كتاب تحدّي الرأسمالية الخضراء الصّادر مؤخرًا عن دار صفصافة للنشر والمعهد العابر للقوميّات، في 378 صفحة، هو مؤلف جماعي قامَ بتحريره الباحثان حمزة حموشان وكايتي ساندويل، ويتضمّن ثلاثة أقسام متكونة من ثلاثة عشر فصلا. نسعَى في هذه المراجعة للوقوف على جملة المفاهيم والمقاربات النظرية التي تُمثل مدخلا لفهم التحولات الرأسمالية والمناخية وآثارها على الطبقات والفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة في المنطقة العربية.كما توفّر جملة من الأدوات العملية لتجذير النضالات الاجتماعية في المنطقة العربية المرتبطة بالتغيرات المناخية، ومواجهة الحلول السّلطوية التي تقدّمها الحكومات بدعم من مؤسسات التمويل الدولي الغربي والدول الخليجية.
مفهوم “الاستشراق البيئي” والاستعمار الأخضر
يُحاول الكتاب أن يقدم مدخلاً نظريا مهمًّا لفهم تحولات النظام الرأسمالي في ظل التغير المناخي الذي يشهده العالم عموما، علما أن المنطقة العربية تعتبر إحدى أكثر المناطق تأثرا به. فحسب تقرير لهيئة المناخ الدولية لعام 2022، فإن اقتراب العالم في العقدين المقبلين من بلوغ درجة الاحترار 1.5 بالمائة يشير إلى أن عدم تخفيض الانبعاثات الكربونية سيؤدي إلى كارثة بيئيّة ومناخية، وهو التحذير الأخير من هيئة المناخ قبل وصول العالم إلى نقطة اللاعودة في الانهيار المناخي[1]. ويُمثّل صغار المزارعين والرعاة والعمال الزراعيين والصيّادين الفئات الأكثر تضررا من التغيرات المناخية. وفي المنطقة العربية، بدأت آثار هذه التحوّلات واضحة أكثر فأكثر، من خلال مغادرة الفلاحين للقطاع الفلاحي أو تحولهم إلى عمال زراعيين بعد أن فقدوا مواردهم، سواء الأرض أو الماء، تحت وطأة موجات الجفاف أو العواصف الشتوية وتصحّر الأراضي وارتفاع مستوى سطح البحر. إضافة إلى الوقوع تحت تهديد حقوق النفاذ للغذاء، وتفشي الاستغلال بحق العمال المهاجرين الذين يعيشون في ظروف عمل تَحرمهم من الرعاية الصحية وتجعَلهم ضحايا لسوء التغذية.
في المقابل، ركّزت تدخّلات المؤسّسات الدولية والدعم المشروط عبر القروض، التي بدأت منذ الثمانينات مع سياسات الإصلاح، على دعم الخوصصة ورفع الدعم، وذلك رغم النتائج السلبية لهذه السياسات التي أدّت إلى تهديد مصالح الفئات الهشة وإمكانيات نفاذهم للموارد. كما أنها تهدّد حياتهم، خصوصا مع التغيّرات المناخية الحالية التي تمسّ أكثر بإمكانات نفاذ سكان الأرياف للأرض والماء والحقوق الأساسية.
ومن أجل استعادة المشروع الاستعماري الغربي في المنطقة -بيئيًّا- يتمّ توظيف إنتاج المعارف عن الشعوب العربية وتمثّلاتها وبيئاتها، وتَستخدم القوى الاستعمارية المعرفة لتبرير مشروعها القديم المتجدد وتكريس أهدافها الإمبريالية نفسها. يعُود الكتاب على هذه الفكرة التي قدّمَتها الجغرافية الأمريكية “ديانا كيه ديفيز”، إذ أن “التخيّلات البيئيّة الأنجلو-أوروبية” خلال القرن التاسع عشر قدّمت البيئة في العالم العربي بصفتها “غريبة ومختلفة وفانتازية وغير طبيعية، ومتدهورة”. واعتمدت ديفيز مفهوم “الاستشراق” الذي سبقَ أن اعتمده إدوارد سعيد كإطار نظري لتفسير التمثلات الغربية المبكرة للبيئة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باعتبارها من أشكال “الاستشراق البيئي”. تُقَدّمَ البيئة من طرف السلطة الاستعمارية تاريخيا (أساسا بريطانيا وفرنسا) بوصفها “غريبة وناقصة”، عبر مقارنتها بالبيئة الأوروبية “الطبيعية والمثمرة”، وذلك حتى يفرض الاستعمار تدخلاته التي تهدف إلى تحسين وإصلاح هذه البيئة[2].
ما يتمّ استعادته اليوم يَرتبط بالتّقليد الاستعماري الغربي وليس وليد اللحظة الحالية، حيث يدور الخطاب الاستعماري -الذي يأخذ طابعًا أخضر- حول وجود أراضٍ واسعة من دون سكان، وبالتالي يُنظر إليها كمجال مثالي لحصول أوروبا على الطاقة، وبخاصة الرخيصة منها كالطاقات البديلة التي يتمّ إنتاجها من المصادر الطبيعية كالشمس والرياح والمياه، وذلك للمحافظة على النمط الحياتي الاستهلاكي (الاستهلاك المرتفع للطاقة). هذه السردية الاستعمارية تلتفّ على مسألة الملكية والسيادة، وتُخفي وراء ذلك علاقات القوة والهيمنة التي تؤدّي للاستيلاء على الموارد وخوصصة الملك العام -أي المشاع- وتغتصب حقوق المجتمعات المحلية في الأرض والموارد بشكل عام.
الانتقال الطاقي العادل: روايتان وصراع نفوذ
إذا أردنا العودة إلى تشكل مفهوم “الانتقال العادل”، فإنه يعود إلى فترة السبعينات في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما أدّت الصراعات بين النقابات في البداية والشركات والصناعات الملوّثة إلى إقرار المنطق القائل بأن السياسات الهادفة لحماية البيئة تفترض التخلّي عن اليد العاملة. في مقابل ذلك، ظهَرت حينها تحالفات بين النقابات والحركات البيئية وحركات الشعوب الأصلية والسود والملوّنين لتجذير النضالات من أجل العدالة البيئية بشكل متقاطع، من خلال الربط بين آثار الصناعات الملوثة على العمال والمجتمعات الأكثر تضررا من السياسات الرأسمالية، باعتبار أن كل هذه الفئات ضحايا لتلك السياسات التي حرمتهم من الحق في البيئة والعمل الكريم والآمن والعمل بأجور عادلة. تتمثّل الفكرة الأساسية هنا في عدم تحميل تكلفة الانتقال الطاقي للفئات الأكثر تضررا من السياسات نفسها، والدفاع عن إنتقال أكثر عدالة.
توسّعَ النقاش حول مفهوم الانتقال العادل حول العالم، خاصة في أمريكا الجنوبية وجنوب أفريقيا. إذ بدأت الحركات العمالية وحركات العدالة البيئيّة وجماعات الشعوب الأصلية والحركات النسوية والشبابية والطلابية في العمل على توسيع تصورات مشتركة عن طبيعة الانتقال العادل، وذلك من أجل تبني بدائل تؤدّي لتحوّلات جذرية للأزمة المناخية، بما فيها الموارد الطاقية التي تُحاول الحكومات تقديمها باعتبارها الدليل العملي على انخراطها في مسار الانتقال العادل. فمنذ إدراج اتّفاق باريس لمفهوم الانتقال العادل في ديباجته، وهو ما اعتُبِر انتصارا للحركات العمالية وحركات العدالة المناخية العالمية، فإن البرامج الحكومية والدولية تسعى لاحتواء هذا المفهوم والتخفيف من الدسم السياسي لهذا المفهوم لصالح رؤيتها. بما يجعل المفهوم محلّ نزاعٍ وخلاف، ويجعل النضال من أجل الانتقال العادل عادلاً بالفعل وليس مجرّد تبييض للرأسمالية مثلما تعمل على ذلك البرامج التمويلية التي تتبناها المؤسسات المالية الدولية. لذلك، تمّ التركيز على مقاومة الأسباب الجذريّة لهذه الأزمة بالتركيز على حقوق الإنسان من جهة قدرتها على الوقوف أمام التدمير الإيكولوجي، والتأكيد على سيادة الشعوب على مواردها.
أما في سياق المنطقة العربية، فإن الحاجة لفهم التحولات الحالية من منظور الانتقال العادل مهمّة. لأنها تُقدم مدخلاً نظريًّا وأداة عملية للنضالات الاجتماعية للمتضرّرين من الغسيل الأخضر للسياسات الرأسمالية. إذ يتمّ تحميل صغار المزارعين والسّكان المحليين بشكل عامّ كلفة الانتقال الطاقي التي تروّج لها الروايات الرسمية في الحكومات ومؤسسات التمويل والقطاع الخاص المحلي والأجنبي. فالانتقال الطاقي لا يعني بالضرورة أن يكون لصالح الفئات المتضررة، إذ أن مشاريع الطاقات المتجددة تحذو حذو المشاريع الاستخراجية، من حيث الاستيلاء على الأراضي باسم المصلحة العامة ليتمّ منحها للمستثمرين وخاصّة الأجانب منهم. ولذلك، يأتي مفهوم الانتقال العادل ليطرح رؤية بديلة للانتقال الطاقي، حتى تُحقق مصالح الفئات المتضررة و تكشف عن خدعة الانتقال الطاقي الرأسمالي الذي تدعمه المؤسسات النيوليبرالية، التي تسعى من خلاله للمحافظة على مصالحها، بل ومراكمة مزيد من الأرباح عبر الطاقات المتجددة.
من التبادل البيئي غير المتكافئ إلى الدَّين المناخي
يقوم التبادل البيئي غير المتكافئ بين دول جنوب العالم ودول المركز الغربي والأوروبي على استغلال الموارد المائية والأرضية واليد العاملة الزهيدة والموارد الطبيعية الأخرى كالشمس، لإنتاج الطاقات المتجدّدة وإنتاج الغذاء الذي يُصدَّر إلى أوروبا والغرب. وتتحمّل دول الجنوب، ومن بينها دول شمال أفريقيا، التكلفة البيئيّة التي تشمل تدمير البيئة واستنزاف الموارد الطبيعية، بما يؤدّي لتحقيق فائض في التجارة الدولية لصالح الشركات الأوروبية وبعض النخب الاقتصادية ورؤوس الأموال المحلّية. وهو ما يؤدي لتهديد استدامة الموارد الطبيعية، سواء تعلّق بالأرض أو الماء أو الطاقة بدول شمال أفريقيا. كما أنه ينسف أيّ قدرة لبناء سياسات تحمي السيادة الغذائية وتحقيق الانتقال العادل لهذه المجتمعات. هذا النمط من التبادل البيئي غير المتكافئ يحافظ على نمط عيش إمبريالي في المراكز الرأسمالية، ويقف حاجزًا أمام إمكانية تحقيق انتقال عادل في دول الجنوب[3].
ظهر مفهوم الدّين المناخي لأول مرة سنة 1999 من خلال حركة إلغاء ديون العالم الثالث. وفي سنة 2010، تبنّى مؤتمر”الشّعوب حول تغير المناخ وحقوق أمّنا الأرض” في كوتشابامبا في بوليفيا مفهوم الدين المناخي. وقد تمّ تعريفه بكونه مجموع “ديون الانبعاثات” و”ديون التكيّف”. تُمثل ديون الانبعاثات تكلفة الانبعاثات الزائدة التاريخية والحالية المفرطة لكلّ شخص بالدول المتقدمة، والتي تَحرم بلدان الجنوب من نصيبها العادل في الفضاء الجوي. أما ديون التكيّف فهي تلك التكاليف التي تتحمّلها بلدان الجنوب في التكيّف مع ارتفاع أضرار ومخاطر الانبعاثات لغازات الاحتباس الحراري وتغير المناخ، رغم محدودية مساهمتها في إحداث تلك الآثار.
الدّين المناخي يرتبط بدين أوسع لأمّنا الأرض حسب مؤتمر الشعوب. كما يَعني أن الدول المتقدمة مطالبة بإنهاء استعمار الغلاف الجوي عبر خفض انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وتعويض دول الجنوب عن حرمانها من إمكانات التنمية جراء العيش في فضاء مُستعمَر من قبل الدول المتقدمة، وما ترتب عنه من هجرات ناتجة عن التغيرات المناخية. وأن تتحمل تكلفة تلك التغيرات كديون مترتبة عن ذلك لدول الجنوب، وذلك لمعالجة الأضرار التي تسبب بها التغير المناخي والانبعاثات الملوثة والمفرطة.
في مؤتمر الأطراف الـ 27 المنعقد في شرم الشيخ في مصر سنة 2022، تمّ التنصيص على آلية دفع التعويضات عن الأضرار التي تسبّبت بها الدول المتقدمة. اعتُبرَ هذا الاعتراف والاتفاق إنجازًا يُجبِر الدول الغنية على تحمّل تكلفة الأضرار التي تسبّبت بها وعن التغير المناخي في جنوب العالم الذي نتجَ عن ذلك. لكن هذا الإنجاز الذي يُشار إليه يُخفي خداعًا، إذ أن الاتفاق لا يتضمن أيّ تنصيص على كيفية التمويل أو كيف سيتمّ تطبيقه، وهو ليس الوعد الأول الذي قُدّمَ في هذا الشأن. فمنذ مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي لعام 2009 المنعقد بكوبنهاجن، تمّ التعهد بتقديم 100 مليار دولار كتمويل مناخي بحلول 2020، وهو ما لم يتحقق أبدا. إضافة إلى الخداع الثاني المُتمثل في التنصيص على أن هذا التمويل هو قروض عالية الفوائد بدلا من المنح[4].
بعد ثلاثين عامًا من مؤتمرات الأطراف والمحادثات المناخية، أصبحت هذه القِمَم المناخية بلا جدوى من ناحية تحقيقها لأيّة مكتسبات لصالح ضحايا التغيرات المناخية من الطبقات الاجتماعية المتضررة والمجتمعات المحلية المهمشة. إذ هيمنت مصالح الشركات الخاصة التي تُحاول تبييض ممارستها التي استنزفت الموارد الطبيعية عبر الترويج للحلول النابعة من الطبيعة، وغايتها مراكمة أرباحها عبر الطاقات المتجددة عوض أن تتحمّل الدول المصنعة في الشمال والشركات المتعددة الجنسيات مسؤوليتها عن الكوارث البيئية التي تتسبب بها، وأن تتمّ محاسبتها عن ذلك سواء بالتعويض للدول والشعوب المتضررة أو أن تلتزم بالتخفيض من الانبعاثات الكربونية والتخلي عن النمط الاقتصادي الاستخراجي. وبَدَا ذلك جليًّا في كيفية تبييض هذه القمم للشركات النفطية، خاصّة عبر تعيين الإمارات لـ”سلطان الجابر” المدير التنفيذي لشركة أبو ظبي الوطنية للنفط لترؤس المحادثات في الدورة 28 لقمة المناخ التي انعقدت في أبو ظبي في الإمارات في الفترة الأخيرة. وهو ما يدلّ على مواصلة السياسات الاستخراجية النفطية. إضافة إلى حضور الكيان الصهيوني في قمم المناخ المتعددة، وآخرها المنعقدة في الإمارات التي تلعب دورًا رئيسيا في التطبيع في السنوات الأخيرة. وهو ما يطرح السؤال عن دور هذه المشاركة لجزء من منظمات المجتمع المدني في المنطقة العربية في هذه القمم، إضافة إلى دور الحكومات العربية في تكريس سياسات التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني.
الطاقات المتجددة والتطبيع البيئي مع الكيان الصهيوني في المنطقة العربية
لقراءة التداخل بين سياسات التطبيع ومصالح الأنظمة العربية، يشير الفصل الثاني من الكتاب إلى أن النظام المغربي يستغلّ مسألة الطاقة المتجدّدة في ارتباط بقضية الصحراء الغربية، على مستويين: المستوى الأول يأتي في إطار “الغسيل الأخضر” لنفسه كرائد في مشاريع تنمية الطاقة النظيفة بالصحراء الغربية المحتلة، أي بالترويج لسياسته الصديقة للبيئة. كما يروّج المغرب أنّه الدولة الأفريقية الرائدة في مجال تنمية الطاقة المتجددة[5] وذلك لطمس الآثار البيئية للانتشار العسكري الموسع، والجدار الذي يَقسم الصحراء الغربية بين المنطقة التي يحتلّها والمنطقة الواقعة تحت نفوذ البوليساريو. إضافة لاستغلال الفوسفات واستنزاف الآبار الجوفية لريّ الزراعات المكثفة. أما المستوى الثاني، فمنذ تطبيع العلاقات بين المغرب والكيان الصهيوني، يستغلّ النظام المغربي هذا التطبيع لاستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في الطاقات المتجددة لتأكيد سيطرته على الصحراء الغربية منذ اعتراف الولايات المتحدة بسيادته على الصحراء والإقرار بمغربيّتها مقابل التطبيع والاحتلال.[6]
لعبَت الإمارات دورًا رائدًا في ترسيخ التطبيع البيئي مع الكيان الصّهيوني. ففي الدورة 27 لمؤتمر الأطراف سنة 2022 التي انعقدتْ في شرم الشّيخ في مصر، وقَّعَت الأردن وإسرائيل بوساطة إماراتية مُذكّرة تفاهم تتعلق بمشروعيْن، الأول “الازدهار الأزرق”، والثاني “الازدهار الأخضر”. وتنصّ الاتفاقية على أن يشتري الأردن المياه من محطّة تحلية مياه إسرائيليّة تقع على ساحل المتوسط (الازدهار الأزرق) وتَستخدم الطاقة التي تُنتجها محطة الطاقة الشمسية التي تقع في الأردن (الازدهار الأخضر) من قبل شركة “مَصدر” للطاقة المتجددة الإماراتية[7].
قبل أشهر من الدورة 27 لمؤتمر الأطراف سنة 2022، وقّعت كلّ من الأردن والمغرب والإمارات والسعودية ومصر والبحرين مذكّرة تفاهم مع شركتيْن اسرائيليتيْن للطاقة، وذلك لتنفيذ مشاريع للطاقة المتجددة في الدول المذكورة. تَشمل هذه المذكرة مشاريع “الطاقة الخضراء” لإنتاج الطاقة من الرياح والطاقة الشمسية. وتلعب هاتان الشركتان الإسرائيليتان؛ شركة (Enlight Green Energy ENLT) المتخصصة في الطاقات المتجددة وشركة (New Med Energy) المتخصصة في النفط والغاز دورًا متعاظمًا في التطبيع البيئي مع الدول العربية من خلال صفقات الوقود الأحفوري والطاقة الخضراء.[8] تسعى إسرائيل إلى تقديم نفسها بأنها دولة ذات مناخ جاف، واستطاعت خلافًا لمحيطها العربي في أن تكون دولة رائدة تكنولوجيا في التحكم في مواردها المائية بكفاءة للحدّ من تبعات الأزمة المناخية. أبرز ما تفتخر به دولة الكيان الصهيوني في هذا المجال هو تقدّمها في تقنيات تحلية المياه. ولذلك تقدمّ خدماتها لجيرانها العرب ومن بينهم الأردن. كل ذلك يأتي كغسيل أخضر للحقيقة الفعلية لدورها كدولة محتلة تُمارس الاستعمار الاستيطاني والقتل والحصار والتدمير والاعتقال والتطهير العرقي منذ تأسيسها، إضافة إلى احتلالها أراضي عربية في فلسطين وسوريا ولبنان[9].
يُُنكر الكيان الصهيوني حقّ لبنان في حقل “ليفياثان” للغاز، وهو أكبر خزان للغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط الذي يقع ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية. إلى جانب رفض الكيان حق لبنان في حقل “كاريش”، وهو حقل غاز اكتشفته شركة (New Med Energy) الصهيونية سنة 2013. ودفعت الولايات المتحدة الأمريكية لبنان ودولة الكيان للوصول لاتفاقية سنة 2022 لصالح إسرائيل. أعطت هذه الاتفاقية الحق الكامل للكيان الصهيوني، مقابل حق لبنان في استغلال حقل “قانا” مقابل دفع معاليم مالية لإسرائيل، وهو حقل غاز تُنازع إسرائيل بحقها في الوصول إليه. تَعكس هذه الاتفاقية غير العادلة والمنحازة للكيان الصهيوني دور الولايات المتحدة في الدّعم اللامشروط لإسرائيل سياسيا واقتصاديا. كما أن دولة الاحتلال وافقت على دور قطر في تطوير حقل “قانا”، وهو ما يُعتبر استمرارًا لنهج التطبيع مع الاحتلال اقتصاديا. إضافة إلى أن مصر تشتري الغاز من اسرائيل المُنتج من حقل غاز “ليفياثان” الذي يقع في المنطقة الاقتصادية الخالصة الفلسطينية، ويَستولي عليه الاحتلال الصهيوني كأحد أشكال النهب للموارد الفلسطينية. هذا من دون إغفال دور السياسات العسكرية الممنهجة الإسرائيلية التي تعتدي على الصيادين الفلسطينيين في بحر غزة. كما سبقَ لمصر أن انخرطت مع اسرائيل وقبرص واليونان في تزويد أوروبا بالغاز من البحر المتوسط لدعم الاتحاد الأوروبي للاعتماد على الغاز الروسي بعد الحرب الأوكرانية الروسية[10].
المواجهة مع دول وشركات الخليج في المنطقة العربية
مَثّلَ فائض رأس المال الخليجي الذي نتجَ عن المداخيل النفطية مصدرًا لتطوير استثمارات دول الخليج خارج حدودها وتدويل البترودولار. إضافة إلى خَلق فرص استثمار في الدول الغربية والصين وآسيا، خاصة في قطاع البتروكيماويات. على هذا الأساس، تَوفرت فرص استثمارية في الشرق الأوسط في العقارات والبناء والتشييد والبنوك والمالية والأعمال التجارية الزراعية وتجارة التجزئة والبنية التحتية، وتوسّعت الاستثمارات الخليجية لتَشمل دول شمال افريقيا. أحد المجالات التي طوّرَت الشركات الخليجية استثماراتها فيها هي الطاقات المتجددة والطاقات الأحفورية. ومع ارتفاع مستوى استهلاك الطاقة في الخليج، تهدف الخطط الخليجية لاستبدال الطاقة البديلة داخليا عوض النفط والغاز وتخصيصهما للتصدير. كما تَنشط هذه الشركات الخليجية في الطاقات المتجددة بقوة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي هذا السياق، يجري توظيف العلاقات المتميزة بين دول الخليج ودولٍ كالمغرب والأردن ومصر، خاصة مع انفتاح هذه الدول أمام الشركات الخليجية. وبذلك تتقدّم الدول الخليجية كطرف فاعل في مواجهة التحولات المناخية، وفي الوقت نفسه تحافظ على موقعها في النظام الرأسمالي كطرف مركزي منتج للنفط والغاز[11].
تَعتمد الدول الخليجية على استيراد الغذاء من دول متعددة عبر العالم، وتستثمر في الزراعة عبر شراء الأراضي في شمال أفريقيا ومنطقة البحر الأسود والولايات المتَّحدة وأميركا اللاتينية، بما يَجعلها توفّر مصادر متنوعة للسلع. كما أن ذلك يؤدي إلى تغيير العلاقات الاجتماعية البيئية للإنتاج والتحكّم فيها. وهو ما يجنبها الآثار المباشرة للتغيرات المناخية جراء عدم اعتمادها على الزراعة المحلية، لأنها تعتمد أساسا على الواردات. لكن هذا الاعتماد يعرّض الفئات والمجتمعات المحلية، في الدول التي تَستورد منها الغذاء وتمثل الزراعة نشاطًا رئيسا فيها كمصدر للدخل، إلى استنزاف الموارد و وتعميق التدهور المناخي خاصة في دول كالسودان ومصر وأثيوبيا التي تَستورد منها الدول الخليجية الغذاء. يؤدي اختلال التوازن بين الدول الخليجية كقوى نفطية وبقية الدول العربية والافريقية -وخاصة فيما يتعلق بالتصدي للتغيرات المناخية والإمكانات الاقتصادية والظروف السياسية والاقتصادية المتأزمة في الدول غير النفطية- إلى تعميق اللاتكافؤ في الاستجابة للتدهور المناخي. هذا الاستثمار الخليجي يأخذ شكل عمليات “استيلاء” على الأراضي بطرق رأسمالية، ويَحرِم المجتمعات المحلية وصغار المزارعين من النفاذ للموارد، ويُهدّد السيادة الغذائية للشعوب. وهو ما ينطبق على الحالة السودانية، حيث يستحوذ المستثمرون الخليجيون على 500 ألف هكتار من الأراضي[12].
إضافة إلى ذلك، يتكثّف نموذج السياسات الخليجية الخارجية تجاه الدول العربية في مصر، من خلال الدّعم الاقتصادي الذي قدّمته خاصة السعودية والإمارات والكويت للنظام المصري بعد 2013. كما يُشكّل التدخل العسكري في اليمن منذ سنوات عائقا أمام التحولات الديمقراطية وعنصرًا أدى إلى زحف الثورات المضادة وأعاقَ إمكانات التحوّلات الثورية التي شهدتها المنطقة العربية في العقد الأخير. لذلك، يبدو أن النضالات السياسية ستجد نفسها أمام تحدّيات تجاه سياسات هذه الدول الخليجية. وبالإضافة إلى التحديات الطبقية الداخلية، فإنّ المواجهة مع هذه السياسات ومع النفوذ الاقتصادي المتزايد لدول الخليج أمر لا مفرّ منه أمام الحركات الاجتماعية في المنطقة العربية[13]. فمن أجل تحقيق التحولات السياسية نحو الحرية والكرامة والوصول للعدالة الاجتماعية، الاقتصادية، والمناخية لصالح الجماهير الشعبية، ستجد النضالات والحركات الاجتماعية نفسها في تحدّ مع السياسات الخليجية، وليس فقط في مواجهة الدول الغربية وسياساتها.[14]
هذه تقريبا أهمّ المحاور والمفاهيم والمقاربات التي طرحَها كتاب تحدّي الرأسمالية الخضراء، وهو ما يجعله مرجعًا مهمًّا نظرا لما يُوفرّه من مداخل نظرية لا غني عنها لفهم تحولات النظام الرأسمالي على المستوى العالمي، وفي المنطقة العربية خاصة. إذ أنه يَصدر في سياق يتحوّل فيه النظام الرأسمالي نحو الاستفادة من التحول نحو الطاقات البديلة بشكل يُحافظ على مصالح رؤوس الأموال، دون أن يعني التحوّل مساءلة بُنَى النفوذ والسلطة. كما يُقدم الكتاب في فصوله الثلاثة عشر رؤى بديلة للإنتقال الطاقي العادل في مواجهة السردية الرأسمالية للانتقال الطاقيّ. ويُقدم أمثلة من مناطق مختلفة من المنطقة العربية على طبيعة هذه التحولات الحالية ويشرح بالتحليل تورّط الأنظمة العربية ورؤوس الأموال الغربية عبر مؤسسات التمويل في المحافظة على مراكمة الأرباح وحرمان الفئات والطبقات الأكثر هشاشة من انتقال عادل يخدم مصالحها. ويكشف عن مساعي التطبيع البيئي مع الكيان الصهيوني منذ إمضاء اتفاقات أبراهام التي سجَّلت هرولة من قبل أنظمة عربية نحو بناء علاقات سياسية واقتصادية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، مما مكنّها من استغلال ذلك للدخول في استثمارات مع الدول العربية. واليوم يبدو أن مسار التطبيع سيكون محلّ مساءلة أمام ما يشهده العالم منذ العدوان الحالي على غزة الذي انطلق إثر عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023. فضلا عن ذلك، يطرح الكتاب مسألة جدلية هامة -تحتاج لمزيد من التفكير- وهي دور الدول الخليجية في أزمة المناخ الحالية ومَسعاها للتحول نحو الطاقات البديلة للحفاظ على موقعها في إنتاج الطاقة مع محافظتها على إنتاج الوقود الأحفوري. وهذا ما يَطرح تحديات أمام الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في المنطقة العربية لمساءلة ومواجهة دور الدول والشركات الخليجية في النظام الرأسمالي، إضافة إلى مساءلة أنظمتها والدول الغربية في استغلال ثروات الشعوب وعَرقلة المساعي نحو انتقال عادل يَخدم مصالح ضحايا السياسات الرأسمالية المتجددة.
[1] مقدمة الكتاب، ص 22
[2] مقدمة الكتاب، ص 31-32
[3] الفصل الخامس من الكتاب، ص 164.
[4] مقدمة الكتاب، ص 24.
[5] الفصل الثاني من الكتاب، ص 83.
[6] الفصل الاول من الكتاب، ص 58.
[7] الفصل الثالث من الكتاب، ص 99.
[8] الفصل الثالث من الكتاب، ص 100.
[9] الفصل الثالث من الكتاب، ص 101.
[10] الفصل الثالث من الكتاب، ص 110-111.
[11] الفصل الحادي عشر من الكتاب، ص 319-321.
[12] الفصل الثالث عشر من الكتاب، ص 365-366.
[13] الفصل الثالث عشر من الكتاب، ص 369-370.
[14] الفصل الحادي عشر من الكتاب، ص 321.