قضاة فقراء؟ عندما يعتلي قلق المعيشة أقواس المحاكم

،
2023-10-16    |   

قضاة فقراء؟ عندما يعتلي قلق المعيشة أقواس المحاكم

تم تعديل هذا النص بشكل طفيف ليتناسب مع غايات نشره ضمن الأوراق البحثية بعنوان “القضاء اللبناني في الأزمة (2019-؟)”.

هل أصبح قضاة وقاضيات لبنان فقراء؟ نودّ في الورقة البحثية الأولى من هذا الكتيّب بعنوان “القضاء اللبناني في الأزمة (2019- ؟)”[1] ، أن نوثّق ما يمرّ به مئات القضاة منذ بداية الانهيار المالي، على صعيد حياتهم اليومية الخاصة المادية (ونتناول الأبعاد الأخرى في الأوراق اللاحقة)، عبر الاستماع إليهم من خلال مقابلات علميّة أجريناها معهم.

طبعًا، إنّ لتدهور [2] [3] [4] أوضاع القاضيات المعيشية الذي نصفه هنا (أصبحت رواتبهنّ توازي بضع عشرات الدولارات، إضافة إلى مساعدات متقطّعة حسّنت مدخولهنّ قليلًا مؤخرًا) ارتدادات كبيرة على عمل القضاء والمحاكم: فاضطراب “الخاص” لدى القضاة ينتج لا محالة اضطراب “العام” على صعيد نظام العدالة، يضاف إلى سلسلة المشاكل التي يعاني منها القضاء اللبناني منذ عقود. ولا شكّ أنّ لهذا التطوّر نتائج قضائية وسياسية مهمّة مستقبلًا، سوف نتناول بعضها في الأوراق المقبلة: كيف تتعايش سلطة أساسية كالقضاء مع أوضاع مادية ومعيشية صعبة يمرّ بها ممارسو هذه السلطة؟ وما أثر هذه الأوضاع الرديئة على مستقبل مشروع وممارسات العدالة والدولة في لبنان؟ قد يستهزئ البعض بهذه الأسئلة، معتبرًا أنّه قد يكون مفيدًا أن تتشارك القاضيات أوضاع الناس المتواضعين الذين يحكمون عليهم كلّ يوم، أو مشيرًا إلى مسؤولية القضاة في وضع قطاع العدالة المزري، أو إلى امتيازاتهم العديدة سابقًا. إلّا أنّه لا بدّ من إلقاء نظرة أكثر نضجًا وأقل ضغينة على هذه الوقائع المقلقة، والتذكير بأنّ معظم القضاة لم يكونوا منخرطين في دوّامة الفساد والتواطؤ والفحش التي ميّزت بعض زملائهم ما بعد 1990، وأنّ ما يحصل أمامنا قد يكون له تداعيات خطيرة على مشروع الدولة مستقبلًا، على هزالته اليوم.

ثلاث ملاحظات سريعة بدايةً. أوّلًا، إنّ وضع القاضيات الصعب هو وضع العديد من موظّفي الإدارة العامّة الذين لا نتناولهم هنا. ثانيًا، قد لا تظهر علنًا اليوم علامات الفقر على القضاة، إذ أنّهم ما زالوا يتمتعون بوسائل حياة كانوا قد امتلكوها قبل الأزمة بفضل وضعهم المادي المريح آنذاك، والتسهيلات والامتيازات التي كانوا يتمتعون بها. ثالثًا، هناك فوارق ولا مساواة مادية كبيرة بين القضاة: بعضها مرتبط بالثروة الشخصية العائلية (أهل، زوج مقتدر…)، والبعض الآخر متعلّق بالوضع العائلي (أولاد، أهل مسنّون، عزوبية)، وبعضها يتعلّق بفساد قديم لأقلّية من القضاة تميّزوا منذ عقود بنمط حياة فاحش لا تبرّره رواتبهم ولا أوضاعهم العائلية، وبقربهم من زعماء سياسيين طلبوا خدمات قضائية مقابل حماية يؤمّنوها لمختلف أشكال الفساد القضائي: لا أثر للأزمة على قضاة النظام. أمّا ما خلا هؤلاء، فيبدو عالم معظم قضاة لبنان اليوم مظلمًا للغاية.

قضاة جائعون: العدالة مهمّة، لكن كيف أطعم أولادي؟

لم تعد أزمة تدهور قيمة رواتب القاضيات أزمة حفاظ على مستوى معيشي جيّد، إنّما أصبح الوضع المادي همًّا وجوديًا يتمثل في شبح الجوع أو سوء التغذية الذي طرق أبواب بعض القضاة (كما طرق أبواب العديد من المقيمين في لبنان)، لا سيّما القضاة المعيلين لعائلات كبيرة من دون أي مدخول إضافي يؤمّنه الزوج أو الأهل، الذين ربّما كانوا يعوّلون على مدخول القاضي نفسه. يشتكي هؤلاء القضاة أمامنا من صعوبة فائقة في تأمين المأكل والمشرب المناسب لجميع أفراد العائلة، خصوصًا في الفترة الممتدّة من العام 2020 حتى نهاية عام 2022 عند ابتكار آليّات مؤقتة ومحدودة لتحسين مدخول القضاة، وهي آليّات غير مستقرّة، ما يهدّد بعودة حقبة الجوع بالنسبة لهذه الفئة الهشّة من القضاة. وبالفعل، يصف لنا بعضهم ما عاشوه في السنوات الأخيرة من أوضاع مأساوية وصلت إلى حدّ الجوع، لم يشعروا بها من قبل، إذ لم يعد راتب القاضية يكفي لشراء “الخبز والبيض”.[1]

“هلق شايفني منيح، بس أنا كنت نازل 10 كيلو، وقّفت الترويقة والعشا على سنة ونصف لحتى أولادي ياكلوا، بتمنى تصدقوني”.[1]


“ضرب الجوع معظم القضاة. ماذا تطلبون منّا؟ أن نصبح زعران وأن نتسلّط على الناس ونأكل ونشرب بدون أن ندفع؟”[1]

عندما تعاظم انهيار الليرة اللبنانية مترافقًا مع غلاء الأسعار، لا سيّما في 2022، لم يتردّد بعض القضاة في الاستغاثة ضمن المساحة المهنية الأبرز التي يتشاركونها، وهي مجموعة الواتساب الخاصة بهم: “واصلين للعضم. قاضي بيقول عالغروب ما معي طعمي اولادي، اعملوا شي!”.[4] وسمعنا مرارًا خلال مقابلاتنا وعملنا الميداني قصة ذلك القاضي الشاب الذي كان يعطي أكثرية معاشه لأمه لمصاريف المنزل، علمًا أنّه مسؤول أيضًا عن أخته الصغيرة وهي تلميذة مدرسة: “قال لي: ماذا أفعل الآن وكنت أعطي سابقًا 1000 دولار بالشهر لأمي وآخذ مئة أو مئتي دولار، الآن ماذا أعطيها وكيف لنا أن نعيش؟”[5]. ومع غياب أي أفق للحل في عامي 2021-2022، وصل الأمر ببعض القضاة إلى بيع أغراض شخصية لتأمين المأكل والمشرب، وقد رأينا بأعيننا مرارة القاضي الذي يخبرنا عن بيع أغراض ذات قيمة عاطفية كبيرة للعائلة والأولاد:

“بعت أغراض بيتي، وكان بعد في أشياء عارضها للبيع ما انباعت. هيدا البيانو تبع أولادي (يرينا الصورة على هاتفه)، بعته من سنة بـ 1400 دولار. ذهب أولادي بعته”.[6]

كما تعدّدت في أحاديث القضاة قصص بيع الذهب (مجوهرات شخصية أو أغراض قديمة تمّ توارثها من جيل إلى جيل) بين القضاة الأكثر هشاشة للوصول إلى آخر الشهر: إنّها حكايات الزمن “المزري” و”الذلّ”، زمن القضاء الأسود حيث لا استقلالية ولا راحة بال.

ما بعد الطعام: حياة قضائية تأكلها الهموم

إذا كان همّ التغذية لا يعني سوى الفئة الصغيرة الأكثر هشاشة من القضاة، فإنّ الهموم المعيشية الأخرى احتلّت يوميات وأذهان شريحة أوسع منهم، لدرجة أنّ حكايات “التعتير” استحوذت على مساحات الحديث والنقاش بينهم، لتطيح بمعظم المواضيع الأخرى الشخصية والمهنية والقانونية، حتى أصبح الحديث عن غير الوضع المادي ترفًا. يذكر أمامنا أحد القضاة أنه بات يتجنّب صاحب مولّد الكهرباء في الحيّ كي لا يطالبه بدفع اشتراكه: كيف يحكم هذا القاضي الهارب (من الدفع) على الهاربين من القانون، لا سيّما المتسلّطين والنافذين منهم؟ ومتى أضفنا إلى ذلك فواتير آخر الشهر الأخرى التي يفوق مجموع قيمتها أصلًا قيمة الراتب، يصف لنا القضاة أيامهم على أنّها أصبحت تدور حول المحاولات المتتالية للدفع، أو المفاوضات المستمرّة لتأجيله، أو الخضوع لمرارة طلب المساعدة للتسديد، أو حتى لتفاديه: يسيطر عليهم شعور بالعجز المدقع، يحملونه في بيوتهم، ولكن أيضًا في مكاتبهم وعلى أقواس محاكمهم متى ذهبوا إليها. ولا بدّ هنا من تسليط الضوء على لا مساواة أخرى تخرق الجسم القضائي، وتعني فئة القضاة الشباب في المعهد أو المتخرّجين الجدد، إذ أنّهم من الأكثر هشاشة اليوم، فيما هم مستقبل القضاء في لبنان، وقد يستحقّون ربما بحثاً مستقلًّا نظرًا لصعوبة أوضاعهم، لا سيّما الذين ليس لديهم أهل يدعمونهم.

“قاضي (شاب) عايش هو وأخته، معاشه مليون وستمئة ألف، حاطت أمبير واحد بالبيت (اشتراك كهرباء)، زملاؤه اللي قادرين كانوا يساعدوه. كل القضاة المتدرّجين عايشين عحساب أهلهم”. [7]

تخلّى قضاة عن “رفاهية” تجديد ثيابهم، حيث أكّد بعضهم أنّهم لم يشتروا قطعة ثياب واحدة منذ سنوات. ولكن إذا من الممكن للقاضي التغاضي عن هذه الحاجات، كيف له أن يطلب من أولاده، لا سيّما الذين هم في سنّ تغيّر أجسادهم بوتيرة عالية، أن يرتدوا ثيابًا صغرت عليهم؟[8] يحتاج هؤلاء إلى ميزانية شراء ثياب جديدة مرّات في السنة ما يتخطّى قدرتهم، حتى بعد أن حصلوا على بعض المساعدات ابتداء من نهاية 2022. لا بل أصبح قِدم الملابس موضوع مقارنة ما بين القضاة في مجالسهم الخاصّة، في مباراة حزينة لا تخلو من التهكّم المرير، ما يشير مرة أخرى إلى تحوّل مساحاتهم الخاصّة والمهنية وعاداتهم بفعل قساوة الأزمة وأثرها على حياتهم.

أما التنقّل فقد أصبح أيضًا مصدر قلق لمعظم القاضيات اللواتي قابلناهنّ، حيث لم يعد راتبهنّ يكفيهنّ  للوصول إلى العمل. من هنا نشأ النقاش بين القضاة أثناء توقّفهم عن العمل عام 2022، حول أفضل تسمية لهذا التوقّف: إذ فضّل الجميع تجنّب كلمة “إضراب” لأنّ “القضاة لا يضربون”[9]. إلّا أنّ البعض انتقد حتى تسمية “اعتكاف” إذ رأوا أنّه كان من الأجدى أن يسمّى حراكهم “استحالة الوصول إلى العمل”، لوصف وضعهم بدقة. فبعد أن منع تسكير الطرقات وكورونا العديد من القاضيات من الوصول إلى محاكمهنّ عامي 2019-2020، وكذلك انقطاع الفيول عام 2021، أصبح سعره هو العائق عام 2022 حسب قولهنّ، نظرًا لضآلة مدخولهنّ.

“مرافقي يتولّى أمور المكتب مثل القهوة والمياه والبنزين، أوّل مرة انصدمت لمّا طلب منّي مصاري بأول الشهر تزيد عن راتبي بمليون ونصف”.[10]

هنا أيضًا، تتفاوت حدّة مشكلة التنقّل بين قاضية وأخرى حسب المسافة بين مكان سكنها وعملها: محظوظ القاضي الذي يعيش قرب محكمته. الوقود ليست المسألة الوحيدة، إذ أنّ للسيارة مصاريف أصبحت خارج متناول العديد من القضاة. وقد أدّى هذا الوضع طبعًا إلى تقليص عدد أيام حضور القضاة في المحاكم، ما ساهم بالتالي في المزيد من الإبطاء للعمل القضائي في العامين الأخيرين، حتى خارج أيام الاعتكاف.

“أنا باخذ أولادي عالمدرسة كل يوم، ما قادر روح، أنا من القضاة اللي كانوا ينزلوا ستة أيام عالمحكمة، سيارتي اليوم ما عم استعملها، لأن ما عم بعملّها صيانة، بيطلع مبلغ طويل عريض. اليوم الوصول للمحكمة صارت شغلة معقّدة وأنا منّي من القضاة اللي بتتغنّج أو بتتكسلن”. [11]

وأبعد من صعوبة الوصول، لمسألة التنقّل عواقب جدّية على حياة القضاة، فتصبح القشّة التي تقصم ظهر البعير وتدفع بعض القاضيات إلى الخروج من مستنقع العدالة اللبنانية:

“في قاضية زميلة، بتجنّن، حطّوها بالنبطية، ما عادت قادرة تروح لشغلها، هاجرت عكندا”.[12]

ونظرًا إلى أهمية هذا الأمر، كان من أولويّات لجنة المتابعة القضائية (التي شكّلها القضاة عام 2022 للبحث عن حلول لتدهور الوضع المادي) تأمين الوقود للقضاة. اجتمعت اللجنة مع شركات النفط وتبرّعت إحداها بمبلغ 700 ألف ليرة لأربع مرّات لكلّ قاضٍ[13]، علمًا أنّ القضاة أعطونا أرقامًا مختلفة حول طبيعة وحجم مساعدة شركات الوقود، ما يدلّ على ضبابية هذه الحلول المبعثرة وغير الرسمية. وقد أثار هذا الأمر نقاشًا بين القضاة حول ما إذا كان مبلغ “زهيد” كهذا يستحق فعلًا أن “يتسوّل” القضاة لدى الشركات الخاصّة من أجله. واللافت أنّ جواب الأكثرية أتى على الشكل الذي لخّصه قاضٍ: “نعم، نحن جائعون ولا يمكننا التحمّل ومستعدّون أن نأخذ أي شيء تعطينا إياه أي جهة”.[14]

هاجس القضاة الأعظم: المستشفى والمدرسة، قبل المحكمة؟

تأتي مشكلة التغطية الصحّية في مقدّمة أجوبة القضاة كلّما سألناهم عن وضعهم الحالي، واصفين إياها بـ “المشكلة الأكبر”. خسر القضاة أحد “امتيازاتهم” التي كانت موضع شهية مهن عديدة أخرى، وهي التغطية الصحّية التي كان يؤمّنها صندوق تعاضدهم بشكل شبه كامل منذ نشأته في الثمانينيات وتفعيله في تسعينيات القرن الماضي. ولطالما كانت هذه التغطية الصحّية والتربوية، بالإضافة إلى تسهيلات قروض السكن وغيرها من التقديمات، مصدر رخائهم وراحة بالهم طوال العقدين الأخيرين، حتى قبل تحسين رواتبهم عام 2011. اضمحلّت التغطية اليوم، ومعها الطمأنينة التي لم تعد سوى ذكرى بعيدة. وحتى عندما وُضِعت آليات لتحسين المدخول منذ نهاية 2022، بقي وضع التغطية الصحّية والتعليمية سيّئًا جدًا. علمًا أنّ تغطية الصندوق لم تتوقف اليوم بشكل كامل، إنّما لم يعد ممكنًا التعويل عليها بفعل ضعفها وتبدّلاتها وتأخّرها: إذ بعدما انعدمت التغطية الصحّية بشكل كبير مع تعاظم تدهور الليرة، أصبح الصندوق يقدّم تغطية صحّية بنسبة 50% تقريبًا حين أجرينا المقابلات في ربيع 2023، حسب ما قال لنا قضاة (وهنا أيضًا تختلف المعلومات بين قاضية وأخرى). ويؤكّد القضاة أنّ المساعدات المالية المحدودة التي تلقّوها بعد 2022 لا تسمح بتحمّل كلفة التأمين الصحّي الخاص المكلف، فيما يكرّرون أنّهم “مكشوفون صحّيًا”[15]، ما يعكس شعورًا عارمًا بالهشاشة الاجتماعية: “أولويّاتنا تغيّرت، صرت تخاف تمرض أو أولادك يمرضوا”.[16]

“من فترة رحت على مختبرين، ما قبلوا قال ما عادوا متعاقدين معنا، اتصلت بالصندوق، تبيّن أنّ عدد المختبرات اللي بعدهم متعاقدين معنا قليل كثير. المستشفيات نفس الشي، أنا ساكن بـ …، إذا بروح عمستشفيات (المنطقة) ما بيستقبلوني، ما في إلّا مستشفى …، وبتدفع فرق. اليوم فوتة مستشفى واحدة، كارثية، فوتة واحدة كفيلة توقعك بدين مدى حياتك”.[17]

تتعدّد الحالات التي انتظرت فيها القاضيات على أبواب المستشفيات لتأمين مبلغ بالدولار من مصادر شخصية لتلقّي العلاج. هنا أيضًا، تعود مرارًا تجارب الزملاء في الشهادات، كحالة القاضية التي كسرت يدها، ولم تتمكّن من الذهاب إلى المستشفى إلى أن أمّنت المبلغ من مصدر خاص لكي تخضع لعملية جراحية، أو ذلك القاضي الذي لم يعدْ الصندوق يغطّي تكاليف متطلّبات ابنه وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة:

 “نحن اليوم مجبرون على التسوّل لكي نتمكّن من الذهاب إلى الطبيب أو المستشفى”.[18]

أمّا كلفة التعليم، فهي مصدر قلق إضافي للقضاة الذين لديهم أولاد، بعدما أصبح قسم كبير من أقساط المدارس الخاصة يُطلَب بالدولار الأميركي، فيما معاشات القضاة على حالها. يؤكد القضاة أنّهم لا يمانعون تسجيل أولادهم في مدرسة رسمية شرط تحسين أوضاعها ومستواها، إذ أنّهم يعتبرونها غير مؤهّلة حاليًا، فقد يسقط سقف على أولادهم أو قد لا يأتي الأستاذ.[19]

   “المدارس صارت تطلب دولار، ونحن نشعر أنّ ما تطلبه المدرسة هو معاشنا لعشر سنوات. صرنا نفكّر كيف بدنا نكمّل حياتنا”.[20]

قيل لنا إنّ مجلس القضاء الأعلى قد حاول التفاوض مع المدارس، إنّما من دون جدوى.[21] تُرك كلّ قاضٍ لحال سبيله بالتفاوض مع المدرسة على حدة، إن أراد وكيفما أراد. وتعدّدت هنا وسائل التفاوض حسب وضع كلّ قاضي ومعارفه وقدراته، وحسب سياسة كلّ مدرسة. مثلًا، علمنا أنّ “6-7 قضاة جمّعوا أنفسهم” والتقوا مديرة مدرسة خاصّة معروفة في بيروت. عبّروا لها عن تفهّمهم أن تطلب الإدارة الأقساط بالدولار، حيث يعطي ذلك الأستاذ حقّه ويحافظ على المستوى العلمي ما يعود بالنفع على أولادهم، إلّا أنّهم شرحوا للمدرسة أنّهم غير قادرين على دفع هكذا مبالغ. فكانت النتيجة الحلوة-المرّة أنّه تمّ إعفاء القضاة من جزء الدولار من القسط وذلك للسنتين السابقتين. أمّا في حالة أخرى، فاستعان القاضي بمحامي المدرسة ليتوسّط له من أجل إعفائه من جزء الدولار، وهو مبلغ 480 دولارًا، وهو يخبرنا بحرج عن هذه الوسيلة التي لجأ إليها، والتي قد يعتبرها البعض ملتوية ولا تليق بقاض. ويذكر كيف أنّ المدرسة عادت لاحقًا لتطالبه بالمبلغ بعدما علمت بالآليات الجديدة التي تدعم القضاة (في بداية 2023).

“المدارس ما عم ترحمنا، نازلين طرق بالدولار، هاي آخر فاتورة من كم يوم دفعت 500 دولار، يعني اللي قبضتهن من الآلية بالدولار دفعتهن للمدرسة”.[22]

لم تعامل كلّ المدارس القضاة على هذا النحو المتفهّم: إحدى المدارس الخاصة في بيروت التي تطلب مبلغًا كبيرًا بالدولار، لم تساوم عليه، وإن تسامحت أحيانًا بالمبلغ المطلوب بالليرة اللبنانية. طلبت أيضًا من القاضي أن يدفع ستمئة دولار للسنة التالية لكي تقبل حفظ مقاعد أولاده، لأنّ المدرسة لم تعد تثق في قدرة القضاة على الدفع مستقبلًا، ما أدى به إلى طلب المساعدة من والده: أصبح القضاة في أدنى درجات سلّم الثقة في المجتمع اللبناني، على الأقلّ داخل الطبقة الوسطى التي كانوا يتقدّمونها، وهو دليل آخر على تدهور موقعهم الاجتماعي بالنسبة لسائر المهن في لبنان، حتى القانونية منها كالمحاماة.

وبغضّ النظر عن راحة البال المحدودة التي قد تؤمّنها هذه الحلول المجتزأة لبعض القضاة، حوّلت الأزمة العديد منهم إلى مفاوضي مدارس ومؤسّسات مختلفة أخرى في جميع أنحاء البلاد، ما وضع القاضي في موقع اجتماعي ملتبس وحساس، لا يعرف تمامًا متى يتخطّى حدود المقبول. فهو تعلّم تجنّب هكذا مواقف في معهد الدروس كما من التقاليد القضائية، ولا يدري تمامًا ماذا ينتظر منه الطرف الآخر بعد هكذا خدمة، وما هي شبكات تبادل الخدمات التي قد يكون قد دخلها من دون أن يعلم: لم يتدرّب قضاة لبنان على هذه المواقف التي أصبحت جزءًا أساسيًا من يومياتهم في الأزمة. الحرج القضائي يكبر ويتعاظم كلّ يوم، مع ما يشكّل ذلك من عبء معنوي ساحق على القضاة التعاطي معه كلّ صباح، ما قد يؤدي تدريجيًا إلى تطبيع إضافي مع ممارسات ومواقف لم يكن معظم القضاة يقبلونها سابقًا.

وتشكّل المدرسة أحيانًا مصدر إحراج آخر للقاضيات، إذ يلتقي فيها أولادهنّ بأولاد أشخاص آخرين أصبح مدخولهم أفضل بكثير من مدخول القضاة. ويخبرنا قاض كيف واجهه ابنه مؤخرًا مطالبًا إياه بتأمين ما يتمتع به أصدقاؤه في المدرسة، ويصف حرجه الكبير إذ هو غير قادر على تلبية هذا المطلب، بالرغم من أنّه “ثابر وعمل وشكّل مسارًا مهنيًا مهمًّا لنفسه” كما يقول، لتكون النتيجة أنه غير قادر على شراء ما يريده ابنه في العيد، أو أن يتديّن لتعليم أولاده: “إبني بيقلّي اشتغل شي شغلة طلّع مصاري، بيّه لفلان بيطلّع دولار”.[23]

قاض فقير، قاض قلق، قاضية مهمومة، قاض مرير، قاض غاضب، قاضية “مفاوضة”، قاض مدين، قاض “مستجدٍ” أو “متسول”: كلّ النماذج مرّت أمامنا في بحثنا الميداني عام 2023، وقد تطغى على نموذج القاضي الواثق من نفسه الذي يحكم بين الناس. إنّ لهذه الأوضاع المادية الاستثنائية آثار كبيرة على وضع القضاة المعنوي وقدرتهم على إعطاء الأولوية لعملهم وملفاتهم، وسوف نتناول لاحقًا في بحثنا هذا الثمن المعنوي اليومي الذي يدفعه القضاة والقاضيات، ومن خلالهم كلّ شخص تفرض عليه الظروف دخول محكمة في الأراضي اللبنانية، ليجدها تارة فارغة، وتارة فيها قاضٍ خطفته هموم معيشته.


[1] مقابلة مع قاضٍ، آذار 2023.

[2] المرجع السابق.

[3] المرجع السابق

[4] مقابلة مع قاضية، نيسان 2023.

[5] مقابلة مع قاضٍ، آذار 2023.

[6] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[7] المرجع السابق.

[8] مقابلة مع قاضٍ، آذار 2023.

[9] حجّة بعض القيمين على القضاء، تكرّرت في عدة مقابلات مع القضاة.

[10] مقابلة مع قاضية، شباط 2023.

[11] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[12] المرجع السابق.

[13] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[14] مقابلة مع قاضٍ، آذار 2023.

[15] مقابلة مع قاضية، شباط 2023.

[16] مقابلة مع قاضية، نيسان 2023.

[17] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[18] مقابلة مع قاضٍ، آذار 2023.

[19] المرجع السابق.

[20] مقابلة مع قاضية، نيسان 2023.

[21] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[22] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[23] المرجع السابق.

نشر هذا المقال في العدد 70 من مجلة المفكرة القانونية- لبنان

لقراءة المقال باللّغة الانكليزية

انشر المقال



متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، الحق في الصحة ، الحق في التعليم ، نقل عام ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني