تميل الكتابات المتخصصة في العلوم السياسية[1] والتي تتناول موضوع التصنيفات السياسية إلى الانطلاق في مقدماتها من الحادثة التاريخية التي أخرجت إلى العالم ثنائية اليسار واليمين. والحديث هنا عن اجتماع الجمعية التأسيسية الفرنسية في سبتمبر 1789 حيث جَلسَ إلى يسار رئيس الجلسة النوّاب المناهضون للمَلَكيّة وعلى يمينه جلَسَ مساندوها. هذه الواقعة على بساطتها كونها لا تتجاوز توصيفا لمواقع النواب في قاعة الجلسة، إلاّ أنها ذات رمزيّة كبيرة لسببين على الأقل: أوّلاً لأنّها جعلت من الموقف السياسي أساسا لبناء تمييز سيبقى حاضرا بل ومهيمنا إلى حدّ اللحظة، وثانيا لأنّها أضفت مضمونا جديدا على كلمات كانت عند ذلك الحدّ تُستعمل للدلالة على الموقع فشحنتها بطابع سياسي خالص.
مُنذ ظهر هذا التقسيم إلى يسار ويمين، استُعملت هذه المُصطلحات لتوصيف مجموعة كبيرة من الأيديولوجيات السياسية والتي لم تعُد مُرتبطة بالموقف من المَلَكيّة الفرنسية وإنّما بالغايات السياسية لهذه الأيديولوجيات كما الحركات التي تبنّتها. من ذلك أصبح مُصطلح اليسار في معناه العام يُوظَّف للدلالة على الرغبة في التغيير ورفض ما هو قائم، فيما استُعمل مُصطلح اليمين إجمالا ليعني التمسّك بالوضع القائم. مع ذلك فإنّ هجرة المصطلحات في التاريخ وعبر الجغرافيا تعني في ما تعنيه تبدّل مضمونها ومعناها ولو جزئيا. ودليل ذلك أنّ مُصطلح اليسار في فرنسا اليوم –وهي البلد الذي نشأ فيه هذا التقسيم- لم يعُد يحيل إلى نفس موضوعات يسار الثورة الفرنسية والمتمثّلة أساسا في رفض المَلَكيّة والعمل على إقامة جمهورية تحت شعار “حريّة، مساواة، أخوّة”. أيّ مضمون إذًا اكتسبه مُصطلح اليسار عندما هاجر موطنه الأصلي واستقرّ في تونس؟ وهل حافظ على مضمون واحد طوال فترة تواجده هنا أم أنّ معناه تبدّل كما هو الحال في بقيّة بُلدان العالم؟
قبل المرور إلى المجال الجغرا-سياسي التونسي، تجدر الإشارة إلى ثلاث ملاحظات عامّة ومُهمّة في آن: أوّلا، يبدو واضحا أنّ مُصطلح اليسار عموما لم يتأسّس في أصله إلاّ باعتباره نقيضا ونفيا، فهو لم يكُن ليوجد بذاته وإنّما ظهر نقيضا لليمين ومواقفه المُحافظة وكمحاولة لنفي النظام السياسي القائم في فرنسا حينذاك. ثانيا، مع ظهور الحركتين الاشتراكيّة والشيوعيّة، شُحِن مفهوم اليسار ببُعد جديد يتجاوز المسألة السياسيّة الخالصة أي يتجاوز طبيعة النظام السياسي (ملكي أو جمهوري، استبدادي أو ديمقراطي إلخ…) ليتحوّل إلى مصطلح يشتمل على أبعاد اقتصاديّة واجتماعيّة حيث أصبحت قضيّة مِلكيّة وسائل الإنتاج ركنا أساسيا فيه، بذلك أصبحت طبيعة المِلكيّة (جماعيّة واشتراكيّة أو فرديّة) أحد أهمّ المُحدّدات للمفهوم وتعريفه[2]. ثالثا، يتضمّن مفهوم اليسار دائرة واسعة من الحركات والأيديولوجيات السياسية التي تختلف في ما بينها بدرجات لكنّها تشترك في إيمانها بقيمة المساواة باعتبارها محرار الانتماء إلى هذا المجال السياسي الذي يُسمّى يسارًا[3].
اليسار في تونس من منظور تاريخي
في 28 مارس 1956 وعلى إثر إعلان نتائج انتخابات المجلس القومي التأسيسي، صرّح الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل أحمد بن صالح قائلا: “إن فكرتا اليمين واليسار سوف تظهران لأوّل مرّة بتونس وستلقى تتويجا على صعيد المجلس”[4]. لم يكُن هذا التصريح بمثابة إطلاقٍ لمفهومي اليمين واليسار في المجال التونسي، فالحزب الشيوعي التونسي اُسّس سنة 1920 ما يعني أنّ اليسار قد وُجد وطنيا قبل التصريح بمدّة طويلة ولا شكّ أنّ السيد بن صالح عارف بمكونات الساحة السياسية التونسية وتاريخها، لكن أهميّة هذا التصريح تكمن في أنّه محاولة تونسية لاستعادة حادثة الجمعيّة التأسيسية الفرنسية والإشارة صراحة أنّ المجلس القومي التأسيسي ذاهب نحو النقاش حول طبيعة النظام السياسي في تونس وإعلان الجمهوريّة في مرحلة ما. ومع أنّ نبوءة السيّد بن صالح المُضمَّنة في تصريحه لم تتحقّق لأنّ اليمين الذي كان من المُفترض أن يُدافع عن المَلَكيّة لم يظهر على صعيد المجلس إلاّ أنّ ذلك لا يعني البتّة أنّ الساحة السياسية التونسيّة لم تعرف مثل هذا الانقسام إلى يمين ويسار.
بالنظر إلى تاريخ السياسة في تونس وطبيعة طروحات الحركة الوطنية الساعية إلى التغيير (الدعوة إلى الاستقلال، تبنّي الجمهورية) تبلور مفهوم خاصّ جدّا لليسار، حيث لم يعُد المفهوم واسعا وقابلا للتأويل على أنّه كُلُّ رغبة في التغيير بل أضحى رديفا لليسار الماركسي حصرا. وإلى وقت ليس بالبعيد لم يتغيّر هذا الارتباط العضوي بين اليسار والماركسية، ولعلّ من مكر التاريخ أنّ الحزب الشيوعي التونسي الذي ساهم بشدّة في تأسيس هذا الارتباط كان هو ذاته السبب الرئيس وراء مُراجعته.
بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي وفقدان الحركة الشيوعية العالمية لقاعدتها الرئيسة وخفوت بريق الدعوات الشيوعية للثورة، قامت العديد من الحركات السياسية الشيوعية بمراجعات نظريّة وأيديولوجيّة. ولم يكُن الحزب الشيوعي التونسي إلاّ واحدا من هذه الحركات، إذ في سنة 1993 أعلن الحزب عن تغيير اسمه ليُصبح حركة التجديد، وتبنّى طروحات سياسية اشتراكية ديمقراطية مُتخلّيا بذلك عن مُثُل الثورة الشيوعية. بطبيعة الحال لا يُمكن بأي وجه حصر اليسار في تونس في الحزب الشيوعي التونسي إذ على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المُنصرم ظهرت إلى الوجود حركات سياسيّة يساريّة كثيرة ومنها منظمة آفاق-العامل التونسي والحلقات الماركسية اللينينية التونسية والوطنيون الديمقراطيون وحزب العمال الشيوعي التونسي…أمّا المُلفت للانتباه فهو حقيقة أنّ تعدّد التنظيمات اليسارية لم يُوسّع من مفهوم اليسار بل ربطه أكثر فأكثر بالماركسية، لأنّ هذه التنظيمات التي اختلفت في تقييم المسائل التكتيكية كما في الأطروحات الفكرية (كطبيعة المُجتمع التونسي أي طبيعة علاقات الإنتاج فيه، وطبيعة الثورة: اشتراكيّة أم وطنية ديمقراطية) لم تختلف قطّ في قناعتها بسلامة وصحّة الطروحات الماركسيّة وضرورة اعتمادها كأداة تحليل ومُرشد للعمل.
أدّت هذه الحقائق التاريخية في المجال السياسي التونسي إلى فكرة مفادها: أن تكون يساريّا هو أن تكون ماركسيّا. لكن هذا الارتباط لم يدُم طويلا، أولا لقيام الحزب الشيوعي التونسي بمراجعاته كما أسلفنا، وثانيا لظهور حركات سياسية بعد الثورة تعُبّر عن نفسها باعتبارها يساريّة لكنّها ليست ماركسيّة ومنها مثلا الهيئات الثورية المستقلة وحركة الجيل الخطأ.
أن تكون يساريا في تونس
لا تكمن الصعوبة في تحديد معنى أن تكون يساريا في مجموع القيم التي يتبنّاها اليساريون بل في سعة معناها وتعدّد المضامين التي قد تُمنح لها. من منّا لا يؤمن بالمساواة والحريّة والعدالة الاجتماعية؟ “اليمينيون”، ستكون هي إجابة أيّ يساري. إذًا فاليساري بداهة هو من يتبنّى هذه القيم ويعمل على تحقيقها ويجعل منها أساس تصوّراته ومُنطلقها. لكن أيّ مضمون لهذه القيم؟ هل تعني المساواة تساوي المواطنين أمام القانون أم تساويهم في الفُرص أم تساويهم في المِلكيّة؟ أيّ معنى نُضفيه على الحريّة؟ هل هو غياب الموانع القانونيّة عن الأفعال الفرديّة أم هي قُدرة المُجتمع على الاختيار وتقرير مصيره عبر أداة سياسية هي الدولة أم أنّها العيش في ظلّ نظام اجتماعي تغيب عنه الدولة؟ ماذا يقصد اليساريون بالعدالة الاجتماعية؟ هل تتمثّل في الملكيّة الجماعيّة المُباشرة لوسائل الإنتاج أم في تأميم هذه الوسائل لتكون ملكيّة للدولة أم في إعادة توزيع غير مباشرة للثروة عن طريق الضرائب في ظلّ اقتصاد السوق؟ من الناحية النظريّة تُعتبر هذه الإجابات كافة يساريّة. فهي تعكس باعتبارها تحديدات لمعاني المساواة والحرية والعدالة الاجتماعيّة إلى حدّ ما الطيف اليساري من أقصاه إلى أقصاه، أي من الديمقراطيّة الاجتماعيّة وصولا إلى الأناركيّة، مرورا بالاشتراكية الديمقراطية والشيوعيّة. بالتالي تُبنى المعاني مُنطلقة من تصوّر اليساري ذاته عن مكمن الخلل في ما هو قائم وما يرى فيه دواء مُمكنا للعلّة الكامنة. وينتُج عن ذلك أنّ اليسار في الحقيقة وعلى أرض الواقع ليس واحدا وجوهرانيّا وإنّما هو “يسارات”، يرى كُلّ يسار فيها أنّ الآخر تعبير آخر عن اليمين، أي مُجرّد قوّة سياسية واجتماعية أخرى لا ترغب بالتغيير بل بالمحافظة على ما هو قائم، وبالتالي المحافظة على أسباب الهوان الاجتماعي.
قد يذهب الظنّ بالبعض أنّ هذه الإشكاليات النظريّة والمفهوميّة هي مُجرّد صراعات يخوضها المثقفون رغبة في إذكاء غرورهم أو النفخ في شخوصهم. لكن الواقع العملي يُثبت العكس تماما، ذلك أنّ الكيانات السياسية لا تنشأ من الحاجات العمليّة وحدها، أي أنّها لا تظهر إلى الوجود فقط لحلّ إشكال تقني يعترض المُجتمع في مرحلة ما من تاريخه وإنّما تجد مُبرّرات وجودها في القيم والأفكار والغايات النظريّة، لتنعكس فيما بعد هذه الطروحات في شكل كيان سياسي فعلي وعملي يُحدّد أولوياته وبرامجه. وليس أدلّ على ذلك من واقع أنّ اليسار لم يستطع أن يتوحّد سياسيا لا من جهة التنظيم ولا من جهة الموقف السياسي حتّى، وأنّ كُلّ دعوات التوحيد ومساراته كانت تلقى المصير ذاته في كُلّ مرّة، وأنّ اليمين كان ينجح في كُلّ مرّة في رصّ صفوفه والعمل كجسم واحد. ورُبّما يعود السبب في ذلك إلى أنّ الوحدة على قاعدة المحافظة الاجتماعية أبسط وأيسر من الوحدة على قاعدة التغيير الاجتماعي، لأنّ الأولى أوجدت نموذجها الاجتماعي أمّا الثانية فتعمل على بنائه. مع ذلك فإنّ التشارك في قيم المساواة والحريّة والعدالة الاجتماعية ورغبة عموم اليساريين على اختلافاتهم في التغيير تُمكّننا من تحديد سلوك عملي مُشترك أيضا. أولى السمات العمليّة المُشتركة لليساريين تكمن في الطابع الاحتجاجي لسلوكهم السياسي. فاليساري هو من ينزل إلى الشوارع والساحات ليحتجّ ويرفض ويُندّد، وهي سمة نابعة من قناعة اليساري أنّ الوضع القائم لا يُمكن أن يكون مقبولا. أمّا موضوع هذا الوضع القائم فيتحدّد مُجدّدا بناء على التصوّرات النظريّة، إذ من اليساريين من يحتجّ على قضايا الحريات الفرديّة ومنهم من يُسيّر المسيرات لأجل مطالبات اجتماعيّة نقابيّة وآخرون مُنخرطون حصرا في التظاهرات ذات المضمون الاقتصادي والبعض يتظاهر لرفض قرارات سياسية أو انتهاكات قانونيّة أو فساد مالي وإداري، وقليلون هم أولئك الذين يعملون على هذه الواجهات.
يتواصل الرفض بالنسبة لليساري “خارج إطاره الاحتجاجي ليتجسّد في الدائرة الاجتماعيّة، حيث يعمل اليساريون على تجسيد سُخطهم على ما هو قائم من خلال إعلانه في ممارستهم التي لا تنضبط إجمالا للمعايير والممارسات الاجتماعية التقليدية وُبناها. ولعلّ أشدّ الأمثلة وضوحا على هذا التمرّد على التقاليد في الدائرة الاجتماعية يتمثّل في تنشئتهم لأطفالهم بطريقة تعتمد النديّة بدل الفوقيّة، والمشاركة بدل الأبويّة والتسلّط، والإباحة بدل المنع والتحريم. وذلك لإيمانهم بأنّ البُنى الاجتماعية التقليدية هي التي أنتجت في المقام الأوّل الوضع الذي يرفضونه ويرغبون في تغييره، وأنّ قيمة الحريّة قابلة للتجسّد عمليا في مؤسسات المُجتمع.
لكن الرفض ليس سمة خاصّة باليسار، فهو في المحصلة موقف من شيء ما، وقد يكون حتى رفضا مُحافظا. وعلى سبيل المثال يُعتبر رفض بعض القوى السياسية لمبدأ المساواة في الميراث بين الجنسين من جنس الرفض المُحافظ. أمّا ما يميّز الرفض اليساري فهو اقترانه بفكرتي التغيير والتقدّم، ذلك أنّ اليسار في رفضه يسعى إلى تغيير ما هو قائم لإنتاج مُمكنات جديدة في الفعل الاجتماعي، وليس القصد من التغيير هنا العودة إلى نماذج اجتماعيّة انتهت في الماضي.
يتميّز اليسار في تونس كذلك بعلمانيّته وإن كان ليس لوحده علمانيا. فهو أكثر المدارس السياسية تأكيدا على ضرورة فصل الدولة عن قضايا الدين، وجعل الفضاء العمومي مكانا مُتاحا دون إحالة إلى الهويات الدينية سواء كانت فرديّة أو جماعيّة. هذه القيمة السياسية التي تبنّتهاالحركات اليساريّة في تونس، خلقت حدود تمايز بين اليسار والنظام. فحركة برسبكتيف[5] مثلا كانت في بداياتها تعارض نظام بورقيبة على أسس سياسيّة، أي على أساس انحراف النظام عن الطروحات الديمقراطية التي روّج لها مع الاستقلال. مع ذلك فقد كانت الحركة تعتبر مواقف الجناح البورقيبي أكثر تقدميّة وتحرّرا من مواقف الجناح اليوسفي الذي كان يُشدّد على قضايا الهويّة. وبالتالي كانت حركة برسبكتيف تسعى بشكل ما إلى إعادة بورقيبة إلى جادة الديمقراطية والحرية والتحديث العلماني[6]. مثّلت كذلك قيمة العلمانية بالنسبة لليساريين خطّا فاصلا بينهم والمعارضين الآخرين للنظام وخاصّة الإسلاميين، حيث كان الصراع هو السمة الطاغية تاريخيا على علاقة اليسار بالإسلاميين بخصوص قضية فصل الجين عن الدولة. وتشارُكْ التيارين في رفض النظام لم يجعلهما يتقاربان سياسيا. وبما أنّ لكلّ قاعدة استثناء يؤكدها ولا ينفيها فإنّ الاستثناء تجسّد سنة 2005 في ما يُعرف بجبهة 18 أكتوبر.[7] حيث شكّل حزب العمال الشيوعي التونسي مع حركة النهضة الاسلامية والحزب الديمقراطي التقدمي والمؤتمر من أجل الجمهوريّة جبهة سياسيّة من أجل حدّ أدنى ديمقراطي في مواجهة نظام بن علي. لا شكّ أنّ تلك التجربة لها من يدافع عنها من اليساريين ولها من يرفضها وينقدها، وليس من جدوى في هذا المقام أن نستعيد الجدل عمّا إذا كانت تلك خطوة تكتيكية صحيحة أو انحرافا عن مبادئ اليسار. إلاّ أنّ الثابت هو أنّ المدافعين عنها لم يتنكّروا يوما لعلمانيتهم باعتبارها قيمة تُشكّل أساسا لفعلهم. ومن الواضح أنّ اليسار التونسي على اختلافاته يرى في علمانيته تجليّا لبُعده الإنساني الشامل، فهو لا يتصوّر ذاته كحركة محدودة بالجماعة الدينيّة وإنّما كجزء من محاولة إنسانيّة للخلاص من عناصر البؤس البشري وعوامل وجوده.
صراع اليسارات على المعنَى والحقيقة
على الرغم من أنّ هذه القيم المُشتركة التي أتينا على ذكرها تجمع اليساريين في تونس، إلاّ أنّ مُحاولاتهم المُتكرّرة للإجابة على معنى هذه القيم وكيفية تجسيدها في الواقع عزَّزت انقساماتهم وجعلت كُلّ فرقة منهم أشبه بالجماعة المذهبيّة التي تعتقد جازمةً أنّها تمتلك حقيقة معنى اليسار واليسارية وأنّها بمعنى ما “الفرقة اليسارية الناجية” من دنس التحريف والردّة واليمينية[1] . فالستالينيون يرفضون التروتسكيين والأناركيون يرفضون الشيوعيين والشيوعيون يرفضون الاشتراكيين الديمقراطيين. وقِسْ على ذلك من تعدّد المذاهب والطُرق. ولم يقتصر الانقسام على المستوى النظري فحسب، بل شمل كذلك الممارسة التكتيكية لكُلّ جماعة، فلا نجد اليسار مُتفقا على موقف سياسي واحد إلاّ نادرا، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بالأحداث الكُبرى التي تمرّ بها البلاد. ففي مرحلة دولة الاستقلال، كان جزء من اليسار معارضا شرسا لبورقيبة فيما ساند بعضهم السُلطة القائمة آنذاك تحت مُسمّى “المساندة النقدية”. وحين وقوع انقلاب 7 نوفمبر 1987 انخرط بعض اليساريين في دواليب السُلطة بينما عارضها آخرون. وفي أحداث 14 جانفي، لم يختلف اليساريون في مساندتهم لذلك الفعل الشعبي لأنّه يتّفق ورغبتهم في التغيير إلاّ أنّهم وجدوا مجالا للاختلاف في توصيف ما حدث بين من يقول أنّ ما حدث ثورة سياسية مكتملة الأركان ومن يقول أنّها انتفاضة شعبيّة.[8] وعندما تجمّع المختلفون في “الجبهة الشعبية” أوجدوا توصيفا يوائم الجميع فتبنّوا مقولة “المسار الثوري”. كذلك ما زال الخلاف قائما اليوم على التوصيف السياسي لما حدث في 25 جويلية 2021، فمن اليسار من يعتقد أنّ ما حصل هو انقلاب على الديمقراطية وحركة ردّة لاستعادة حُكم الفرد. ومنهم من يعتقد أنّ ما وقع هو عمليّة تصحيح لمسار ثورة تلقّفتها القوى اليمينية المحليّة وقوى استعمارية دولية وأفرغتها من مضمونها الثوري لتستبدلها بديمقراطيّة ليبرالية شكليّة. بالتالي فإنّ معنَى أن تكون يساريا في تونس اليوم لم يعُد قضيّة نظريّة أو قيمية خالصة. بل أضحى تعبيرا عن مجموعة من المواقف العمليّة التي تقترن بالواقع وفهمه. وبذلك يكون المعنى الخالص غائبا ويكون التغيّر هو الأساس الذي من خلاله يُمكن فهم اليسار واليساريين. وعلى الرغم من قناعتي التامة أنّ بناء معنى شامل لأن تكون يساريا هو أمر مُستعص بالنظر إلى الخلافات والانقسامات التي تشقّ اليسار واليساريين، إلاّ أنه لا بأس من محاولة تقديم صورة عامّة وصفيّة يكون بموجبها اليساري هو الرافض والمُتمرّد والراغب في التغيير والمؤمن بقيم المساواة والحريّة والعدالة الاجتماعيّة وفصل الدين عن الدولة.
لقراءة المؤلف الجماعي كاملا وتحميله، اضغط هنا
[1] أنظر مثلا:
Carlisle, P. Rodney, Encyclopedia Of Politics: The Left and Right, Sage Publications, California, London, New Delhi, 2005.: Winock, Michel, dans Qu’est Ce Que La Gauche, Fayard, France, 2017.
[2] Carlisle, P. Rodney, Encyclopedia Of Politics: The Left and Right, Sage Publications, California, London, New Delhi, 2005. P.vii.
[3] Aubry, Martine , dans Qu’est Ce Que La Gauche, Fayard, France, 2017. P.13.
[4] بوقرة، عبد الجليل، حركة آفاق: من تاريخ اليسار التونسي 1963-1975، دار سيراس للنشر، تونس، 1993. ص5.
[5]حركة يسارية تونسية تأسست سنة 1963 عرفت باسم تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس. أصدرت مجلة اسمها “آفاق تونسية” لذلك عرفت الحركة فيما بعد باسم آفاق. للوقوف أكثر حول تفاصيل نشاة الحركة انظر في نفس العدد مقال فطين حفصية.
[6] الطرودي، الهاشمي، أضواء على اليسار التونسي: حركة آفاق نموذجا، دار محمد علي الحامي، تونس، 2014. ص123.
[7] للوقوف أكثر حول هذه التجربة وحول علاقة اليسار بالإسلاميين، انظر في نفس العدد مقال الباحث التونسي هشام عبد الصمد.
[8] للوقوف أكثر حول صراع اليساريين حول تقييم لحظة الثورة في 14 جانفي 2011. انظر في نفس العدد مقال أيمن سلام الفارحي.