صدر في تاريخ 17/12/2021 قرار عن قاضية الأمور المستعجلة المنتدبة في بيروت كارلا شواح بإلزام بنك بيروت بتحويل مبلغ 100 ألف د.أ من حساب أحد المودعين في لبنان إلى حسابه في دولة الإمارات. القرار معجل التنفيذ الذي فرض على المصرف تنفيذه فورًا تحت طائلة غرامة إكراهية قدرها 3 ملايين ليرة عن كلّ يوم تأخير، يُعدّ قرارًا نموذجيًا لما تضمنّه من دحضٍ لذرائِع ما فتئت تثيرها المصارف وتكريسٍ لعدد من الثوابت التي يُمكن إدراجها تحت خانة حقوق المودعين.
وفي التفاصيل، فإنّ أحد زبائن المصرف وهو من الجنسية الألمانية أودع أموالًا في حساب توفير لدى بنك بيروت، وقد حلّ الأجل الأخير للتجميد في 15/5/2020. عندها، طلب شميدت من المصرف تحويل الأموال إلى حسابه في الإمارات كما دأب على ذلك سابقًا، إلّا أنّ المصرف امتنع عن ذلك رغم مطالباته العديدة والإنذار الذي أرسله شميدت في 29/9/2020 دون أن يلقى أيّ جواب. إزاء ذلك، تقدّم شميدت في تاريخ 18/12/2020 بالدعوى موضوع القرار الراهن، ليصدر القرار بعد سنة من تقديمها.
هذا القرار ليس الأول من نوعه الذي تصدره شواح بغية إلزام مصارف بإجراء تحويلات، حيث أعادت من خلاله تكريس عدد من المبادئ والمفاهيم المتعلّقة بحقوق المودعين والتي سبق وأن كرّستها في قراراتها السابقة على غرار ما أرساه قضاة أمور مستعجلة آخرين مثل رانيا رحمة وأحمد مزهر. وفي حين حاول المصرف التذرّع بحجج جديدة أهمها قانون الدولار الطالبي إضافة إلى الحجج المعتادة، دفع ذلك القاضية شوّاح إلى دحضها أيضا وفق ما نفصّله أدناه.
إعادة التأكيد على ما سبق وكرّسته سابقًا
كما ذكرنا، أعادت القاضية شواح في هذا القرار ما سبق وأن كرّسته سابقًا لدحض حجج المصارف. ومن أبرز هذه الحجج أن ثمة قوة قاهرة تمنع المصارف من تنفيذ الحوالات؛ وقد ردتها القاضية شوّاح بحجة أنّ القوة القاهرة ليست حدثا خارجيا لا يُمكن دفعه أو توقعه، وأنّ الأزمة لم تكن حدثًا مفاجئًا وأنّه كان لزامًا على القطاع المصرفي أن يكون أول المتوقعين لها بخاصة أنّها كانت موضع تقارير ومقالات ودراسات قبل وقوعها.
ومنها أيضا عدم ثبوت النفقات المدلى بها بأنّها شخصية أو ملحّة؛ وقد ردّتها القاضية شواح بقولها أنّه ليس للمصرف التدخل بذلك أو بخصوصيات العملاء وأنّ لا شأن للمصرف بوجهة استعمال هذه الأموال لأنّ حقّ العميل مكرّس بالتحويل بغض النظر عن الغاية منه.
ومنها أيضا عدم تضمين التعاقد بين المصرف والعميل أي موجب بإجراء التحويلات، وقد ردّت شواح على ذلك بأنّ “التحويل المصرفي يُعتبر من العمليات المصرفية الاعتيادية واليومية والبديهية الملازمة لفتح الحساب…، ولا يطلب الاتفاق الخطي عليه لإثبات وجوده واعتباره مشمولًا بالعلاقة التعاقدية…”. وقد أضاف القرار أنّ المصرف لم يدّع عند تعاقده مع المدّعي استثناء عمليات التحويل، وبالتالي لا يُمكنه أن يقرّر ذلك فجأةً أثناء التعاقد، وأنّ هذا التعديل أتى بإرادة انفرادية محضة يكون باطلًا بطلانًا مطلقًا إن وُجد سندًا للمادة 84 من قانون الموجبات والعقود.
ومنها أيضا صحة الإيفاء عبر الشيك أيضًا؛ وقد ردّت شوّاح أنّ الإيفاء عينًا هو الأصل ويعود للمدّعي (المودع) فقط حق اختيار العملية المصرفية التي يريد للإيفاء ولا يعود للمصرف إجباره بأي طريقة أخرى. وقد استند القرار بذكاء إلى عرض المصرف الإيفاء عبر الشيك لدحض مبرراته لعدم التحويل لا سيما الشح بالسيولة، فاعتبر أنّه إذا ما كان بإمكانه حجز مؤونة للشيك فيكون بمقدوره تحويلها. إلى ذلك، كان عرض المصرف أن يكون الشيك مسحوبًا على مصرف لبنان وهو ما لا يُمكّن الزبون من سحبه طالما أنّه ليس لعامّة الناس التعامل مع مصرف لبنان بحسب قانون النقد والتسليف، واعتبرت القاضية شواح في قرارها أنّ ذلك سيُلزم الزبون بوضع الشيك في حساب مصرفي لقيد قيمته وهو ما ترفضه المصارف حاليًا ما ينفي عن الشيك صفة وسيلة الإبراء كونه “سيعيد إدخال المدّعي في دوامة لا تنتهي من القيود على حقه بتحريك أمواله والتصرّف بها”.
وإذ طلب المدعي الاستفادة من اتفاقية بين لبنان وألمانيا حول “تنشيط وحماية الاستثمارات المتبادلة” بين الدولتيْن، ردّت شواح أن لا حاجة للخوض في هذه الاتفاقية طالما أن ما توصلت إليه من تكريس لحقوق المودعين ينطبق عليهم كلهم بمعزل عن جنسيتهم.
رفض التذرّع الاعتباطي بقانون “الدولار الطالبي”
إلى ذلك، تذرّع المصرف بقانون الدولار الطالبي للتأكيد على نيّة المشرّع بتكريس الوضع القائم لجهة التحاويل إلى الخارج وحصرها بالتحويلات لغاية التعليم في الخارج. وعدا عن أن المصرف تذرّع بذلك بقانون يفرض عليها إلزامات بالحدّ الأدنى بهدف إعفاء نفسه من أي إلزامات أخرى، فإنه من اللافت أنه استخدم هذا القانون كحجة للتبرؤ من مسؤولياته في حين أن أغلب المصارف تعمد بشتى الوسائل والحيل للتفلت من مفاعيله. وقد نجحت بذلك مؤخرًا بقرار صادر عن محكمة الاستئنتاف. وقد ردّت القاضية شواح على ذلك معتبرةً أنّ تذرّع المصرف بقانون الدولار الطالبي لا يستقيم، معتبرةً أنّ “إقرار هذا القانون لا يعني إطلاقًا نية المشرع التأكيد على عدم وجود أي موجب على المصارف بالتحويل خارج إطاره، وهو لم يمنع التحويل في أي حالة أخرى ولم يضع قيودًا عليها”.
تحدّ جديد أمام الاستئناف والتمييز
يشكل هذا الحكم تحدّيا يُضاف إلى مجموعة من أحكام القضاء المستعجل للمنظومة المصرفية والطرق المعتمدة منها لمواجهة الخسائر الضخمة التي تكبّدتها بفعل التواطؤ بين مختلف المشاركين فيها. كما يشكّل تحدّيا للدّولة اللبنانية التي ما تزال متقاعسة عن وضع خطة إصلاح مالي وضمنا عن إقرار القوانين الضرورية لإنجاح هذه الخطّة وبخاصة لجهة كيفيّة التعامل مع الودائع وبشكل أعمّ مع المصارف. ويجدر هنا التتويه بأنّه ما كان للسلطات العامة أن تتقاعس في هذا المجال عن أداء وظائفها لو أمكن القضاء أن يؤدي دوره في حماية المودعين في وجه تعسف المصارف والكابيتال كونترول غير النظامي الذي فرضتْه عنوة ومن دون أي مسوغ قانوني.
وتزيد أهمية هذا الحكم في وروده تبعا أو بالتزامن مع أربعة أحداث مؤثرة في هذا المجال:
الأول، صدور قرار عن محكمة الاستئناف في اليوم نفسه بوقف تنفيذ قرار للقاضية شواح بإلزام مصرف بإجراء حوالة لصالح إبنيْ مودعة على أساس قانون الدولار الطالبي. وهو القرار الذي عبّرت المفكرة القانونية عن مخاوفها من أي يكون مدخلا لإجهاض قانون الدولار الطالبي وتجريده من مفاعيله. وعليه، يأتي القرار بمثابة إصرار جديد من قضاة المحاكم الابتدائية على الدفاع عن حقوق المودعين والأهم على التصدي لتعسّف المصارف، وهو إصرار غالبا ما يأخذ طابع مواجهة بين أجيال القضاة أو مواجهة مع المحاكم الأعلى،
الثاني، صدور حكم في فرنسا في تاريخ 19/11/2021 يُلزم مصرف سرادار اللبناني بردّ وديعة بقيمة 2.5 مليون دولار لمواطنة سورية مقيمة في فرنسا، وهو حكم قد يُمهّد لسلسلة من الأحكام في فرنسا ودول أوروبية أخرى تُلزم المصارف بإعادة الودائع،
الثالث، إجهاض اقتراح قانون جديد للكابيتال كونترول هدف وفق المفكرة إلى تشريع الممارسات المصرفية والأهم إلى تحرير المصارف من أي مساءلة قضائية. وقد شكلت إثارة هذا القانون تحديا للقضاء برمته، وفق ما عبر عنه البيان الصادر عن نادي قضاة لبنان في مواجهته،
الرابع، صدور قرار في اليوم نفسه عن محكمة بريطانية في الدعوى التي رفعها بلال خليفة ضد مصرف بلوم بنك. وقد قضى الحكم بالأخذ بإدلاءات المصرف باعتبار أنّه يُعتبر مبرئًا لذمّته إذا ما قام بإصدار شيك مصرفي لمصلحة المودع في لبنان، وأنّ المصرف ليس ملزمًا بإجراء أي تحويل إلى الخارج حيث لا يوجد أيّ التزام تعاقدي بينهما للتحويل. فقد جاء حكم شوّاح بما تضمنه من حيثيات بمثابة ردّ على هذه الإدْلاءات وتأكيد على مثابرة القضاة اللبنانيين أقله في الدرجة الابتدائية على ردّها.
للاطلاع على القرار اضغطوا هنا.