“
وسط معلومات غير رسمية عن أن القرار النهائي لتقرير مصير تلفزيون المستقبل هو نهاية شهر آب، حيث تتأرجح المعطيات بين احتمال إغلاق التلفزيون نهائياً أو الإبقاء عليه كتلفزيون إخباري وصرف عدد كبير من الموظفين، يدخل إضراب موظفيه الأسبوع الرابع محاولين الضغط على الإدارة لدفع مستحقاتهم المالية التي تزيد عن 20 راتباً متأخراً. وعليه، فإن الأزمة المالية التي تعصف بتلفزيون المستقبل منذ العام 2015، باتت تهدد مصير 380 شخصا بين أجير ومتعاقد وفقاً للعدد المتداول، وهؤلاء ينتظرون القرار النهائي الذي سيحسم مصيرهم بعد أيام معدودة.
وبما أن صرف الموظفين هو الاحتمال الأكثر أرجحية، فإن ذلك يفتح النقاش حول آلية الصرف التي ستعتمدها إدارة التلفزيون، وما إذا كانت ستضمن تسوية عادلة للمصروفين. فهل سيواجه هؤلاء مصير زملائهم الذين صرفوا في عام 2017، حين خرجوا بتوقيع عقود رضائية تقضي بدفع كافة المستحقات والتعويضات، وهي عقود لم تنفذها الإدارة إلا بإعادة تعديل التسوية وتقسيطها على سنة كاملة، أم أنهم سيواجهون مصير من صرفوا من جريدة المستقبل، التي أقفلت في شهر شباط بصرف أكثر من مئة موظف مع وعود بإعطاء المستحقات كافة خلال 3 أشهر، لتمتنع، من ثم، عن الاعتراف بكافة الحقوق.
واليوم قبل أن يوقع الموظفون على أي تسوية، بات واضحاً أن إدارة مؤسسات المستقبل تعتمد استراتيجية مفادها: تعد بشيء وتنفذ شيئاً آخر. فما مصير مئات الموظفين الذين قد يواجهون خسارة وظائفهم وحقوقهم المالية؟
مالكو تلفزيون وجريدة المستقبل
موضوع تلفزيون المستقبل لا ينفصل عن قضية جريدة المستقبل، كما عن إذاعة الشرق التي تواجه المصير نفسه حسب ما يرد في وسائل الإعلام. لكن كل ما تنقله هذه الوسائل يضع رئيس الحكومة سعد الحريري في الواجهة على اعتبار أنه يملك الحصة الأكبر في المؤسسات المذكورة، بعدما كانت الملكية تتقسم بينه وبين أخوته وعمته النائبة بهية الحريري. وهي معلومات لا تزال غير مؤكدة إنما يتداولها موظفون دون الجزم إذا ما حصل عملية بيع للأسهم بين أفراد العائلة.
وبحسب “مرصد ملكية وسائل الإعلام” في لبنان الذي أطلقته منظمة “مراسلون بلا حدود” ومؤسسة “عيون سمير قصير-سكايز” عام 2018، فإن تلفزيون المستقبل الذي تأسس عام 1993 على يد الرئيس الراحل رفيق الحريري، تملكه شركة تلفزيون المستقبل ش. م. ل.. وفيما تضم هذه الشركة 70 مساهماً، وتُسيطر عائلة آل الحريري، رئيس الحكومة سعد الحريري وأخوته، على 59.14% من أسهمها مباشرة، و10% لمستشار الحريري هاني حمود و10% لغالب شماع. أما جريدة المستقبل، فتملكها الشركة العربية المتحدة للصحافة التي تملكها عائلة الحريري بنسبة 98% من أسهمها. ويُضاف إلى ذلك، إذاعة الشرق، وهي الأخرى تنتظر مصيراً مشابهاً، وتمتلكها شركة وايف هولدينغ التي تملكها عمة رئيس الحكومة النائبة بهية الحريري بنسبة 99.4%، وهناك معلومات بانتقال ملكيتها إلى الرئيس سعد الحريري. ونقلت وسائل الإعلام معلومات حول تبلغ موظفي إذاعة الشرق قرار إغلاق الإذاعة وصرفهم جماعياً في آخر شهر آب.
والجدير ذكره، أن آل حريري يملكون شركة تملك أسهماً في جريدة دايلي ستار التي تواجه أزمة مالية ينتج عنها تأخر برواتب موظفيها أيضاً، كما يملك الرئيس سعد الحريري أكبر نسبة مساهمة في جريدة النهار بنسبة 39.6%، والأخيرة أيضاً واجهت أزمة مالية نتج عنها تقليص العمل وصرف موظفين[1].
إضراب موظفي التلفزيون: الأول من نوعه
قبل أن يدخل موظفو تلفزيون المستقبل هذا العام بإضرابهم المستمر، استبقوا ذلك بخطوات تحذيرية بدأها المنتجون والمراسلون في قسم الأخبار في منتصف حزيران الماضي مطالبين بتسديد رواتبهم. وكان الموظفون قد تلقوا وعوداً من رئيس مجلس الإدارة بحل الموضوع. إلا أنه بعد بضعة أيام، عاد الموظفون إلى الإضراب وانضم إليهم مقدمو نشرات الأخبار[2]. وبعد أيام قليلة، اجتمع مجلس الإدارة وخرج بقرار صرف نحو نصف الموظفين، مع وعود بتقسيط رواتب المصروفين على مدى 16 شهراً، وأن يحصل الموظفون الباقون في التلفزيون على رواتبهم كاملة، فتم تعليق الاعتكاف على شرط تنفيذ وعد الإدارة وإلا العودة إلى الاعتكاف[3].
وبعد تخلف الإدارة عن تنفيذ الخطة المذكورة، عاد الموظفون إلى الإضراب في 30 تموز، فتوقف موجز أخبار الساعة الثانية عشرة ظهراً، وتوقفت نشرة أخبار الثالثة ظهراً، كما تأخر برنامج “عالم الصباح” ربع ساعة[4]. ثم تصاعد الإضراب إلى حد توقف نشرات الأخبار المسائية نهائياً، وتبع ذلك قرار إداري في 14 آب قضى بتوقف تام لكافة البرامج واقتصر البث على برامج ومسلسلات معادة. هذا التطور في قضية تلفزيون المستقبل، الذي يُعاني من أزمة مالية حادّة منذ العام 2015، يحصل لأول مرة منذ تأسيس التلفزيون، وسط تناقل معلومات غير رسمية بأن التلفزيون مقبل على إقفال نهائي أو جزئي، أي إعادة هيكلة بالاكتفاء بفريق قسم الأخبار، على أن يكون آخر شهر آب موعد إعلان القرار المؤكد حول مصير التلفزيون وكذلك مصير نحو 380 موظف.
ويأتي الإضراب خلال مرحلة سياسية هامة بالنسبة لرئيس الحكومة سعد الحريري. فأخبار زيارته إلى أميركا بهدف المناقشات السياسية غابت عن تلفزيون المستقبل. وزادت الأوضاع النفسية للموظفين يأساً بنشر الحريري صوراً له في أميركا في مزرعته الخاصة مستضيفاً وزير الخارجية الأميركي مايك بامبيو، ما أثار حالة استغراب تشي بتجاهل الحريري للقمة عيش موظفيه في حين أنه ينعم بحياة باذخة.
وقفة تضامنية
واستدعت القضية مؤخراً اعتصاماً دعت إليه نقابة محرري الصحافة بتاريخ 20 آب في ساحة الشهداء في بيروت، واللافت أن نقابة الصحافة لم تُشارك في الاعتصام ولم تتخذ موقفاً حاسماً أمام ما يحصل مع تلفزيون المستقبل. وخلال الاعتصام الذي حضره عشرات الإعلاميين والصحافيين، قرأ نقيب المحررين جوزيف القصيفي بياناً شدد فيه على أن اللقاء هو “لنرفع الصوت عالياً ومدوياً ضد الإهمال الرسمي لقطاع الصحافة الإعلام، واللامبالاة حيال تشرد مئات الزميلات والزملاء الذين باتوا عاطلين من العمل من جراء إقفال المؤسسات التي كانوا يعملون فيها بذريعة الأزمة الاقتصادية والمالية وشح الموارد، علماً أن معظمها أقفلت لأسباب مغايرة لتلك التي أعلنت”. وطالب القصيفي “وضع قانون عصري للصحافة والإعلام يستجيب للتحديات الراهنة ويؤسس للمستقبل، ودعم الصحافة والإعلام والعاملين فيه عبر مشروع يمول من الموازنة العامة”. وأضاف، “إنشاء صندوقين تعاضدي وتقاعدي للصحافيين والإعلاميين والعاملين في وسائل الإعلام يمول من خزينة الدولة”. وأضاف القصيفي إليها سلة مطالب أبرزها الإفراج عن القانون المتعلق بتعديل أحكام قانون المطبوعات وإرساله إلى مجلس النواب”. كما طالب مجلس القضاء الأعلى حث محاكم العمل على الإسراع في بت الدعاوى المرفوعة من زميلات وزملاء صرفوا كيفياً من مؤسساتهم، وأيضاً، العفو عن مخالفات النشر وجرائم المطبوعات”.
وتحدث النقيب جوزيف القصيفي إلى المفكرة مشدداً على أن “قضية الإعلام والصحافة هي قضية عامة، حيث يتعرض العاملون في المهنة للصرف الكيفي دون إعطائهم حقوقهم، وهذا ما نعمل على التصدي له”. اعتبر القصيفي أن هذه الوقفة ليست ضد شخص معين، شارحاً بأن “زملاء كثراً تعرضوا لنفس المواقف على اختلاف أرباب عملهم، فالقضية هي قضية الإعلام وليست قضية تلفزيون المستقبل على وجه الخصوص”. ولفت القصيفي على أهمية أن يتنبه الصحافيين إلى “إنشاء نقابات داخل أماكن عملهم لضمانة حقوقهم لدى تعرضهم لأزمات”.
مضربون ملتزمون بـ “موجب التحفظ”
يلزم الموظفون الصمت الإعلامي تجاه ما يواجهون، مكتفين ببيانات مقتضبة ونادرة (من دون أي تصريح علني) تُفسر طبيعة الحراك الذي يقومون به في أروقة المباني العائدة لتلفزيون المستقبل. فمنذ العام 2015، وبداية أزمة الموظفين مع تأخر رواتبهم، كانت الصحافة تنقل المعلومات بعناوينها العريضة بعض الشيء، وأحياناً تنقل معلومات مرّ عليها زمن معين، خاصة وأن الإدارة، بحسب مصادر المفكرة، كانت تُشير كنوع من “التلطيش” في الاجتماعات إلى الموظفين بعدم نقل وقائع الاجتماعات إلى الإعلام. ولم يظهر أي تحرك علني سوى لأولئك الذين صرفوا من التلفزيون في أوائل العام 2017 عند تمنع الإدارة عن تنفيذ عقود نهاية الخدمة. ويعزز هذا الأمر، تمسك الموظفين الذين تواصلت معهم المفكرة لاستيضاح ما يجري بعدم تناول أسمائهم في الإعلام، علما أن معظمهم اكتفى بالقول بأن “الإضراب مستمر، وآخر الشهر سيحدد مصيرنا”.
والجدير الإضاءة عليه، أنه على الرغم من الصعوبات التي يواجهها الموظف داخل التلفزيون في التعبير عن رأيه وهو لا يزال يعمل فيه، فإن هذا الحراك ولو كان خجولاً، يُشكل مسألة هامة لناحية الحق بالإضراب والمطالبة بالحقوق أمام أصحاب العمل. والحال، أن هذا النوع من التحركات نادراً ما تشهده الشركات في لبنان، بحيث تُظهر مواجهة بين الضعفاء، أي العمال، بوجه الأقوياء أي أصحاب العمل، وآخرها كانت قضية عمال “سبينس” عام 2012.
إذن، في تلفزيون المستقبل أو في جريدة المستقبل سابقاً، لم يقم الموظفون بأي حراك من الداخل طيلة أعوام الأزمة، وكانت هذه المراوغة نتيجة لعدة عناصر يحللها أحد الموظفين السابقين في التلفزيون. أولاً أن “المناخ العام في التلفزيون هو مناخ حزبي يتبع تيار المستقبل، كما أن غالبية الموظفين لهم ولاء وتأييد سياسيان لخط رئيس الحكومة”. وثانياً، اعتمدت إدارة التلفزيون سياسة “تسكين” الموظفين بالوعود وبالتبريرات لكبح أي محاولة للإضراب في السنوات السابقة، وأعطت فائضا من الحجج مثال أن “موضوع الرواتب سيكون قيد البحث بعد الانتخابات النيابية، ثم حجة تشكيل الحكومة، وأيضاً أن الحريري منشغل بمشاريع الحكومة بعد تشكيلها”. وكانت زيارة قام بها الحريري لتلفزيون المستقبل عام 2016، بمثابة تسكين آخر للموظفين. آنذاك، شكرهم الحريري على صبرهم وتعاونهم، وأخذ معهم صور السلفي، وفرحوا وصفقوا له. وفي المقابل، لم يُفتح لهم مجال الكلام عن وضعهم المالي. فنجحت الزيارة بإرجاء أي طرح لموضوع الرواتب لأشهر عديدة بسبب الحرج الذي حل داخل مكان العمل من بعدها[5]. كُلها عوامل أخّرت المطالبات، من جهة، استمر الموظفون في العمل طيلة الأعوام الماضية كرهائن للوعود وللحرج، ومن جهة ثانية، جعلت الولاءات السياسية بعضاً منهم يفاضل بين المصلحة السياسية لرئيس الحكومة ولقمة العيش.
وتمسك كثير من الموظفين بالوظيفة، آملين حلحلة الأمور، وأن يأتي يوم ويعود الازدهار إلى مؤسسات المستقبل. عدا عن أن بعضهم لم يتمكن من البقاء، فبحثوا عن فرص عمل في الخارج، ونقل موظف سابق إلى المفكرة، بأن إدارة التلفزيون تعاملت مع الموظفين بكثير من الضغط وعدم التسامح، خاصة أنها طردت بعض الموظفين لأسباب عادية. ويقول: “هناك أشخاص اضطروا أن يعملوا ولو يوماً في الأسبوع لتأمين موارد مالية، فاستعملت الإدارة ذلك ضدهم فطردتهم من دون تعويضات”. بهذا، تكون إدارة التلفزيون قد أراحت نفسها من أعباء تعويضات نسبة جيدة من الموظفين.
هذا العام عندما نفَذَت طاقة موظفي التلفزيون، وما عادت لقمة عيشهم تحمل أكثر، تراكمت الديون عليهم، ومنهم مدينون للمصارف تم الحجز على أملاكهم، ومنهم من لم يتمكن من تأمين ثمن بنزين لسيارته، أو تأمين أبسط متطلبات الحياة. وقد تكون الإشارات التي بدت واضحة في هذا العام، بأن التلفزيون مقبل على الإغلاق خاصة بعد إغلاق جريدة المستقبل في شباط، هي المحرك الأساسي الذي دفع العاملين في التلفزيون للإضراب. ويؤكد هؤلاء أن هذا الإضراب يحصل لأول مرة منذ إنشاء التلفزيون عام 1993، ما أخرج القضية إلى العلن بشكل أوضح، علماً أن الموظفين يتحفظون عن الحديث إلى وسائل الإعلام. خاصة وأن عوامل عدة تبقي هذا الحراك خجولاً وداخلياً، أبرزها الخشية من أن يدفع المصرحون للإعلام ثمن ممارسة حق التعبير عن معاناتهم. وكانت قد وردت معلومات عن عدة حالات صرف طالت بعض الموظفين الذين عبروا على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنهم المصور مصطفى البابا الذي نقلت وسائل الإعلام قضيته. فقد تمّ طرده بسبب بوست نشره على فايسبوك ورفض حذفه. ويرى موظفون تكلموا إلى المفكرة أن حالات طرد سابقة حصلت ولم يُعرف ماهية أسبابها عدا عن أن الإدارة لم توضح الأسباب، لكن ما ورد من أحاديث في كواليس مكان العمل أن الطرد جاء بسبب التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي بعدما تحركت “كومبينات بيت الوسط”.
وآخر التصريحات العلنية النادرة جاءت على صفحة إحدى مذيعات برنامج “عالم الصباح” غيدا مجذوب، وهي من المذيعات التي دخلت التلفزيون منذ انطلاقته في العام 1993. فبعد قرار الإدارة وقف كافة البرامج والاكتفاء بعرض برامج سابقة، عبرت مجذوب على صفحتها على فايسبوك بتاريخ 15 آب 2019 قائلة: “رضخنا من دون ضمان وتأمين، وما انحلّت الأزمة، سكتنا عالنص معاش لفترة حتّى تلاقوا حلّ جديد، بس ضلّت تكبر الأزمة، أضربنا، تجاهلتونا، وبعدين صرفتونا لأجل غير مسمّى، طيب من الآخر، بدنا حقوقنا!!“.
الأزمة تعود لسنوات قبل العام 2015
يتضح من شهادة بعض الموظفين الذين تواصلت معهم “المفكرة” أن بعض ملامح الأزمة ظهرت بُعيد الانتخابات النيابية عام 2009. حينها كان يتوقع الموظفون تطور العمل بعد نجاح الحريري في الانتخابات النيابية تبعا لارتفاع التمويل السياسي الذي تقوم عليه مؤسسات المستقبل، لكن على العكس، بقي العمل على حاله دون تطورات تُذكر. بل حصلت لاحقاً بعض التراجعات على صعيد التغطيات الدولية والعربية، وتحول التعاون مع مراسلي الجهاز الإخباري من العالم العربي إلى جزئي. وفي العام 2012، تم دمج المحطتين الزرقاء المخصصة للبرامج والحمراء المخصصة للأخبار. وجراء هذا الدمج تم التخلي عن بعض البرامج وصرف عدد من الموظفين بسبب تقليص العمل مع إعطائهم تعويضات وصفت بالعادلة[6]. الأزمة المالية لم تمس موظفي المستقبل، التلفزيون والصحيفة، بالمباشر إلا في العام 2015، ويتزامن ذلك مع وفاة الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، فتعكس روايات بعض الموظفين أن المال السياسي تراجع حتى توقف نهائياً عند تعيين محمد بن سلمان ولياً للعهد في المملكة العربية السعودية، وانعكس ذلك على المستحقات المادية للموظفين فبدأت رواتبهم بالانقطاع، حتى باتوا يتقاضون راتباً أو نصف راتب كل 50 يوماً وأحياناً كل ثلاثة أشهر.
كلما طالت الأزمة أصبح الحصول على تعويضات الصرف أصعب
في البداية فإن عمليات الصرف كانت تحصل ضمن تسويات عادلة، ففي العام 2012 بعد عملية دمج المحطتين الزرقاء والحمراء، حصلت عملية صرف لجزء من الموظفين، هؤلاء تقاضوا جميع مستحقاتهم مع تعويضات صرف ونهاية خدمة، بحسب موظفة سابقة.
وتغيرت عمليات الصرف في المرحلة الثانية بعد العام 2015 حيث بات الحصول على التعويضات أمرا تعجيزيا، ما دفع العديد من الموظفين المصروفين من التلفزيون إلى الاحتجاج وتشكيل لجنة متابعة. في بداية العام 2017، تم طرد نحو 150 موظفاً بشكل تعسفي وفي وقت لاحق طُرد نحو 50 آخرين، هؤلاء وقعوا على عقود بالتراضي تضمن لهم الحصول على تعويضات مالية بقيمة 16 شهراً بدل الصرف التعسفي، بالإضافة إلى رواتبهم المتأخرة التي زادت آنذاك عن 12 شهراً، اقتطعت منها الإدارة ضريبة تصاعدية تعدت ما قيمته أربعة رواتب، على أن يتم الدفع على أربع دفعات قبل نهاية العام 2017. لكن إدارة التلفزيون تخلفت عن تنفيذها. فانتهى عام 2018 من دون أن يتقاضى المصروفون أي دفعة[7]. يتحدث محمد عقيل عن حراك المصروفين، وهو الذي عمل في التلفزيون منذ تأسيسه عام 1993 بين قسم إدارة العمليات وإعداد البرامج السياسية، حتى صرفه ضمن عملية الصرف التي طالت 150 موظفا في عام 2017. يقول عقيل، “كانت العقود الرضائية التي وقعنا عليها تتضمن شروطاً بعدم تقديم شكاوى قضائية أم لدى وزارة العمل، أو إعطاء معلومات إلى الإعلام”. ويشرح، “انتهى العام 2017 من دون أن يحصل المصروفين على التعويضات، وكان قد سقط حقهم باللجوء إلى مجلس العمل التحكيمي لرفع دعوى صرف تعسفي”. يُضيف، “كان اللجوء إلى محكمة التنفيذ لإرغام الإدارة تنفيذ العقد يستوجب دفع تكاليف محامين ورسوم قضائية لم يكن بوسعهم تحمل أعبائها، عدا عن أن الإجراءات القضائية بطيئة قد يتطلب منهم الانتظار لسنتين على الأقل قبل صدور حكم”. وبعدما استنفذت منهم كافة الوسائل القانونية، لجأ المصروفون إلى تشكيل لجنة، غير رسمية، لمتابعة القضية، ونفذوا الاعتصامات المتكررة أمام مبنى التلفزيون في سبيرز-بيروت، وغطت الوسائل الإعلامية هذا الحراك. يروي عقيل بأن “اللجنة اجتمعت لأكثر من مرة مع الإدارة التي اعتمدت أسلوب شراء الوقت والمماطلة، وبعد تصاعد الضغط الذي مارسه المصروفون على الإدارة إعلامياً، امتنعت عن استقبالنا نهائياً”. وانتهى الحراك بتسوية فرضتها إدارة التلفزيون بأن تدفع المستحقات بالتقسيط، تم انهاؤها في أواخر العام 2018.
وأما اليوم، فإن حصلت عملية صرف جديدة، يتساءل الموظفين من أين ستأتي الأموال لدفع مستحقاتهم المالية، خاصة وأن العقار الذي يتواجد عليه التلفزيون في منطقة سبيرز الحمرا مرهون للبنك، بحسب مصادر من التلفزيون، عدا عن أن الشركة هي من نوع المساهمة، إذ لا يوجد ما يُلزم المساهمين فيها دفع التعويضات من أموالهم الخاصة. فيتخوف الموظفون من احتمال صرفهم، وتكرار قضية زملائهم الذين خرجوا بوعود لم تتحقق، ما استدعى إجراء تسويات غير عادلة تحت ضغط الحاجة واستنزاف الطاقة.
هل تتكرر تجربة موظفي الجريدة مع موظفي التلفزيون؟
وكانت إدارة جريدة المستقبل قد قدمت وعوداً أيضاً بدفع المستحقات انتهت بتسوية غير عادلة اضطروا على القبول بها. ففي الجريدة، وبسبب الأزمة المالية بدأ الموظفون يواجهون انقطاعا بالرواتب تراكمت حتى وصلت لنحو 15 شهر غير مدفوع، وحصلت أول عملية صرف لنحو 70 موظفاً في العام 2016. حينها دفعت إدارة الجريدة للمصروفين 12 شهر كاملاً كنوع من المكافأة بالإضافة إلى تعويض عن الصرف وشهر كامل عن كل سنة عمل والرواتب المتأخرة. أما في المرحلة الثانية من الصرف بتاريخ 27 أيلول 2017، تم صرف عشرات الموظفين دون أي تعويضات وقيل لهم آنذاك أن التعويضات تدفع لهم “فور تحسن أوضاع الشركة” من دون تحديد تاريخ محدد لدفع الحقوق. وهؤلاء لم تشملهم أي تسوية إلّا عند إغلاق الصحيفة في شباط 2019 وصرف ما يزيد عن مائة موظف، والإبقاء على أقل من عشرة موظفين تم تشكيلهم إلى الموقع الالكتروني.
عندها تم شمل الدفعتين الأخيرتين معاً، وبداية احتسبت الإدارة تعويضات الموظفين، الثابتين والمتعاقدين، بالرواتب المكسورة (نحو 17 شهراً) مع 4 أشهر بدل إنذار وتعويضات الصرف 12 شهراً بالإضافة إلى بدل الإجازات السنوية والمخصصات المدرسية، فوقع الموظفون على أوراق تفيد بأن المستحقات المذكورة ستدفع خلال ثلاثة أشهر، وانتهت المهلة في شهر أيار الماضي من دون تنفيذ ما ذكر. عندها علت صرخة الموظفين المصروفين الذين تقدموا بشكاوى أمام وزارة العمل، وقاموا بإنشاء لجنة رسمية لمتابعة حقوق مصروفي الصحيفة. وتبين أن الرئيس الحريري كلف أشخاصا لمتابعة دفع التعويضات، وهؤلاء كذبوا قرار الإدارة وعملوا على صياغة تسوية جديدة، بحسب ما ينقل مصدر مطلع. وفي إثر ذلك، دخل مصروفو الجريدة بمحنة التسوية التي دخل على خطها وزير العمل كميل أبو سليمان ليتولى الوساطة بين المصروفين والشركة. طيلة فترة مناقشة التسوية، استخدم مصروفو الجريدة كل ما بوسعهم للحصول على الدعم. لجأوا إلى نقابة محرري الصحافة والاتحاد العمالي العام، وأنشأوا صفحة إلكترونية على فايسبوك بعنوان “صفحة مصروفي جريدة المستقبل”. وبحسب المصدر، فإن اللجنة عملت بجهد مع وزير العمل الذي وضع كامل طاقته لمساعدتنا، إلى حين دخول أشخاص إليها (اللجنة) يتماهون بمواقفهم مع مواقف أتباع الحريري، فقدموا عرضاً يقضي بتقسيم الموظفين إلى ثلاث فئات: الموظفون المثبتون، والمتقاعدون (الموظفون من تجاوزوا 64 عاماً)، أما الفئة الثالثة فهم المتعاقدون وهؤلاء امتنعت الجريدة عن إدراجهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، علماً أنها تعاملت معهم كموظفين، أي أنهم متفرغون للعمل في الجريدة بدوام يومي[8].
وجاءت التسوية لتعطي الثابتين رواتبهم المتأخرة بالإضافة إلى تعويضات صرف، شهر عن كل سنة، سقفها 12 شهر. والمتعاقدين والمتقاعدين 3 شهور تعويض فقط بالإضافة إلى الرواتب المتأخرة، على أن يتم دفع المستحقات تقسيطاً على 20 شهراً. وبقيت هذه التسوية محل استغراب بسبب أن أعداد الفئتين الأخيرتين لم تكن تتعدى عشرين موظفاً، في مقابل أكثر من ثمانين ثابتين. حينها وضع هذا الأمر بصورة استهداف لشخصين، ومن بينهم رئيس مجلس الإدارة هاني حمود (متعاقد) والمدير العام سعد العلايلي (متقاعد)، والإثنين اتهما بالتمرد على قرارات الحريري بحسب ما ورد في الصحافة من معلومات[9].
هذا التقسيم، أجبر الموظفون على القبول بتسوية غير عادلة تحت الضغط المعنوي، خاصة وأن المفاوضات أنهكت المصروفين، فقبل الموظفون الثابتون منهم فيها ما شكل ضغطا على المتعاقدين، فلم يعد بوسعهم سوى القبول.
[2] قسم الأخبار إلى المواجهة الشاملة: الأزمة تتفاقم في “المستقبل”، زكية الديراني، جريدة الأخبار، ميديا وتلفزيون، 19 حزيران 2019، https://bit.ly/30po2IX.
[3] الاحتجاجات مسرحية والموظفون كبش محرقة، ماذا فعلت يا تلفزيون المستقبل؟، زينب حاوي، جريدة الأخبار، 21 حزيران 2019، https://bit.ly/2MxE67S.
[5] «انتفاضة» في تلفزيون المستقبل على تسويف الحريري، غسان سعود، جريدة الأخبار، الأربعاء 6 تموز 2016، https://bit.ly/2H9gUbO.
[6] تلفزيون «المستقبل»: بدأ العدّ العكسي، باسم الحكيم، جريدة الأخبار، الأربعاء 7 آذار 2012، https://bit.ly/2MiHKTe.
[7] أزمة تلفزيون المستقبل: المصروفون يعتصمون والإدارة تماطل، موقع المدن، 10 كانون الثاني 2018، https://bit.ly/2Zm0zef.
[8] عرض “المستقبل” لموظفيها: تخلوا عن حقوقكم، جنى الدهيبي، موقع المدن، 11 نيسان 2019، https://bit.ly/2L0jkL4 .
“