يعكس تمثال “البندقيّة المربوطة” – الذي أهدتْه حكومة اللوكسمبورغ إلى الأمم المتّحدة في العام 1988 وأصبح رمزًا يلازم مقرّاتها حول العالم – مهمّة تحقيق السلام العالمي التي اعترفت بها الدول في ميثاق الأمم المتّحدة وأوكلت إلى المنظّمة الحفاظ عليه. يبدو أنّ “الربط” الوحيد المفروض متعلّق بقدرة هذه الأخيرة على تحقيق مهمّتها. لكنّ الأمم المتّحدة، مثل القانون الدولي، ليست إلّا ستارًا تتوارى خلفه الدول التي تخفي، هي بدورها، أشخاصًا فعليين يحدّدون سياساتها ويقرّرون الفعل باسمها.
في لحظة تاريخية معيّنة، أقرّت الدول أنّ السلام ونبذ العنف هما أساس القانون الدولي الحديث بعد حربَين عالميّتَين داميتَين، واعتبرتْ نفسها مُلزَمة بقواعد وقيم “إنسانية”. إلّا أنّها، بالرغم من وحشية الحرب على غزّة التي اتّخذت طابع “الإبادة”، بدتْ وكأنّها ما تزال تحظى بمقبوليّة نسبية (ولو مع بعض التحفُّظات من باب رفع العتب) لدى العديد من دول الشمال السياسي، وبخاصّة الولايات المتّحدة الأميركية، مقبوليّة تؤشّر إلى رغبة في تطويع القانون الدولي لخدمة حروب مماثلة، وإن ترافق ذلك مع حَرفِه عن معناه وعن غاياته. والبيِّن أنّ هذه الدول تحاول، منذ زمن، إحداث تغيير على صعيد القانون الدولي، ليس من خلال نصوص جديدة بل من خلال مواقف وممارسات، بعضها حربي، يتمّ فرض التطبيع معها تدريجيًّا في المجال الدولي. وإذ تظهر هذه المواقف والممارسات المذكورة بداية بمثابة هرطقة، فإنّه يُخشى في حال تكرارها من دون أن تلقى اعتراضًا قويًّا وحازمًا من الدول الرافضة لها أن تصبح القاعدة الجديدة[1]، قاعدة تمنح الدول القوية هامشًا أوسع للتنصُّل من الضوابط التي شاء القانون الدولي حتّى الآن فرضها ضمانًا للسلام العالمي. وقد حصل هذا الأمر من خلال تبنّي السرديات الإسرائيلية لتبرير عملياتها التدميرية التي أخذت منذ أيّامها الأولى طابع الحرب الشاملة، بل طابع الإبادة الجماعية. ومؤدّى ذلك ليس فقط تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، إنّما أيضًا القضاء على مبادئ القانون الدولي الإنساني، وأوّلها مبدأ الإنسانية أو اعتبار الإنسان القيمة العليا.
ومن هنا، وأمام الخطر الذي يُفترض أن يستشعرَه كلّ من يطمح إلى تحقيق السلام العالمي، رأينا من الضروري التوقّف عند المنحى الذي أخذته مواقف الدول الكبرى الداعمة لإسرائيل في سبيل استنهاض مقاومة فعليّة لها بما يمنع تحوّلها إلى قواعد مدمّرة للمستقبل. ومن المهمّ هنا مراكمة القوّة لمقاومة هذا المنحى، قوّة تهدف إلى إعادة التوازن المفقود، فلا نفقد الأمل في أنسنة القانون الدولي تمهيدًا لبناء سلام حقيقي وعادل.
وقبل المضيّ في ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ المواقف والممارسات التي سنتعرّض لها والتي تتهدّد القانون الدولي قد أخذتْ منحيَيْن خطيرَين: المنحى الأوّل وقد تمثّل في تشريع الحرب أو تأكيد أحقِّية إسرائيل بالرغم من كونها “دولة احتلال” في شنّها بما يناقض القانون الدولي الناظم لشرعية الحروب jus contra bellus، والمنحى الثاني وقد تمثّل في إنكار الطابع الجرمي للعمليات العسكرية التي سرعان ما أخذت طابع الحرب الشاملة والإبادة خلافًا للقانون الدولي الناظم لقواعد الحرب jus in bello. وهذا ما سنتوسّع في تبيانه في هذا المقال.
مساعٍ للانقلاب ضدّ شرعة الأمم المتّحدة
بعد الحرب العالمية الثانية المدمّرة وما استتبعها من استنزاف للقوى الاستعمارية التاريخية، برز جوّ معادٍ للاستعمار وداعم لحركات التحرّر الوطني. بنتيجة ذلك، انتهج القانون الدولي مسارَين متلازمَين: تمثّل المسار الأوّل في تخفيف سلطة وأدوات القوّة المستعمِرة عبر حرمانها من ممارسة حقّ الدفاع عن نفسها ضدّ الشعوب المحتلّة، في موازاة فرض واجب على عاتق كلّ الدول بـ”الامتناع عن الإتيان بأيّ عمل قسري يحرم الشعوب (…) من حقّها في تقرير مصيرها بنفسها ومن حرِّيتها واستقلالها”[2]. أمّا المسار الثاني فقد تمثّل في تسليح الدول المستعمَرة بأدوات قانونية لتحقيق استقلالها من خلال الاعتراف بحقّها في تقرير مصيرها وحقّها في المقاومة وبشرعية كفاحها المسلَّح[3]. ويُفهم من هذَين المسارَين أنّ القانون الدولي اعتبر أنّ حالات الاستعمار التي كانت ما تزال موجودة بعد الحرب العالمية الثانية هي حالات موقَّتة يؤمل زوالها، بل يفترض ذلك، من أجل تحقيق السلم العالمي. وكان العديد من “فلاسفة الأنوار” ربطوا فعليًّا بين ضرورة بناء السلام العالمي وإنهاء الاستعمار (بنتهام)، علمًا أنّ “كنط” KANT، وهو المنظّر الأساسي للسلام العالمي الدائم، كان اعتبر أنّ هذا الهدف لا يتحقّق إلّا بعد بلوغ الحضارة الإنسانية قناعة بأنّ الكائنات البشرية متساوية فيما بينها.
وقد جاءت مواقف الدول الكبرى الداعمة لإسرائيل بمثابة انقلاب على كلٍّ من هذَين المسارَين، من خلال تقوية شرعية إسرائيل بالرغم من كونها دولة الاحتلال، مقابل تقويض شرعية الشعب الفلسطيني في المقاومة.
حقّ دولة محتلّة في الدّفاع عن النفس
بعد عملية “طوفان الأقصى”، شهد العالم تدفّقًا غير اعتيادي لقياديّي دول الشمال السياسي إلى تلّ أبيب حيث كرّروا، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، العبارة نفسها: “لإسرائيل الحقّ الطبيعيّ (المُطلق) في الدفاع عن نفسها”. وقد أعقبوا تظاهراتهم تلك ببيانَيْن حملا الموقف نفسه. وقد عكس تمسّك هذه الدول وإصرارها على إعلان الموقف فرادى وجماعيًّا، بما يناقض القانون الدولي وما أكّدت عليه محكمة العدل الدولية في العام 2004، علمهم الأكيد بأنّ حقّ إسرائيل في الدّفاع عن نفسها ليس بديهيًّا ولا طبيعيًّا ولا مطلقًا، وأنّ عليهم أن يهتفوا به مرّة ومرارًا على أمل جعله أمرًا مقبولًا. وهذا ما كانت أكّدت عليه المفكّرة القانونية في مقال نشرته سابقًا، نكتفي هنا بالإحالة إليه نظرًا إلى ضيق المساحة.
وقد تأكّد إصرار هذه الدول على فبركة “هذا الحقّ” على نقيض القانون الدولي في تضمين الاقتراح الأميركي المقدّم في تاريخ 25 تشرين الأوّل إلى مجلس الأمن التأكيد على “هذا الحقّ الطبيعي”[4]، وقد رفضته الصين وروسيا والإمارات المتّحدة العربية لهذا السبب بالذات. كما تأكّد في تبرير رفض بريطانيا والولايات المتّحدة الأميركية الاقتراح الروسي المُقدَّم في 16 تشرين الأوّل لأنّه “لم يلحظ حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”[5]. وقد شهد مجلس الأمن نقاشات في هذا الشأن بعدما حمّل الأميركيون والإسرائيليون مجلس الأمن والمجتمع الدولي “مسؤولية تقديم الدعم صراحة” لإسرائيل في “حقّها في الدفاع عن نفسها” ومساندتها في “مهمّتها للقضاء على القدرات الإرهابية لحماس” في الاجتماع الأوّل لمجلس الأمن الذي عُقد بعد هجوم 7 أكتوبر[6]. على عكس ذلك، أكّد الممثّل الأردني – متحدّثًا باسم المجموعة العربية في مجلس الأمن في تاريخ 16 تشرين الأوّل – أنّ إسرائيل لا تتمتّع بحقّ الدفاع عن النفس، مشيرًا إلى رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري (2004) في هذا الصدد. وقد أثنت على موقفه هذا دول عدّة[7].
وعليه، بدا بوضوح كلّي أنّ الدول الداعمة لإسرائيل استغلّت البروباغندا الحاصلة حول 7 أكتوبر (بما تخلّلها من تضخيم وكذب بشأن مسؤولية حماس) من أجل إحداث تعديل بالغ الخطورة في مضمون القانون الدولي أو تحديدًا في كيفيّة مقاربته وتفسيره: الاعتراف بحقّ “دولة احتلال” في الدفاع عن نفسها ضدّ شعب محتلّ خلافًا لأحكامه كما يُعمل بها حاليًّا. وهذا التعديل يرشح مؤكّدًا خطورة مزدوجة: فعدا عن أنّه يخوّل إسرائيل شنّ عدوانها ضدّ غزّة من دون حصولها مسبقًا على قرار من مجلس الأمن يجيز لها ذلك بحجّة أنّها تمارس بذلك حقًّا طبيعيًّا[8]، فإنّه يؤدّي عمليًّا، علاوة على ذلك، إلى تأبيد الاحتلال الذي يصبح مخوَّلًا تدمير أيّ حركة مقاومة قد تتكوّن ضدّه متذرّعًا بالحجّة نفسها. وما يزيد من خطورة مواقف هذه الدول، هو أنّها لازمت تأكيد “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها” بالرغم من أنّ العدوان على غزّة اتّخذ لاحقًا منحًى تجاوز بداهة، من حيث أهدافه ونتائجه، حقّ الدفاع بكثير، ليقارب الإبادة الجماعية. وقد أشّر ذلك إلى الأهمِّية التي توليها هذه الدول لترجيح كفّة الاحتلال، القائم في عمقه على اللامساواة، على المحافظة على الإنسان كقيمة عليا.
وقد جاء قرارا الجمعية العامة للأمم المتّحدة الصادران في تاريخَي 26 تشرين الأوّل و12 كانون الأوّل 2023 بالدعوة إلى هدنة إنسانية وإلى حماية المدنيين واحترام الالتزامات القانونية والإنسانية انتكاسة لهذه المحاولات الحثيثة لتكريس حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وليس أدلّ على ذلك من تعليقَي ممثّل الكيان الصهيوني جلعاداردان والمراقب الدائم عن دولة فلسطين رياض منصور على القرار الأوّل. ففيما اعتبر الأوّل أنّ رفض الجمعية العمومية إدانة حماس هو بمثابة “رفض للاعتراف بحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، سجّل الثاني بصورة بليغة، وعن حقّ، أنّ القرار المذكور هو بمثابة “رسالة تبعثها الجمعية العامة إلى أيّ شخص يحاول إعادة كتابة القانون الدولي”.
وعليه، وفيما أمكن القول إنّ إسرائيل فشلت حتّى الآن، بالرغم من تأييد معظم دول الشمال السياسي لها، في اكتساب حقّ الدفاع عن النفس، فإنّه من المؤكّد أنّ هذه المحاولة كشفت حقيقة مخطَّط هذه الدول في حَرْف القانون الدولي عن تصوّراته الأساسية القائمة على المساواة بين الدول، في اتّجاه تحويله إلى قانون يراعي مصالح دول الاحتلال في تأبيد احتلالها، وهو أمر يعني في حال حصوله إلباس قانون القوّة والهيمنة لباس القانون.
حجب حقّ تقرير المصير بتهم الإرهاب
تمامًا كما التفَّت الدول الكبرى الداعمة لإسرائيل (ومعظمها من الدول الاستعمارية السابقة) حول حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها تبريرًا لعدوانها على غزّة، التفَّت حول توصيف حركة حماس بالإرهاب وصولًا إلى نكران حقّها في المقاومة، على نحوٍ قد يجرّد الفلسطينيين من القدرة على المقاومة ويقلّل تبعًا لذلك من حظوظهم في ممارسة حقّهم في تقرير المصير. ومؤدّى هذا الخطاب هو تاليًا قضم حقٍّ مكرّس دوليًّا (حقّ الشعوب في تقرير مصيرها وما يستتبعه من حقّ في المقاومة) من خلال استخدام تهمة “الإرهاب”، وهي تهمة ما تزال حتّى اليوم غير معرّفة دوليًّا، بل موضع خلافات عميقة، وإن كان هناك توافق دولي على اعتبار الإرهاب “تهديدًا للأمن والسلم الدوليَين”. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد هو أنّ أبرز مواضع الخلافات التي ما زالت تعيق جهود الأمم المتّحدة في وضع مشروع اتّفاقية شاملة بشأن الإرهاب الدولي منذ العام 2017، هو تمسُّك كثير من الدول بضرورة التمييز صراحة بين الإرهاب وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها وكفاحها المشروع ضدّ الأنظمة الاستعمارية والعنصرية أو غيرها من أشكال السيطرة الأجنبية والاحتلال الأجنبي[9]. وهو موقف يتوافق مع قرار الجمعية العامة من أجل مكافحة الإرهاب الصادر في العام 1991 الذي أعاد في مقدّمته التأكيد على حقّ تقرير المصير ومقاومة الاحتلال[10]. ففي حال الاحتلال، غالبًا ما يكون التهديد الأكبر للأمن والسلم العالمي هو الاحتلال الذي تعمل القوى المتّهمة بالإرهاب على مقاومته وليس حركات المقاومة التي غالبًا ما تتّهمها دول الاحتلال بالإرهاب تمهيدًا لتدميرها بهدف تأبيد الاحتلال.
وما سهّل على الدول الداعمة لإسرائيل الذهاب في هذا المنحى، تراكماتُ الخطاب المتّصل بالحرب ضدّ الإرهاب وما رافقه من إسلاموفوبيا، بدءًا من بداية التسعينيات، وبخاصّة بعد أحداث 11 أيلول 2001، بالإضافة إلى البروباغندا الإعلامية التي ذهبت إلى تضخيم ما فعلته حماس في 7 أكتوبر بهدف شيطنتها، في موازاة تصوير هجومها على أنّه حصل في فراغ، بمعزل عن عقود من الاحتلال والاستعمار والفصل العنصري والتطهير العرقي وحصار غزّة.
وبالطبع، إنّ ما نجادل به هنا ليس تنزيه حركات المقاومة عن ارتكاب جرائم حرب ولا اعتبارها غير معنية بتطبيق القانون الدولي، إنّما استخدام اتّهام هذه الحركات (حماس في هذه القضيّة) بالإرهاب أو بارتكاب جرائم حرب من أجل نكران حقّها في المقاومة، لعدم جواز الخلط بين شرعية المقاومة التي تبقى قائمة ومدى قانونية أيّ من الأفعال التي تقوم بها والتي تقبل طبعًا المحاسبة. وبذلك تتميّز حماس بشكل كبير عن (إسرائيل) التي ترتكب (أشنع) جرائم الحرب من دون وجود أيّ سند قانوني يجيز لها أصلًا اللجوء إلى العنف.
أمّا أن يتمّ التسليم بما تدلي به هذه الدول الكبرى الداعمة لإسرائيل، فإنّ من شأن ذلك أن يؤدّي إلى اختلال جسيم في توازن القوى بين دولة الاحتلال والشعوب المحتلّة، وأن يجعل عملية التحرُّر وتحقيق السلام الدولي أكثر صعوبة وتعقيدًا. فكيف نصِفُ اليوم أعمال المقاومة التي يقوم بها عناصر حماس ضدّ عناصر الجيش الإسرائيلي الذي انخرط منذ قرابة 3 أشهر في حرب إبادة وجرائم ضدّ الإنسانية؟ هل هي أعمال مقاومة مشروعة دوليًّا أو أعمال تقوم بها منظّمة إرهابية لا يجوز الاعتراف بها أو التفاوض معها كما توحي به الدول الداعمة لإسرائيل؟ ثمّ ماذا بشأن مسؤولية المجتمع الدولي في هذا النزاع؟ هل يكمُن واجبه الأساسي في إنهاء الاحتلال وكلّ المخالفات الكبرى التي تُمعن إسرائيل في ارتكابها منذ عقود أو يكمُن في مكافحة الإرهاب (حماس) على غرار ما اقترحه الرئيس الفرنسي في زيارته إلى إسرائيل بعد تشبيه حماس بداعش؟ هذا من دون الحديث عن الحجج التي ساقتها إسرائيل للمطالبة بتقييم أفعالها وفق معايير مكافحة الإرهاب وليس معايير الحروب العادية، وذلك كمدخل للتنصُّل من قواعد الحرب كافّة وصولًا إلى ارتكاب الإبادة. وهذا ما سنعود إليه في الجزء الثاني من المقال.
الانقلاب على قواعد الحرب jus in bello
منذ أيّام الحرب الأولى، صرّحت إسرائيل على لسان رئيسها إسحق هيرتزوغ أنّها لن تفرّق في حربها بين حماس والمدنيين المُقيمين في غزّة، طالما أنّ مقبوليّة حماس من قبل هؤلاء تجعلها في حرب ضدّ الأمّة (الفلسطينية) بأكملها وليس ضدّ مقاتِلين وحسب. وما فاقم من خطورة هذا الخلط تصريح وزير الدفاع يوآف غالانت الذي عمّم شيطنة حماس على المدنيين في اتّجاه يُنكر إنسانية كلّ هؤلاء، مساويًا إيّاهم بالحيوانات البشرية، قبل أن يعلن فرض حصار شامل على غزّة. وفي الاتّجاه نفسه، جاءت تصريحات رئيس الوزراء أنّ إسرائيل في معرض تطبيق نبوءة أشعيا، مشبّهًا أهل غزّة بالعماليق الذين دعت التوراة إلى إبادتهم بصورة كاملة. وقد لقِيَ تصريح رئيس الوزراء صدًى لدى عدد من الحاخامات الذين خرجوا ليعلنوا أنّ مرجعية إسرائيل هي التوراة وليس القانون الدولي. وقد صدرت كلّ هذه التصريحات في موازاة تصريحات من أوساط حكومية بوجوب تحويل غزّة إلى ركام، وتهجير جميع سكّانها إلى صحراء سيناء.
وبالرغم من وضوح هذه التصريحات الإسرائيلية الصادرة عن أعلى المسؤولين الإسرائيليين والتي لم يتأخّر تجسيدها في استعراض الموت الإبادي وفي تصريحات فئات مختلفة من الإسرائيليين (أخطرها بيان الـ400 طبيب إسرائيلي بوجوب قصف مستشفيات غزّة)، برز نوع مختلف من التصريحات الرسمية مفادها أنّ عمليات الجيش الإسرائيلي ليست عشوائية إنّما هي مُبرَّرة كلّها بأهداف عسكرية محدّدة، وأنّ سقوط آلاف المدنيين ليس تاليًا عملًا مقصودًا إنّما هي خسائر عارضة collateral damage تحصل في الحروب، وبلغت ما بلغته بفعل اتّخاذ حماس المدنيين دروعًا بشرية، وأنّ استهداف المنشآت المدنية، ومنها المستشفيات والمدارس ودور العبادة، مبرَّر بفعل استخدامها من قبل حماس. وقد هدفتْ هذه التصريحات، على ما يبدو، إلى تخفيف الضغوط على الدول الداعمة لإسرائيل والتي تحتاج، بخلاف إسرائيل، إلى ادّعاء تمسّكها بالقانون الدولي الإنساني ولو ظاهريًّا. وهذا ما يفسّر تماهي هذه الدول وإعلامها مع هذا الخطاب وترداده على لسان مسؤوليها مقابل تجاهلها الخطاب الإبادي بالكامل وكأنّه غير موجود.
وفي الواقع، جاءتْ نتائج العدوان الإسرائيلي، وبخاصّة لجهة ارتفاع عدد الأطفال والنساء القتلى (أكثر من 70% من الضحايا) وتهجير أكثر من 90% من سكّان غزّة وفرض حصار تجويع شامل على غزّة وضرب كلّ مقوّمات الحياة وفي مقدّمتها المستشفيات والمدارس والمرافق الحيوية لتأمين المياه والطاقة، لتثبت ببلاغة كلّية صدقية الخطاب الأوّل ذي الطابع الإبادي وعبثية الخطاب الثاني وسوء نيّته. أفليس عبثيًّا تمامًا أن يدّعي أيّ كان بأنّه ملتزم بمبادئ القانون الدولي لجهة التفريق بين الأهداف العسكرية والمدنيين، في حين أنّه يتسبّب في تدمير مدينة بأكملها مع تجريدها من مقوّمات الحياة بما يتناقض تمامًا مع الغاية الأساسية من القانون الدولي والتي هي في الأساس أنسنة قواعد الحروب؟ أَوَلا تكون هنا حججه المُدلى بها إثباتًا لشرعية عملياته، والتي تردّدها الدول الداعمة له، مجرّد تعبيرات خطابية ملتوية للتحايل على حظر الحرب الشاملة والإبادة الجماعية، وصولًا إلى ارتكاب أشنع الجرائم؟
ويتأكّد الطابع العبثي للادّعاء في أنّ حرب إسرائيل تتمّ وفق القانون الدولي عند التدقيق في تفاصيل الحجج المستخدمة لهذه الغاية، علمًا أنّ الولايات المتّحدة كانت قد استخدمت بعض هذه الحجج سابقًا في حروبها لمكافحة الإرهاب، ممّا يؤكّد خطورتها وضرورة دحضها ومواجهتها منعًا للتطبيع معها. وهذا ما سنحاول فعله هنا من خلال التركيز على اثنتَين منها:
الحجّة الأولي وقوامها إسقاط عبء الإثبات الذي يتوجّب على الجهة المهاجمة توفيره على أنّ الأماكن المدنية إنّما تستخدم لغايات عسكرية. تمّ ذلك من خلال ادّعاء إسرائيل وجود أهداف عسكرية تحتّم عليها شنّ عملياتها التي أدّت إلى قتل عدد هائل من المدنيين وتدمير القسم الأكبر من الوحدات السكنية، كلّ ذلك من دون تقديم أيّ إثبات على وجود هدف عسكري، سوى افتراض أنّ حماس تختبئ بين المساكن وتتّخذ المدنيين دروعًا بشرية (وهو إدلاء كانت تثبّتت لجنةتقصّيالحقائق في حرب إسرائيل ضدّ غزة في العام 2009 من عدم صحّته). وتكون بذلك قد دمّرت إحدى أهمّ ضمانات القانون الدولي لحماية المدنيين والتفريق بينهم وبين المقاتلين، وهي أن يكون على الجهة المهاجمة أن تقدّم الأدلّة على استخدام الأماكن المخصّصة لغايات مدنية لغايات عسكرية، وأنّه في حال الشكّ في هذا الشأن، فإنّ هذه الأماكن تُعدّ مدنية. ومن المهمّ بمكانٍ أن نذكر هنا أنّ إسرائيل حذتْ بذلك حذو الولايات المتّحدة الأميركية في حربها الأولى ضدّ العراق، حين أصدرت وزارة الدفاع الأميركية تقريرًا أشارت فيه إلى استحالة تقديم إثباتات على استخدام المنشآت المدنية لغايات عسكرية. وهذا ما علّق عليه روبرت كولب (وهو أحد أهمّ المراجع الفقهية في مجال القانون الدولي الإنساني) معتبرًا أنّه ينمّ عن سخرية cynism وازدراء للقانون الدولي مؤدّاهما تخويل الجهة المهاجمة قصف أيّ شيء، على أن يكون للجهة المعتدى عليها أن تثبت أنّ الهدف كان حقيقة مدنيًّا وهو أمر مستحيل وبخاصّة بعد تدميره”[11].
وقد بلغ هذا التوجّه أقصاه مع توجيه إسرائيل إنذارًا لجميع قاطني شمال غزّة (وعددهم يتجاوز مليونًا ومئتَي ألف نسمة) بوجوب التوجُّه جنوبًا، معلنةً بذلك أنّ كلّ شمال غزّة (عمليًّا مدينة غزّة بأكملها) هو هدف عسكري. وهذا ما سارعت مرجعياتحقوقية عدّة إلى التنديد بعدم قانونيته، طالبةً التراجع عنه لعدم جواز إعلان مدن بأكملها أهدافًا عسكرية. وقد أدّى عمليًّا توسيع هامش استهداف المدنيين على هذا النحو إلى تمكين إسرائيل من استهداف أشخاص بعينهم (كتّاب وصحافيين وعائلاتهم) انتقامًا منهم أو بهدف حرمان غزّة ممّا يمثّلونه من اختصاص أو دور مميّز (أطبّاء مختصّين)، مع ما يعكسه ذلك من جرائم حرب ونوايا إبادية، وذلك ضمن حملاتها التدميرية.
وقد أُعطيت الحجّة نفسها لتجاوز الحصانات الخاصة المكرّسة دوليًّا بموجب اتّفاقيات جنيف، وبخاصّة عن الأماكنالصحِّية والأماكنالأثرية والصحافة ومراكزالإيواء والمراكزالدينية، بحجّة أنّها تُستخدم من قبل حماس أو أنّ لهذه الأخيرة أنفاق وخنادق داخلها، من دون أيّ دليل سوى فيديوهات ثَبُت مرارًا أنّها مفبركة. واللافت أنّ إسرائيل عمدت هنا، مرّات عدّة، إلى توريط الدول الداعمة لها في اعتماد سرديتها وتفسيرها الملتوي للقانون الدولي. ونتيجة ذلك، شهد العالم تدميرًا ممنهجًا للمؤسّسات الاستشفائية كافّة المتواجدة في شمالي غزّة، من دون ضمان سلامة المرضى (ومنهم أطفال خدائج تحلّلت أجسادهم على أسرّة المستشفيات المتروكة) ولا حتّى حقّهم في العلاج. كذلك شهد العالم مقتل أكثر من 100 صحفي، وهو رقم قياسي تجاوز مجموع قتلى الصحافة خلال الحرب العالمية الثانية. كما شهد تدمير دور العبادة (وبعضها من الأقدم عالميًّا وذات قيمة إنسانية كبيرة) والمدارس والمؤسّسات الصحافية ومؤسّسات الأمم المتّحدة، وأيّ مؤسّسة تُعدّ محمية في القانون.
أمّا الحجّة الملتوية الثانية لإسرائيل وداعميها والتي مهّدت للإبادة فقد تمثّلت في إفراغ مبدأيْ التناسب والوقاية من أيّ معنى. وليس أدلّ على ذلك من تبرير إسرائيل قيامها بتدمير مجمع سكّاني على رؤوس قاطنيه (وقتل نحو 400 مدني) بأنّها إنّما أرادت من ذلك قتل مسؤول مهمّ في حماس كان متواجدًا في المجمع. وهذا التبرير يشي بخروجها كلّيًّا عن مبدأالتناسب المعمول به والذي يفرض الامتناع عن القيام بعمل عسكري إذا كان من شأنه أن يؤدّي إلى خسائر مضخّمة وغير متناسبة في صفوف المدنيين[12]. الأمر نفسه ينطبق على فرض إخلاء المستشفيات في شمال غزة وفرض حصار شامل عليها خشية استحصال حماس على ما تحتاج إليه لمواصلة القتال، ممّا أدّى عمليًّا إلى انتهاك محظورات صريحة قوامها عدم جواز إنزال عقوبة جماعية أو عدم جواز استخدام سلاح تجويع السكّان.
بنتيجة هذه التفسيرات الملتوية للقانون الدولي، شهدنا عمليًّا، بالصوت والصورة، حصول حرب إبادة شاملة ومعها انهيار كلّ ضوابط القانون الدولي وضماناته. وإذ كشفت مفاعيل هذه التفسيرات عبثيّتها وسوء نيّتها كما سبق بيانه، يبقى أنّ ثمّة حاجة هنا أيضًا إلى التصدّي لها منعًا لتكرارها أو تحوُّلها إلى تفسيرات معقولة. ومن المهمّ بمكانٍ التنبيه إلى أنّ عبثية هذه التفسيرات وسوء نيّتها لا تتأتّيان فقط عن تسبّبهما في أشنع الجرائم الدولية كما أوضحنا أعلاه، ولكن في نقض الغاية الأسمى للأمم المتّحدة والقانون الدولي التي هي تحقيق السلام العالمي. فكما أنّ دعم حقّ الاحتلال في قمع المقاومة يؤدّي إلى تأبيد الاحتلال، كذلك فإنّ من شأن ذلك تأبيد الحرب، وهذا ما تفعله إسرائيل بالضبط.
نشر هذا المقال ضمن الملف الخاص بالعدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
[1]A l’exception des règles de jus cogens. A/CN.4/659,Commission du droit international, “Formation et identification du droit international coutumier”, 2013. Observation 27: “Selon la Commission, l’apparition d’une nouvelle règle de droit international coutumier peut venir modifier un traité, dans certaines circonstances et si telle est l’intention des parties”.
[2] قرار الجمعية العامة في الأمم المتّحدة رقم 2625 عام 1970.
[3] أتى الاعتراف بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها من ضمن أهداف الأمم المتّحدة كما ورد في المادّتَين الأولى والخامسة والخمسين من ميثاقها. تتالت بعدها قرارات الهيئة العامة للأمم المتّحدة لتوضّح هذا الحقّ (القرار رقم 1514 عام 1960، القرار رقم 2625 عام 1970 الذي اعترف صراحةً بالحقّ في “المقاومة” ، والقرار رقم 3246 عام 1974 الذي أكّد “من جديد” في مادّته الثالثة “شرعية كفاح الشعوب في سبيل التحرّر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية والاستعباد الأجنبي بكافّة الوسائل المُتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلّح”.
“A separate and major legal problem for the draft resolution is its reference to Israel’s right to self-defense, which, as confirmed by the International Court of Justice’s 2004 advisory opinion on the Legal consequences of the construction of a wall in the occupied Palestinian territory (see A/ES-10/273), is inapplicable in the case of an occupying Power, which is what Israel is with regard to the Palestinian territory.” S/PV.9453 p.3
[5] في تاريخ 16 تشرين الأوّل S/PV.9439، حسب ما جاء على لسان ممثّلة الولايات المتّحدة الأميركية :
“The Council and the entire international community have a responsibility to (…) reaffirm Israel’s inherent right to self-defense under the Charter of the United Nations. Unfortunately, Russia’s draft resolution (S/2023/772) submitted today does not meet all those responsibilities”. S/PV.9439
في 25 تشرين الأوّل، عادت روسيا وقدّمت اقتراحًا مشتركًا مع الصين تشدّدان فيه اللهجة تجاه حماس، وتدينان الحركة بشكل مباشر، من دون ذكر حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؛ لكنّ القرار لم يلقَ الأصوات الكافية. فجاء الردّ البريطاني على الشكل الآتي:
“The United Kingdom could not support draft resolution S/2023/795, proposed by Russia, which once again failed to recognize Israel’s right to self-defence” – S/PV.9453″
[6]”The Council must support Israel’s right to defend itself. But supporting that right does not mean echoing empty words. It means standing in solidarity with Israel in our rescue mission to obliterate the terror capabilities of Hamas. If Hamas is not obliterated, such atrocities will be repeated — and not only in Israel. Supporting Israel’s right to defend itself means supporting Israel’s goal of eradicating those cancerous jihadists”. S/PV.9439
ص. 3، 11.
[7] الموقف الروسي S/PV.9453 ص. 3؛ S/PV.9451 الباكستاني ص. 25، الإيراني ص. 32؛ S/PV.9443 الليبي ص. 25، الجزائري ص. 26، التونسي ص. 26، العراقي ص .29.
[8] R. Kolb, « Jus contra bellum ». Bruylant, 2003. p.256.
[9] Iran A/C.6/72/SR.1; (Gambia) A/C.6/73/SR.1, speaking on behalf of the African Group; Arabie Saoudite parlant au nom de l’OIC, (A/C.6/73/SR.1); Qatar (A/C.6/73/SR.1); Pakistan (A/C.6/73/SR.1); Lebanon (A/C.6/73/SR.2), South Africa (A/C.6/73/SR.2); Namibia (A/C.6/73/SR.4); Malaysia A/C.6/73/SR.4).
[11] R. Kolb, « Jus in bello ». Bruylant, 2003. P 125.
[12] البروتوكول الإضافي الأوّل (1977)، المادّة 51 الفقرة الثانية، والمادّة 52 الفقرة الأولى. انظرْ أيضًا تقرير النتائج المفصّلة للجنة التحقيق المستقلّة المنشأة وفقًا لقرار مجلس حقوق الإنسان رقم S-21/1، الفقرة 37.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.