حين خططنا لإنجاز عدد يتناول أبرز إشكالات العمالة في لبنان، لم يكن وزير العمل كميل أبو سليمان تولّى وزارته بعد. وقد آثرنا آنذاك أن يقتصر العدد على العمالة اللبنانية، من دون التقليل من خطورة الأوضاع الناتجة عن استقدام أعداد كبيرة من العمّال الأجانب أو عن تدفّق مئات آلاف اللاجئين أو المهاجرين إلى سوق العمل اللبنانية أو عن إخضاع هؤلاء لشروط استغلال وفق ما تناولناه في الكثير من أعمالنا. وقد جاء إطلاق الوزير أبو سليمان “خطة مكافحة العمالة غير النظامية، حمايةً لليد العاملة اللبنانية” ليعزز اقتناعنا بصحة هذا التوجه، وذلك لأسباب أربعة:
السبب الأول: حماية العمالة اللبنانية لا تختزل بمكافحة العمالة الأجنبية غير النظامية
يرتبط هذا السبب بمخاوف مشروعة لدينا من المنزلقات التي قد تغطس فيها الحملة التي أعلنها وزير العمل أبو سليمان. فبمعزل عن أي حكم على النوايا (وهو أمر لا نستسيغه)، يُخشى أن تقودنا هذه الحملة، بما يتخلّلها ويحدوها من مشاعر عصبيّة، إلى اختزال إشكالات اليد العاملة اللبنانية بنقص فرص العمل تبعاً لمنافسة العمالة غير النظامية. ومؤدّى هذا الاختزال، ليس فقط وضعه للعمالة الوطنية في مواجهة حتمية مع العمالة المُستقدمة أو الوافدة (التي يصعب في الواقع التفريق بين شقها النظامي وشقها غير النظامي)، بل، وهو أخطر، حجْبه بشكل شبه كامل تضارب المصالح مع أصحاب العمل ورؤوس المال وما يستدعيه من حلول قانونية ومؤسساتية جازمة. فمعاناة العمالة اللبنانية لا تتأتّى فقط عن منافسة العمالة الأجنبية لها، إنّما أيضاً عن نقص الحماية القانونية لها إزاء تعسّف أصحاب العمل، والأهم عن ضعف آليات تطبيق قانون العمل وتفعيله، سواء على صعيد الإدارة العامة أو المحاكم المختصة.
فهل تعدّ هذه العمالة محميّة فعلياً في ظلّ استسهال أصحاب العمل اللجوء إلى الصرف لأسباب اقتصادية على نحو يجرّد العمّال من أية ضمانة لاستقرارهم الوظيفي، وهو صرف قد ينتهي إلى استبدالهم بعمالة أجنبية؟ هل تعدّ هذه العمالة محميّة في ظلّ طول أمد الدعاوى أمام مجالس العمل التحكيمية والذي يصل متوسطه إلى 4 سنوات في جبل لبنان و3 سنوات في بيروت؟ والأهم هل يعتبر العامل محميّاً في ظل إبقاء إنشاء النقابات (وتالياً العمل النقابي) رهناً بالحصول على ترخيص مسبق ومجرّد من أية حماية حقيقيّة من وزارة العمل، كما تشهد على ذلك قضية نقابة عمال “سبينس” (Spinneys)؟ وللتذكير، نشأت هذه النقابة أصلاً على خلفية تمنّع الشركة، صاحبة متاجر سبينس، عن التسديد لأجرائها الزيادة المقررة قانوناً على أجورهم سنة 2012، فتم التنكيل بمؤسّسي النقابة وصرف العديد منهم من دون أي تعويض. وعلى الرغم من صدور أحكام قضائية لصالح هؤلاء، لم يتغيّر مصير النقابة التي تم فعْسها، حيث لا تزال وزارة العمل متمنّعة عن أخذ العبر من القضية لتمكين عمال “سبينس” وسواهم من ممارسة الحرية النقابية من دون أي خوف أو تدخّل.
السبب الثاني: هشاشة العمالة الأجنبية ووصمها، عوامل تحجب معاناة العمالة اللبنانية
ثمة سبب ثانٍ يوجب درس أوضاع العمالة اللبنانية على حدة، وهو التباين الكبير لجهة شروط العمل بين هذه العمالة والعمالة الأجنبية. فعدا عن أنّ عدم نظامية الإقامة (وهو وضع 75% من السوريين المقيمين في لبنان تقريباً ووضع عشرات الآلاف من العمال والعاملات الأجنبيات الذين تم استقدامهم من دون تنظيم إقاماتهم أسوة بسائر الأجانب أو من دون السماح لهم بتجديدها) يجرّد العامل الأجنبي من أية حقوق ويجعله عرضة لدرجة عالية من الاستغلال، يشكل نظام الكفالة بحد ذاته امتيازاً هائلاً لأصحاب العمل يسمح لهم بتجريد العامل المتعاقد معهم من شرعية إقامته في أي حين وتالياً بتقويض مجمل الضمانات التي قد يتمتع بها بموجب القوانين المرعية الإجراء.
وما يزيد من هذا التباين هو التوجّه نحو تقسيم الأعمال على أساس الجنسية أو لون البشرة وما يستتبعه ذلك من وصمٍ لعدد منها. وهذا ما يحصل إزاء العمالة في الخدمة المنزلية أو الأعمال الزراعية المستثناة أصلاً من حماية قانون العمل، ومثلها الأعمال الأخرى التي يتم الإعلان عنها على أنها أعمال منزلية أو زراعية للتفلّت من قانون العمل (أبرزها تشغيل العمال المصريين في محطات البنزين). كما أنّ التباين يحصل ويتطوّر بشأن أعمال أخرى تخضع من حيث المبدأ لقانون العمل، ولكن أدت الأعراف إلى إخراجها منه، كما هي حال قطاع عمّال البناء شبه المحصور بالسوريين.
وإذ تؤدي هشاشة أوضاع الأجانب على اختلافها في حالات عديدة، إلى العمل القسري أو إلى أشكال من العبودية على حدّ تعبير وزير العمل كميل أبو سليمان، فإن مأساوية هذه الأوضاع وقسوتها غالباً ما تطغى، أقلّه في خطاب المنظمات الحقوقية، على معاناة العمالة اللبنانية وتحجبها.
وأخطر من ذلك، هو أنّ المدى الذي بلغته مأساوية أوضاع العمّال الأجانب يؤدّي إلى خفض سقف المطالب بشكل عام. فبدل أن تتدخّل الدولة (سواء المشرّع أو الحكومة) لإعادة التوازن إلى علاقات العمل وفق الفلسفة التي قام عليها قانون العمل أساساً وبخاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، ترتئي أن تصبّ أقصى جهدها اليوم في العمل فقط على تصحيح بعض المفاعيل الوخيمة والمؤسفة لنظام الكفالة. وخير دليل على ذلك هو أنّ آخر تعديل أساسي على قانون العمل لجهة تنظيم علاقات العمل، أُدخل في 1975 أي قبل ما يقارب 45 سنة.
من هنا، بدا لنا من الضروري درس إشكالات العمالة اللبنانية على حدة، على أمل أن يشكّل مدخلاً ليس فقط لحماية حقوقها ولكن الأهم لإعادة التأكيد على أهمية دور قانون العمل والهيئات المختصّة المنشأة بموجبه، في إعادة التوازن إلى علاقات العمل. ويؤمل أن يقود هذا المنحى إلى صدّ السياسات النيوليبرالية التي هيمنت على الساحة السياسية والاقتصادية اللبنانية منذ أوائل 1990 والرامية إلى تغليب كفّة أصحاب العمل وتحويل مجمل علاقات العمل إلى علاقات هشّة (بذريعة حرية التعاقد، من دون إيلاء أي إعتبار لموازين القوى)، وتالياً لإبقاء مستوى النقاش حول علاقات العمل مرتفعاً.
السبب الثالث: التهيئة لنقاش عقلاني بمعزل عن العصبية الوطنية
السبب الثالث هو المساهمة في إطلاق نقاش جدي وعقلاني حول شروط العمل اللائق في لبنان ودور القانون والمؤسسات المختصة في ضمانه. فليس خافياً، في ظل المشاعر المتشنّجة إزاء العمالة الأجنبية، أن يكون أي نقاش حول هذه العمالة مهدّداً بسيل من الآراء المسبقة، يندرج أقلها خطورة في إطار العصبية الوطنية ويأخذ أكثرها خطورة أبعاداً عنصرية. ويقتضي تالياً إعادة تصويب الإشكاليات والنقاش حولها، بعيداً عن تلك الآراء والمشاعر، ونحو أطر أكثر عقلانية وإنتاجاً، على أمل اجتذاب قوى سياسية واجتماعية وازنة للاشتراك في هذا المسعى.
السبب الرابع: تحسين شروط العمل مدخل رئيسي لحماية فرص العمل
أما السبب الرابع، فهو أنّ من شأن تبيان هذه الإشكالات أن يسمح لنا باستشراف الحلول الأكثر ملاءمة لحماية العمالة اللبنانية، بعيداً عن منزلقات الارتجال أو التسرّع أو حتى استسهال الحلول ذات المفعول الآني أو المرتبطة بإرادة أشخاص بعينهم، والتي تؤدي في أحسن الأحوال إلى معالجة محدودة ومن دون غد.
وإثباتاً لما نقوله، ندلي بأمرين:
- الأول، أنّ حماية فرص عمل العمالة اللبنانية ترتبط بشدّة بحماية استقرارها الوظيفي، وتحديداً حمايتها من الصرف وبخاصة الصرف من دون تعويض أو الصرف لأسباب اقتصادية، فضلاً عن حمايتها من جميع أشكال التعسّف التي قد تضع العامل أمام خيار الاستقالة أو الإذعان للتعسّف. وفيما قد تتعزّز هذه الحقوق من خلال تعزيز الضمانات القانونية لهذا الاستقرار، فإن الأهم هو تفعيل آليات تطبيق القانون والوصول الفعّال للأجراء إلى العدالة (لا سيما من خلال تمكين أجراء من تنظيم الدفاع عن أنفسهم من خلال حركة نقابية مستقلة)، إعمالاً لمبادئ العدالة الإجتماعية المنصوص عليها في مقدمة الدستور اللبناني.
- الثاني، أنّ الدافع الأول لأصحاب العمل ورؤوس المال لتفضيل توظيف العمالة الأجنبية، وربما استبدال العمالة الوطنية بهذه العمالة، لا يتمثل في كون الأخيرة أقلّ كلفة وحسب، بل هو شديد الارتباط أيضاً بوضعها الهش الذي يجعلها أكثر قابلية للاستغلال. وعليه، فإن المدخل الأساسي لثني أصحاب العمل عن ذلك هو جعل العمالة الأجنبية وبخاصة المُستقدمة، أكثر كلفة بالنسبة إلى أصحاب العمل وأقلّ قابلية للاستغلال، من خلال تمتيعها بحقوق موازية للحقوق العمّالية التي يتمتع بها اللبنانيون.
بقي أن نقول إنّ اعتمادنا المنهجية التفكيكية في مقاربة حقوق العمالة اللبنانية على حدة، لا يعني بأي حال من الأحوال أننا نكتفي بهذا القدر أو أننا لا نهتم بمتابعة أوضاع العمالة الأجنبية والدفاع عن حقوقها عند الاقتضاء. فهذا العدد يشكل جزءاً من عمل يُكمِل ما أنتجناه وننتجه عن العمالة الأجنبية بمختلف أشكالها، ونأمل أن نستكمله من خلال المساهمة في استشراف أبواب المعالجة.
- نشر هذا المقال في العدد | 61 | تموز 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
ليس بالوطنية وحدها تحمى العمالة