، حاصلة نتيجة التهديد على توقيع رئيس الجمهورية في 19حزيران. ومن ثم، ستصبح السلسلة في عهدة اللجان النيابية المشتركة، فتؤلف لجنة نيابية فرعية لدراستها برئاسة إبراهيم كنعان (تكتل التغيير والإصلاح) وإذ تعيّن على هذه اللجنة إنجاز عملها في غضون شهرين، فإنها استمرّت في عملها حتى شهر كانون الاوّل (أي بعد خمسة أشهر). خلال هذه المدة، ستقوم هيئة التنسيق بمجموعة اعتصامات في المناطق وفي ساحة رياض الصلح وذلك في يوم واحد، في 4أيلول، ولن يتّفق أعضاؤها على تنظيم إضراب قبل تشرين الثاني من العام، حيث سيُقرر تنظيمه في يوم 26من هذا الشهر، وسيُضطرون إلى إلغائه بسبب سوء الأحوال الأمنية (انفجاران تسبب بهما انتحاريان أمام السفارة الإيرانية)، دون تحديد موعد آخر لهذا العام.
قاعدة الحراك
هل من خصائص لقاعدة حراك هيئة التنسيق جعلت حصول الحراك أو ساهمت في حصوله، أم أنه كان لينجح في أي إطار مهني آخر فيه نقابة قوية ومستقلة؟
لا شك بأن لقاعدة الحراك أهمية نسبية عند الطبقة السياسية، إذ يبدو أن حصول الحراك بموازاة التحضير لانتخابات نيابية في حزيران 2013عزّز من وقعه في حسابات الأفرقاء السياسيين في لعبة انتخابية تعتمد نتائجها على فوارق بسيطة من الأصوات في كل دائرة بحيث يصبح عدوّها الحاسم الامتناع عن المشاركة عند الجمهور الذي قد يسببه تدني الحماسة، هذا بينما استوت المواقع السياسية في السنين الثماني الماضية على تعبئة “مليونية” مُتورّمة خلقت حماستها الأزمة “الآذارية” وقد يكون من الصعب على الأفرقاء السياسيين المحافظة على مواقعهم بالوسائل نفسها في عام 2013.
أما على مستوى الفعالية التعطيلية لمجرى الحياة اليومية التي يملكها الحراك، فيعود الفضل بها لشمل الهيئة لقطاعات مهنيّة متنوّعة وأساسية وذلك ضمن محورين هما: الأساتذة والموظفون. في هذا الخصوص، كان لتوسيع رابطة موظّفي الإدارة العامة لتشمل الفئتين الرابعة والخامسة من الموظفين في عام 2012أهمية حاسمة في جعل رابطتهم مؤثرة على مستوى التعطيل كما على مستوى التأثير الدعائي، إذ لا شك بأن قطاعاتٍ أخرى شبيهة بهذا الجسم من حيث المعاشات والمستوى التعليمي مثل الجيش وقوى الأمن تعاطفت مع حراك الهيئة، وهو ما نقلت أصداءه الصحافة.
هكذا مثلاً يخبرنا أحد مُستجوبينا أنه فيما كان يهمّ برفقة حنا غريب لحضور جلسات محاكمة الوزير السابق شربل نحاس في قضية “السبينيس”، استوقفتهم مجموعة من المجنّدين من قوى الأمن الداخلي المولجة بحراسة المحكمة، وأعربوا لحنّا غريب عن إعجابهم به وتأييدهم له، وسألوه إذا كانت السلسلة “رح تمرق؟” وإذا كانوا سيحصلون عليها.
كانت قاعدة الحراك متنوّعة أقصى التنوع، إذ اختلط فيها حاملو الشهادات الجامعية (التعليم الثانوي والفئتان الأولى والثانية للموظفين) بحاملي الشهادات المدرسية (بعض التعليم الأساسي، الفئات الوظيفية الأخرى)، كما الأجراء من مياومين ومتعاقدين اختلطوا بمن في الملاك، والذين تنوّعت مبالغ أجورهم ممّا دون الحد الأدنى للأجور (بعض معاشات الفئة الخامسة للوظيفة وأساتذة من الدرجتين الأولى والثانية، انظر العددين 104و111من النشرة “الشهرية” الصادرة عن “الدولية للمعلومات”) إلى ما فوق المليون ونصف مليون ليرة لبنانية (دون مبالغة نسبة الذين يقبضون أكثر من هذا المبلغ). كما اختلطت الفئات العمرية، التي رصدتها الصحافة أثناء التظاهرات، والمرادفة لتواريخ مراحل دخول مختلفة إلى سلك الدولة (منهم من دخل في أيام الحرب، ومنهم من دخل من بعدها). وهذا كله ساهم لا شك عند من اختبر الحراك، وفي التظاهرات والإضرابات خاصةً، في تجسيد صورة (لوحة) استثنائية التَحمت فيها التناقضات العادية والتراتبيات، باعثةً في نفوس بعضهم الشعور بأن كل شيء أصبح ممكناً أو، أقله، بأن مطالب الحراك “واقعية” وقابلة للتحصيل. وهي مناحٍ نفسية أمكن رصدها في تطور الشعارات التي اعتمدتها الهيئة لا شك بالانسجام مع مناحي بعض القاعدة. ومجاراةً لهذه النزعات عند الجمهور التي يرجح أن يكون المندوبون الحزبيون قد نقلوا صداها إلى القيادات السياسية الموجودة في الحكومة، يمكن تفسير إحالة السلسلة بالشكل الذي حصل من قبل الحكومة كخطوة تهدف لتنفيس الحراك، لأن تنفيسه كان ليكون مستحيلاً من دون إعطاء الجمهور شيئاً ما. أما “الشيء المعطى” هنا، فهو ذو دلالة إضافية في فهم نزعاتٍ أخرى للجمهور المشارك، إذ هو معطى يكاد أن يكون مادياً فقط. فالشقّ المعنوي أو الرمزي الذي ارتكز عليه الحراك أيضاً، وهو فصل السلسلة عن الإيرادات الضريبية (وهو مادّي أيضاً لكن مفعوله غير مباشر)، لم يُلبَّ بتاتاً. والسلسلة أُعطيت ضمن صيغة لم تبد إزاءها قيادة الحراك وممثلوه حماسة لافتة، ولم تُعلن بمثابة انتصار كلّي وحاسم، لأنها تلمّست أن شيئاً من البناء الذي عملت على تشييده قد كُسر. أما الدلالة هنا، فهي في ماهية تطلّعات بعض الجمهور، المكتفية “بالإنجاز المادّي”. وقد حددنا أن تنوّع جمهور الحراك كان من عناصر مقوّماته أمام جمهوره نفسه، فبالتالي كان لإبعاد جزء من الجمهور عبر “ترضيته” مادياً وقع مضاعف المفعول، يصغّر من حجم الحراك وحجم قوّته الضاغطة، وينتهي الى إحباط فئات الجمهور الأكثر انسجاماً مع عمقه.
لكن مسألة الجمهور “المادي” تحتاج إلى توضيح. وهي إذا تركها التحليل على ما هي عليه، قد تفتح الباب لكل أشكال الحجج التي تكثر في الإعلام والقائلة بطبيعة الموظّفين الحزبيين “الرثة”، وهي فكرة خاطئة بقدر ما تدل على تفكير محدود وعن فصاحة رثة عند صاحبها. الانتصار “المادّي” الذي منحته الحكومة، ولو على الورق، والذي ساهم في الحد من زخم الحراك، يدل على أن التطلّعات عند الجمهور تبقى محصورة بحدود رمزية ضيّقة، فلا تولي للمسألة أهمية جمّة سوى بمدى تحقيقها مكاسب ملموسة على المستوى الشخصي الآني، وكأن العمل النقابي لا يمكنه أن يؤسس لتطوراتٍ نوعية في المستقبل على أي صعيد كان. هذه الصفة عند بعض الجمهور لا تعني تغليباً “مطلقاً” للمصلحة الآنية أو أي شيء من هذا القبيل في شخصيات أفراده. فالشخصيات هذه قد تكون لها تطلعات على مستويات نفسية عدة، ترمي بها في رحاب رمزيات الأحزاب المهيمنة وعبر مشاركتها في نشاطات هذه الأحزاب التعبوية. وما تعنيه هذه التطلعات هو أن رابط قسم من الجمهور بنموذج “التنظيم النقابي” كما تمارسه هيئة التنسيق ما زال هشاً. والتنظيم النقابي يفهم هنا على أنه إطار رمزي، لا ينخرط أعضاؤه في لعبة “السياسة الكبرى”، إذ لا يترشحون للانتخابات النيابية أو الرئاسية (ويُنتقدون عندما يفعلون ذلك)، ولا نشاط لهم في “القضايا” التي تحتل أعلى الهرمية الرمزية في الإعلام. وعليه، قال لنا أحد مُستجوبينا عند سؤاله عن مستقبل الحراك وهيئة التنسيق، متشائماً، “إن الناس لم تحصل على السلسلة”، وكأن الهيئة ستنتهي بعدم تحصيلها السلسلة مع أن الشيء لن يحصّله أحدٌ غير الهيئة، كاشفاً بتشاؤمه عن حصيلة ما يتلمّسه من علاقةٍ للقطاعات المهنية مع عمل الهيئة على المدى الطويل المجرّب في الماضي. والمُتوقع في المستقبل، أن لا اعتبار لعمله عند الكثيرين خارج صيغة التحصيل هذه والتقييم الذي ترتّبه.
من هم عصب الحراك؟
بإمكاننا القول إن إعلان انتهاء تحرك جماهيري متعدد الفئات يبدأ عندما يُطرح السؤال عمن من الفئات المشاركة كان عطاؤه للتحرك أكبر. عندما تعود العناوين الرمزية السابقة للحراك إلى واجهة الخطاب العام، عن “موقف الرابطة” أو “النقابة”، بينما تتلاشى الثنائية التي تضع “أهل الحراك” في وجه “خصمه”، “حزب الدولة” في وجه “اللصوص”. هكذا مثلاً انتهى حراك ما سُمّي لاحقاً بـ”14آذار”، بالمزايدات بين أفرقائه (التيّار الوطني الحر في وجه الآخرين)، وقد أصبح الحراك محل جدال وبات اسمه “ماركة مسجّلة”.
هو ما أمكن قراءته في جريدة الأخبار (الأخبار 09/11/2013) مثلاً، نقلاً عن جلسة مندوبي فرع الجنوب في رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي المنعقدة لمناقشة إضراب هيئة التنسيق المقرر تنفيذه في يوم 26من تشرين الثاني. وهو إضراب تقرر بالأغلبية لا بالإجماع، وقد عارضه مندوبو حزب الله وحركة أمل. وقد كانت حركة أمل، ثم حزب الله، رافضين لكل دعوات حنا غريب للتصعيد بعد انتهاء الإضراب المفتوح. وجاء في كلام المندوبين في الاجتماع المذكور أن رابطة التعليم الثانوي كانت “رأس الحربة، وكان أساتذتها وقود الإضراب، فيما كانت المشاركة خجولة من باقي مكوّنات هيئة التنسيق، بل إنّ بعض الإداريين تقاضوا الرشى و”دوبلوا” المعاملات في عز التحرك، وأساتذة التعليم الخاص شاركوا بنسبة 20% في حد أقصى”، بحسب “الأخبار”. كذلك تلمسنا ممن قابلناهم في خضمّ البحث، آراءً من النوع نفسه، تعزّي نجاح الحراك بالإجماع لرابطة التعليم الثانوي مميزين أداءها عن باقي الروابط (يعود انحيازهم هذا ربما إلى انتسابهم جميعاً إلى رابطة الثانوي). كما كان لاثنين منهم رأي بأن الشيوعيين واليساريين هم “الحصن الأخير للحركة النقابية في لبنان” ولهم الدور الأبرز والكفيل بالقيام بالعمل النقابي.
هذه الخريطة للانتماءات كانت طبعاً دائماً موجودة، ويعرفها المعنيّون بتنظيم الحراك، وقد تحدّث بها بعض المعلّقين في الصحافة على طريقتهم وبحسب مكانهم من الخريطة الاجتماعية في جوار الحراك: فكانت “النهار”، البعيدة في إدارتها عن العالم النقابي متميزة كما أشرنا أعلاه في الإشارة إلى عدم مشاركة أساتذة مدارس حزب الله وأمل في الإضراب المفتوح، بينما المحلل الاقتصادي في جريدة الأخبار محمد زبيب، القريب من العمل النقابي والمنغمس فيه على طريقته، كان قد حذّر في مقابلة تلفزيونية مع مالك الشعار على قناة “نيو تي في” في تاريخ 18شباط 2013من نيّة قوى سياسية مهيمنة، لها وجود في الحراك، بالعمل على فرطه، من دون أن يسمي حركة أمل تماشياً مع أعراف الروابط ، وهو نهج خطابي ستتبعه “الأخبار” و”السفير” للأسباب عينها ولأسبابٍ أخرى طبعاً تجاري سياستهما التحريرية.
هكذا كانت الخريطة الحزبية موجودة دائماً في هيئة التنسيق النقابية كما داخل رابطة الأساتذة الثانويين وغيرها من الروابط، لكن التقليد العام عند النقابيين كان يقضي بعدم إبرازها والعمل على تذويب ظروف تجلّيها. هكذا كان وضع انتخابات رابطة أساتذة التعليم الرسمي مثلاً، في 2012، التي بدأت بمعركة شرسة في بعض المدارس بين من هو محسوب على حنا غريب ومن حُسب على تيار المستقبل. ذلك مع أن تيار المستقبل كان مؤيداً للخط العام الذي انتهجه حنا غريب بسبب تزويده بحجج إضافية في إطار خصومته لنجيب ميقاتي (عن غير قصد). لكن كان للمستقبل في انتخابات الرابطة أولوياتٌ أخرى، بحيث أراد من خلال خروجه عن الوفاق النقابي “تأكيد حضوره” بالرغم من معرفة وتصريح مندوبه بواقعهم “الأقلوي” في جسم أساتذة التعليم الثانوي. لكن تطوّرت انتخابات الرابطة بالاتفاق على تكوين الهيئة الإدارية للرابطة بالإجماع وبشملها مندوبين من “14آذار”، وهو خط اتّبعه حنا غريب وغيره من النقابيين على مدى السنوات.
أمثلة المعارك الداخلية التي يتم احتواؤها وصياغة سرديتها على خاتمة “نقابية موحّدة”، مثل انتخابات رابطة الثانوي، أو قرار إضراب 21آذار، تحمل جميعها نماذج برز فيها دور مندوبين منتمين إلى أحزاب مهيمنة، كان حافزهم الأبرز التقيّد بسلة أولويات حزبهم داخل التنظيم المطلبي. وتسمح لنا هذه الأمثلة بتمييز نموذجين منهجيين للعمل المطلبي يتعايشان داخل كل تنظيم.
من جهة هناك نموذج حزبي، نهجه العام يقضي بامتصاص نزعات الأرض الاجتماعية المهنية النقدية. ضمن هذا الخط، لا يمكن لهيئة التنسيق أو الرابطة أن تحصل على كل مطالبها إلا إذا كانت هذه المطالب متواضعة إن لم تكن وهمية (مثل ما قبل به الاتحاد العمالي العام في موضوع الحد الأدنى للأجور)، لأن عليها أن توافق صيغة تعايش القوى السياسية المهيمنة في ما بينها. هذا الخط سيذهب بمنحى العمل النقابي لأنه لا بد من مجاراة الأرضية الاجتماعية المتحوِّلة إذا ما تحرّكت، لكنه قد يقبل بأول مُقترح يقدّمه الحكم مهما كان سقف هذا المقترح منخفضاً. خطاب هذا الخط هو الخطاب الإعلامي المهيمن، ولا يقدم للحركة النقابية أي خطاب جديد. وهو قائم على حجج تدّعي “الواقعية” مع أنها لا تنطلق من تقييم موضوعي للواقع، إذ تردّ المتحدثين وحديثهم إلى تصوير متشائم للواقع، بأن “هذا كل ما كان يمكن فعله”، وبأن “هناك أموراً لا يمكن تخطيها”، إلخ. واضعاً الآخرين في خانة “التهوّر” أو “المبالغة” بشكلٍ غير مباشر. وهو نموذج من النقابيين الذي يكتسي شرعيةً إضافية ضمن الصيغة “الواقعية” عن طريق إبراز علاقته و”تواصله” المستمرين مع القادة السياسيين (“الرئيس بري”) طارحاً بذلك دائماً سياسات “الصفقات” و”التركيبات” التي لا تحصل إلا بالخفاء وبالتكتّم في وجه سياسة التعبئة والدعاية الصاخبة وكبديل منها. “سنحلها بالمجلس النيابي”، “أصبحت الآن في عهدة الرئيس بري”. ولا شك بالفعل بأن ما يجعل هذا الخط ممكناً و”فعّالاً” هو التدخّل المباشر لسياسيين من “الصف الأول” الذين تخصصوا عبر السنين بلعب هذا الدور في أكثر من ساحة عامة (مثل النقابات والجامعات). وخطاب هذا المنهج يستمد حجّته ومشروعيته من الانتخابات النقابية التي يخوضها الحزبيون ضمن خطوط هذا الخطاب، إذ تكون الانتخابات النقابية عنده مناسبة لرسم الحدود بين المهنيّين على أساس التقسيمات الرمزية الميهمنة، أي الحزبية والطائفية أحياناً، أي على وزن “نقابي محسوب على 14آذار” و”نقابي محسوب على أمل”، مذكرةً الجمهور المهني بحقيقتها.
هذا، ويستحيل على النموذج الحزبي من المندوبين أن يقوم بتحرّك كالذي عرضناه وقامت به هيئة التنسيق في عامي 2012و2013، إذ كان ليسقط بمجرد اتّباعه تقاليد هيئة التنسيق القاضية بـ”الإجماع” على الخطط والقرارات، والمبنية على مراعاة توازناتٍ رمزية (“لا 8ولا 14“) كما عددية معيّنة توجب تأمين مشاركة روابط ذات أغلبيات حزبية مختلفة. وكان ذلك ليحصل في أول تصويتٍ بشأن إعلان إضراب. لا يمكن لهذا النهج أن يجعل من الجسم المهني قوة ضاغطة، ولا يمكنه أن يكون سوى قوة عرقلة داخل الجسم النقابي. ولا شك بأن كل تحركات الهيئة على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، وأخصّها الإضراب المفتوح، ما كانت لتنجح على مستوى المندوبين أولاً، دون تخلٍّي بعض المندوبين الحزبيين وفي بعض النقاط الزمنية المحورية عن هذا الخطاب. وكان لا شك لتحصيل أساتذة الجامعة اللبنانية والقضاة سلسلتيهما دور في تشكيل ظروفها المؤاتية.
هذا النموذج لا يتحدّث رجالاته في الإعلام كثيراً ربما لسببين: أولهما سقوطه معنوياً في المحاججة أمام خطاب الآخرين، وثانيهما عدم حاجته لذلك، إذ أن مجموع الخطاب الإعلامي يصب في مصلحته ومقصده، وهو ترك الأمور على ما هي عليه (في عهدة الرئيس بري).
من جهةٍ أخرى، هناك نموذج نقابي “مستقل”، وهو مستقل عن أجندة الأحزاب السياسية، ويبدو أنه يتماشى في أكثر من محور مع انتماء يساري سابق أو مستمر. ولا يمنع ذلك أن يُحتسب بعض معتنقيه أحياناً في الانتخابات الفرعية للروابط على فريق سياسي من الأفرقاء المهيمنين، فلا يمكن لأي خط البروز انتخابياً دون أن ينهض بنسبةٍ ما بالتحالف مع الأحزاب الموجودة. المنضوون تحت هذا النموذج هم إذاً أشخاص لهم قدرة وكفاءة معينة على تخطي الخطاب الحزبي، على “تدوير الزوايا” كما قيل لنا في مقابلة. فيقضي هذا النموذج وخطابه بأخذ المناحي الاجتماعية المهنية في اتجاه مطلبي جامع للتناقضات الحزبية أو متجنّباً لمعضلاتها أو متخطياً لها. ولا شك بأن خطاباً متناقلاً بما فيه في الإعلام المهيمن (مثل البرامج الفكاهية على التلفزيون) عن “تساوي كل الأفرقاء السياسيين” يشكل بالنسبة لهذا الخط منطلقاً لتذويب الشرعية الحزبية، وهو ما أمكن تلمسه في إحدى مقابلاتنا مع أحد المندوبين، عند حديثه عن “حيتان المال” و”النظام”. وهو إذ تأخذه سردية الحديث في وجوب تحديد مسؤولية فريق سياسي بتمييزه عن غيره، تجده أسير “تدوير الزوايا” و”الواقعية” فيعيد ويؤكد مسؤولية الجميع المتساوية. ويقول لك مندوب آخر عند سؤاله عن غياب حزب الله عن الإضراب المفتوح: “ولكن من كان ليؤمن لنا كل هذه الناس في تظاهرة 10أيار (2006) غيرهم؟”.
ولما كانت “الواقعية” التي يتسم بها الخطاب الحزبي تتفق وتشترك مع خطاب النموذج المستقل لأسبابٍ موجبة، كان على ما يبدو للحراك المركزي الذي مثله الإضراب المفتوح تأثير نوعي على هذه الشراكة لمصلحة خطابٍ ثالث هو في استمرارية مع الخطاب المستقل وفي منحى قطعي مع الخطاب الحزبي، وهو خطاب “التعبئة” الذي يطرح على طاولة النقاش كل الشروط الموضوعية للخطاب عينه، وهو ما أمكن رصده تدريجاً في حراك هيئة التنسيق بدءًا من التظاهرة بعنوان “ضد الانقسام النقابي” في 2012ووصولاً إلى مرحلة الإضراب المفتوح التي جعلت من المشكلة النقابية مشكلة مع أشخاص معينين، في مجلس الوزراء وبين أصحاب رؤوس الأموال، جرت تسميتهم في التظاهرات، مع الملاحظة أن التسميات استثنت رجال الصف الأول في السياسة.
دون كيل المديح بحنا غريب، تجدر الملاحظة في خصوصه أنه وكغيره من “أبناء الثورات” في الأدبيات المعنية بالأزمات والتعبئة الجماهيرية، تشرّب أكثر من غيره من النقابيين المطلّين على الإعلام “أدبيات التعبئة” التي تشكّلت في الحراك المركّز وفي ما سبقه من محطات. إذ يمكن تصنيف كل المبادرات التي قام بها بعد تاريخ وقف الإضراب المفتوح في خانة الخطاب النقدي الثالث، الذي يضع كل الظروف الموضوعية قيد النقاش، بدءًا بحملة “المليون توقيع لإقرار السلسلة” ووصولاً إلى دعواته للعمال لإجبار السياسيين على تحمل مسؤولياتهم و”تشكيل حكومة وإنقاذ البلاد”. وذلك باختلاف مفضوح وآخذ في التوسّع مع من أوجب “تدوير الزوايا” معهم سابقاً، أي “أمل” و”حزب الله”. منظومة سلوكية مختلفة تشرّبها في الحراك، قد تأخذ غيره إن لم تأخذه هو نحو قطيعة تامة مع الأولويات السابقة، إذ نسمعه في محاضرة جمعته مع الوزير السابق شربل نحاس في قصر الأونيسكو في 29تشرين الثاني 2013يتوجه إلى أحدهم، في قيادة الروابط، بلهجة تحذيرية، ويناشده باعتماد مشروع تحويل الروابط إلى نقابات بتكوينها الحالي وليس بحسب المشاريع المقترحة من الطبقة السياسية في البرلمان أو الحكومة، وذلك بغية “بناء الأذرع الشعبية ذات الطابع الاجتماعي والديموقراطي”.
خاتمة
قد يتساءل المرء عن جدوى كل هذا الحراك، ولماذا لم تلجأ الهيئة إلى الوسائل المعتادة والتي ستعود إليها مع انتهاء الحراك (مقاطعة الامتحانات مثلاً). لكن التساؤل هذا يحمل تناسيا لتاريخ الحراكات في لبنان، التي نتج الحراك وهيئة التنسيق بتقاليدها وبتوجهاتها منه، كما أنه (أي التساؤل) ينبع من خطاب هو من أسس ارتكاز النظام اللبناني عبر السنوات. فالنظام، بصفته توازنٌ لقوى سياسية متنوعة ولعبة سياسية مستقرّة (في الموضوع الاقتصادي)، هذا النظام إذاً لا يستند إلى خطاب “عقائدي” مخالف لهيئة التنسيق، أو إلى فلسفة مخالفة أو نقيضة، وهو بدا خلال العام 2013 في قضايا اجتماعية عديدة فارغا ودون مستواه الرمزي السابق لعام 2005. أما ارتكازه، فاتسم “باللغة الإجرائية”، التي لا تقول شيئا سوى أن “الأمور سارية وقيد الدراسة” وتعوّل على مرور الوقت وتفكّك خصومها في الدورة العادية للحياة الاجتماعية. هذه اللغة الإجرائية، رغم فراغها، لا تعني العجز، إذ يجتمع على اعتمادها الفرقاء السياسيون المختلفون. ولا شك أنه يجب النظر إليها على أساس أنها تجاري نوعا من الاختبار للواقع عند اللبنانيين الناتج عن تجاربهم الفردية والجماعية في العقود الماضية -نسميه “الاختبار الواقعي للواقع”- من مبادئه عدم “الإيمان بإمكانية التغيير” عند الأفراد ومن أسسه عزل الأفراد في همومهم الاجتماعية والاقتصادية.
أما “الحِراك المركّز”، فكان بالمرصاد لهذه التركيبة النظامية، من “لغة اجرائية تجاري اختبارا واقعّيا” مهزوما، وقد يكون ضروريا تكراره في أي حراك يهدف الى الوصول إلى غاية مطلبية، كما فرض نفسه في موضوع سلسلة الرتب والرواتب. إذ أنه وضع الأفراد في إطارٍ جامعٍ لهمهم الاقتصادي من جهة، وقلب عامل الوقت إلى عامل ضغطٍ على الطبقة السياسية من جهة أخرى، معطياً لقضية الأجراء وزناً مضافاً في الساحة السياسية والوطنية.
نُشر في ملحق العدد الثالث عشر من مجلة المفكرة القانونية