كيف تعذّر على رئيس مكتب مخابرات الجيش في عكّار العميد ميلاد طعّوم ومن هم تحت إمرته من عناصر معرفة حقيقة ما حصل ليلة 14 آب 2021 المشؤوم حين انفجر خزّان وقود في بلدة التليل أدّى إلى سقوط 36 ضحية وجرح أكثر من مئة؟ وكيف لم يستطيعوا تجنّب وقوع الكارثة علمًا أنّهم تواجدوا في مكان التفجير بهدف توفير الأمن؟ هذه عيّنة من الأسئلة التي طُرحت على العميد طعّوم خلال الاستماع إليه بصفة شاهد في جلسة المحاكمة التي عقدها المجلس العدلي في 15 كانون الأول الجاري. لكنّ إجاباته لم تكن حاسمة بخصوص ما حصل في تلك الليلة حيث اقتصر بعضها على “لا أعلم” و “لم أرَ”.
هيئة المجلس العدلي المؤلفة من القاضي سهيل عبّود رئيسًا وعضوية القضاة مايا ماجد، وجمال الحجّار، وجان مارك عويس وعفيف الحكيم وبحضور ممثل النيابة العامّة التمييزية صبّوح سليمان، استمعت إلى العقيد طعّوم لأكثر من ساعتين. ثمّ امتدّت الجلسة لأكثر من ست ساعات تخلّلها الاستماع إلى ستّة شهود آخرين مع استراحة لمدّة عشرين دقيقة. والشهود الآخرون هم رئيس بلدية التليل جوزيف منصور، المعاون جورج نادر وهو أحد عناصر مخابرات الجيش الّذين تولّوا تنفيذ أوامر طعّوم، ثلاثة من أصدقاء المتهم ريتشارد إبراهيم وهم جوزيف درغام ورامي جلّول ورودي جلّول، بالإضافة إلى جاك إبراهيم نجل المتهم جرجي إبراهيم. وقد ناقضت شهادات معظم هؤلاء ما أدلى به العميد طعّوم، لا سيّما حول إصدار الجيش أوامر بتوزيع البنزين على الناس، وحول التواصل بينه وبين المتهم ريتشارد إبراهيم.
إلى جانب الشهود، حضر الجلسة المتهمون الأربعة الموقوفون علي الفرج ووكيلته جوسلين الراعي، جورج إبراهيم وريتشارد إبراهيم ووكيلهما المحامي صخر الهاشم، وجرجي إبراهيم ووكيله المحامي علي أشمر. كما مثل الأظنّاء الأربعة هويدي الأسعد وباسل الأسعد وبيار إبراهيم وكلود إبراهيم الّذين جلسوا على المقاعد الخلفية، فيما مثّل جهة الادعاء المحاميان نهاد سلمى وزينة المصري. وفي القاعة التي انتشر فيها عشرات العناصر التابعين لقوى الأمن الداخلي من القوى السيّارة، والدرك والفهود، حضر عدد من أهالي الضحايا وأهالي الموقوفين.
وأدّى مجسّمٌ لموقع التفجير وُضع أمام قوس المحكمة، نفّذه المهندس شارل جلّول بطلب من وكلاء الدفاع، دورًا لناحية تحديد مكان وقوف كلّ شاهد. وكان وكلاء جهة الادّعاء قد طلبوا من هيئة المجلس العدلي عدم قبول المجسّم بحجّة أنّ جهة الادعاء هي التي نفّذته فيما كان من المفترض تنفيذه من قبل خبير محلّف بحسب المحامية زينة المصري. لكنّ قرار المجلس خلص إلى ردّ الطلب. وتاليًا طلبت المصري أن يتمّ تقديم تقرير مفصّل عن طريقة تنفيذ المجسّم يشمل المسافات ومقاسات الأبعاد.
وبعد الاستماع إلى الشهود، أرجأ المجلس الجلسة إلى 19 كانون الثاني 2024 على أن يتم الاستماع خلالها للشاهد أيمن زهرمان وهو عنصر في المخابرات، فيما استمهل وكلاء الدفاع لتقديم لائحة شهود.
“ألم يتعيّن على المخابرات حماية الخزّان؟”
خلال الإدلاء بشهادته، أفاد العميد ميلاد طعّوم أنّه في تاريخ 14 آب 2021 “ورد أمر إلى مكتب المخابرات في عكّار لمؤازرة وحدات الجيش اللبناني في عملية فتح محطات البنزين وإفراغ محتوياتها والإشراف على بيعها بالسعر الرسمي. وحوالي الساعة الواحدة والنصف عصرًا ورد اتصال إلى المكتب من “أحد الثوار” أنّه يوجد خزانين محروقات في أرض يملكها جورج إبراهيم في التليل، وأنّ هذه الكمية من المحروقات تعود للنائب أسعد درغام”. المعلومة الأخيرة لم يتأكّد منها طعّوم، على ما قال لاحقًا. وتابع: “توجّهت دورية من الجيش مؤلّفة من 10 عناصر إضافة إلى عنصرين من المخابرات بغرض الكشف فتبيّن لهم وجود محروقات في خزّان وآثار محروقات في خزّان ثانٍ. عند الساعة السادسة أفاد العناصر بتوافد نحو 100 شخص إلى المكان، فأرسلنا مؤازرة من 70 إلى 80 عنصرًا بإمرة اللواء الثاني”. وأضاف: “أرسلنا عندها صهريجًا بقصد سحب كميات البنزين الموجودة في الخزان لتفادي حصول أيّ إشكال، وكان عدد المتواجدين بلغ حدود ألف شخص ممن تداعوا إلى المكان للحصول على البنزين”.
وتزامن وصول الصهريج مع بدء الاحتفالات بعيد السيّدة، حيث أفاد طعّوم أنّ “صوت إطلاق نار سمع من جهة مكان الاحتفال، ما أدّى إلى تأجيج الوضع”. وتابع: “كانت الساعة قد ناهزت الثامنة مساءً حين توجّهت إلى البورة بموجب أمر من رئيس الفرع (أي فرع مخابرات الجيش في الشمال) بعد ورود معلومات إلى الفرع تحذّر من احتمال حصول إطلاق نار على الصهريج أو مصادرته” (أي من قبل الناس المتجمّعين)، مشيرًا إلى أنّ حادثة مماثلة حصلت قبل يومين، من دون أن يعطي أي إيضاحات. وأشار إلى أنّه “بعد ملئه بالبنزين، خرج الصهريج عند نحو الساعة التاسعة والنصف مساءً وتوجّه إلى قيادة اللواء الثاني في ثكنة عرمان على أن يعود ليعبئ من جديد”. وشرح أنّه بخروج الصهريج بقي نحو 20 عنصرًا من الجيش ونحو 7 عناصر من المخابرات في البورة، بعد أن تمّ إرسال حماية مع الصهريج من العناصر المتواجدة في الأرض. وردًا على أسئلة القاضي عبّود، لفت طعّوم إلى أنّه بعد خروج الصهريج اشتدّت الفوضى في المكان، وكثرت أعداد الوافدين لا سيّما القادمين من أماكن بعيدة بقصد الحصول على البنزين.
بعد ذلك، سُئل طعّوم عن الإجراءات التي اتخذت على الأرض أمام الأعداد الكبيرة للمتجمّعين، فقال: “كنّا نحاول تنظيم الأمور قدر الإمكان”. وأشار إلى منع من يحملون سجائر مشتعلة من الدخول، لكن لم يحصل أي تفتيش، في إشارة إلى التفتيش عن أدوات تستخدم لإشعال النار أو قد تسبب اشتعال النيران، في حوزة الوافدين مثل القداحات والكبريت والأسلحة.
وردًّا على استفسارات القضاة عن سبب عدم اتخاذ إجراءات صارمة قال طعّوم: “الأوامر كانت بأن تُعالَج الأمور برويّة”. عندها تدخّل المحامي العام التمييزي صبّوح سليمان ليسأله: “هناك أمور غير واضحة، أنت كضابط في فرع المخابرات يندرج بصلب مهامك حماية المواد المصادرة، ألم يتعيّن عليكم حماية الخزّان علمًا أنّ الصهريج خرج على أن يعود لأخذ الكمية المتبقية من البنزين؟”. وتابع القاضي سليمان أنّ المواد كانت مخزّنة بطريقة غير آمنة بالمقارنة مع محطات الوقود التي تُخزّن فيها المحروقات ضمن بنيتها “خاصّة أنّك ضابط مخابرات ويندرج في صلب مهامك تشخيص خطورة الوضع وطلب المؤازرة”. فأجاب العميد: “لم نتوقع أن المكان أكثر خطورة من غيره… ونحن طلبنا المؤازرة من اللواء الثاني لكن كان هناك إشكالات تحصل على المحطات التي يُداهمها الجيش وربما لهذا السبب لم يتمكّنوا من المؤازرة”.
“بالتأكيد” يوجد قرار بتوزيع المحروقات
برزت تناقضات بين إفادة طعّوم وبين شهادات الشهود الآخرين حول إصدار الجيش أوامر بتوزيع البنزين على الناس. وأبرز من أفاد بتلك الواقعة هو المعاون نادر الذي قال ردًا على سؤال القاضي عويس عمّا إذا كان هناك قرار بتوزيع البنزين: “بالتأكيد يوجد قرار”. وعن دور الجيش في تنظيم توزيع البنزين، أوضح “نظّمنا طابورًا للسماح للأشخاص بالدخول وتعبئة غالون بنزين” وقال إنّ “العنصر أيمن زهرمان الذي أُصيب في التفجير هو الذي كان يُشرف على توزيع البنزين”، فيما أشار الشهود الآخرون إلى أنّهم رأوا الجيش يُنظّم دخول وخروج الناس لتعبئة البنزين ويوقفهم في طابور.
كذلك أشار رئيس بلدية التليل جوزيف منصور إلى وجود أمر بتوزيع البنزين على الناس. وسرد في روايته للأحداث التي قال إنّه كان شاهدًا عليها في تلك الليلة أنّه “عند الساعة السابعة مساءً دار نقاش بين منصور والعميد طعّوم وممثل الثوار أحمد طالب، فتوصّلنا إلى حلّ مع العميد طعّوم بأن يتمّ مصادرة البنزين لصالح مستشفى الراسي الحكومي بعد أن يتم استبداله بالمازوت” حسب تعبير منصور. ولفت إلى أنّ الصهريج وصل عند الساعة 7:30 مساءً وسحب البنزين، فسأله القاضي العويس “هل تمّ تعبئة الصهريج إلى حد امتلائه؟” فأجاب منصور: “باعتقادي لا، لأنّه في تقديري الصهريج يتّسع لمحتويات خزانين كاملين”. ثم كشف منصور عمّا سمّاها “معلومات خاصّة” وقال: “اتصلت بعد أيّام من التفجير بالضابط جورج نمر الذي أشرف على تفريغ الصهريج في ثكنة عرمان، قال لي إنّ الصهريج كان عائدًا من تفريغ النقلة الأولى في الثكنة، لكن ما أن وصل إلى أوّل القرية تلقّى أمرًا من طعّوم بأن يعود لوجود أوامر بتوزيع الكمية المتبقية”. وقال منصور إنّه اتصل بطعّوم ثلاث مرّات بين الساعة الخامسة عصرًا و11:30 ليلًا، ليُطالبه بإخراج الناس من البورة حيث يتمّ توزيع البنزين، وليحذّره من “قنبلة موقوتة”، وهي عبارة أوضح أنّه لم يقصد بها احتمال حدوث تفجير لمادّة البنزين، بل قصد تلافي حصول “تفجير طائفي” بين الوافدين إلى المنطقة وبين أبناء التليل. وأكدّ منصور أنّه لم يلقَ أي تجاوب فعلي من العميد طعّوم الذي كان يقول له في كلّ مرّة إنّ الأمور اقتربت من نهايتها.
وقد نفى طعّوم هذا الأمر قائلًا: “لم يكن هناك قرار بتوزيع الكمية المتبقية من البنزين على الناس”،. و”لم يحصل أي اتفاق مع الثوار لتقاسم البنزين، بل تمّ التواصل معهم للمساعدة في إخراج صهريج الجيش الذي نقل كمية من البنزين”. لكنّ القاضي جان مارك عويس سأله “هل تمّ السماح للناس بأخذ البنزين؟”، فأجاب: “كنّا نسمح لمن أتى من منطقة بعيدة أن يأخذ البنزين”.
“لا نعرف سبب التفجير”
في قراره الاتهامي، اعتبر المحقق العدلي علي عراجي أنّ المتهم جرجي إبراهيم هو الذي أشعل النار بالوقود بعدما أخذ الولّاعة من المتهم ريتشارد إبراهيم قائلًا: “بعّدوا، بدّي ولّع” كردّة فعل على إشكال حصل بين نجله جاك إبراهيم وعدد من المتجمعين أدّت لإصابته في عينه.
وفي روايته للحظات الأخيرة قبل التفجير قال العميد طعّوم: “عند الساعة الواحدة ليلًا وبعد وقوع العديد من الإشكالات بين المتواجدين والكثير من التدافع بين الناس باتجاه الخزّان خرج الوضع عن السيطرة … وبعد نحو 10 دقائق وقع الانفجار”. وأضاف أنّه كان يقف على بُعد 20 مترًا تقريبًا في حين أنّ مسافة الرؤية تصل إلى 15 مترًا كحد أقصى في الظلام الدامس، وفقاً لتصريحه، لذلك لم ير من افتعل التفجير، وأنّه لم يسمع أحدًا يهدّد بالإشعال. وصرّح طعّوم أنّه لا هو ولا عناصره يعرفون سبب التفجير. وقال أيضًا إنّه لا يعلم بحصول إشكال قبل التفجير بدقائق بين جاك إبراهيم والمتجمّعين، إذ علّق: “حصل مئة إشكال مثله في تلك الليلة” أي أنّه لم يلاحظ شيئًا غير مألوف في هذا الإشكال.
المعاون جورج نادر أيضًا قال إنّه لم يشهد على لحظة حصول التفجير: “قبل التفجير بنصف ساعة توجّهت إلى الآلية المركونة على بعد 100 متر من الخزّان لأستريح، وكان موقع الخزان خلفي، ولم أر ما حصل”.
وقد برز تناقض ثانٍ بين إفادة طعّوم والشهود الآخرين تتصل بالتواصل بينه وبين المتهم ريتشارد إبراهيم، إذ أكدّ أصدقاء الأخير جوزيف درغام ورامي جلّول ورودي جلّول أنّه طالب طعّوم بإيجاد حلّ للفوضى في التوزيع لكنّه لم يستجب له، فقال له ريتشارد “سأذهب لجلب الجرافة لقلب الخزان وإنهاء الأمر”، وما أن خطى بعض الخطوات، وقع التفجير. كما أفاد المعاون نادر حين سُئل عن وجود ريتشارد في مكان التفجير، فأكدّ أنّه رآه يقف إلى جانب طعّوم لكنه لم يسمع الأحاديث التي دارت بينهما. وكانت إجابة طعّوم على هذا الأمر أمام المحكمة: “لم ألتق ريتشارد سوى في اليوم التالي للتفجير حين سلّم نفسه وركب معي في الريّو”.
ويتّضح من إفادة طعّوم أنّه استمر في مهامه في اليوم التالي للتفجير كرئيس مكتب مخابرات الجيش في عكار والتقى بمشتبه فيه رئيسي ونقله إلى مركز التحقيق، وهو ما يستشف منه أنّه كان لديه قدرة على التأثير في التحقيق الذي توّلته الشرطة العسكرية، في الوقت الذي كان من المفترض تحييده من اللحظة الأولى عن الملف وتجميد مهامه لحين الانتهاء من التحقيق. ويُشار إلى أنّ طعّوم لفت خلال الجلسة إلى أنّه لم يتعرّض لأي عقوبة مسلكية، فسأله وكيل جرجي إبراهيم المحامي علي أشمر عن سبب غيابه عن العمل لثلاثين يومًا فأجاب: “كنت مصابًا بفيروس كورونا”. وردًا على سؤال أصرّ أشمر على طرحه رغم اعتراض جهة الادعاء معتبرين أنّه سؤال من خارج سياق الملف: “متى تمّت ترقيتك إلى رتبة عميد؟” فأجاب طعّوم “تمّ التوقيع على ترقيتي في شهر كانون الثاني 2022، وقد سبقتُ في هذه الترقية زملائي لوجود أقدمية”.
أمّا رئيس البلدية منصور، فأفاد إنّه لم يرَ جرجي إبراهيم في المكان تلك الليلة، وهو أمر كرّره الشهود الأربعة الآخرون جوزيف درغام ورامي جلّول ورودي جلّول ونجله جاك إبراهيم. وكان العقيد طعّوم الوحيد في هذه الجلسة الذي أفاد إنّه رأى جرجي بقوله: “رأيت جرجي بعد التفجير وكانت يداه لونهما أسود من الشحتار”.
أمّا جاك نجل جرجي الذي اعتبر القرار الاتهامي أنّه حصل إشكال بينه وبين مجموعة من الشبّان، وتلّقى شتائم وضربة على عينه، فنفى في شهادته أنّه تعرّض للضرب بسبب إشكال، إنّما قال: “تلقّيت ضربة خلال محاولتي حلّ إشكال لست شريكًا فيه”. ونفى جاك أن يكون قد تعرّض لأي شتائم من قبل المتواجدين، وأنّه بعد إصابته توجّه إلى منزله برفقة الشاهد رودي جلّول. وردًا على سؤال هيئة المحكمة عن المدّة الزمنية بين إصابته وحصول الانفجار قال إنّ التفجيرحصل بعد إصابته بـ 10 دقائق. وأكدّ رودي بدوره على شهادة جاك إذ قال: “رأيت جاك يُحاول فض إشكال فتلقى ضربة على عينه فتقدمت وقمت بإبعاده عن المتواجدين”.
وواجه عبّود الشاهد جاك بتناقض شهادته أمام المجلس مع إفادته خلال التحقيقات الأوّلية التي جاء فيها: “أفدت أنّك طلبت من أحد الأشخاص الابتعاد عن الستوك (المواد المخزنة في البورة) ممّا أثار استياءه فضربك على عينك اليمنى، وأنّك سمعت صوت والدك (جرجي) يُطالب الناس الابتعاد عن الستوك”، لكنّ جاك نفى ذلك.