المخاطر الكبرى لدستور “الزمام الأحمر”


2022-07-01    |   

المخاطر الكبرى لدستور “الزمام الأحمر”

تمّ تحيينه بتاريخ 2022-08-11

صدر مشروع الدستور الذي يعرضه رئيس الجمهورية على الاستفتاء في 25 جويلية 2022، بالرائد الرسمي ليوم 30 جوان 2022، قبل أن تتلوه نسخةٌ ثانيّةٌ معدّلة في 8 جويلية، بعنوان “إصلاح أخطاء تسرّبت إلى النصّ”. والملفت للنظر في ديباجة مشروع الدستور (الذي تضمّن 142 فصلا) هو تأكيدها على التاريخ الدستوري التونسي والتذكير حتى بنصوص قديمة لم يسمعْ بها يوما رجال ونساء القانون وضمناً القانون الدستوري في تونس مثل ما أسمتْه دستور “الزمام الأحمر” الصادر وفقها في القرن السابع عشر. والمُلفت أكثر هو أنّ هذه الديباجة أغفلتْ ذكر الدستور الأول بعد الاستقلال (جوان 1959) ودستور 27 جانفي 2014.

إلا أنّ عدم التنصيص صراحةً على هذيْن الدستوريْن في الديباجة لا يعني عدم حضورهما وبشكلٍ واضحٍ ومُلفتٍ للنظر في نصّ المشروع المعروض للاستفتاء. فالمشروع جاء مشكّلًا من فصول دستور عهد الأمان لسنة 1861 ودستور الجمهورية الأولى 1959 و الجمهورية الثانية 2014. وبالرجوع إلى هذا المشروع، يتبيّن أنه أكّد عديد الحقوق والحريات مستنسخًا الباب الثاني من دستور 2014 بصفة تكاد تكون تامّة مضيفاً إليها بعض الحقوق والضمانات التي لم يحتوِِها دستور 2014 مثل “تجريم التمييز على أساس الانتماء” (الفصل 19)، وضمان حرية الفرد (الفصل 26)، وحقوق الأطفال المتخلّى عنهم أو مجهولي النسب (الفصل 52)، وحقوق كبار السن (الفصل 53). إلا أنّه ورغم ذلك، يحمل المشروع عديد المخاطر على الحقوق والحريات وخاصة الفرديّة منها وفق ما نبيّنه أدناه.

الخطر الأول: من دولة مدنيّة إلى دولة تحقّق مقاصد “الإسلام الحنيف”

لقد ميّزت “مدنية الدولة” دستور 2014. وكانت حاضرة في التوطئة والفصل الثاني منه والذي أعلن أن “تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلويّة القانون. لا يجوز تعديل هذا الفصل”، وكذلك في الفصل 49 والذي أكّد على أنّ تقييد الحرّيات يجب أن يكون “لضرورة تقتضيها دولة مدنيّة ديمقراطيّة”. وبقراءة مشروع الدّستور الجديد، نُلاحظ غيابًا تامًّا لمفهوم مدنيّة الدولة وحضور مفاهيم وآلياتٍ من شأنها ضرب هذه المدنيّة.

الطابع الديني الخطير لدستور 2022

رغم حذْف عبارة دين الدّولة من الفصل الأول من الدستور، إلا أنّ الدين يبقى حاضرًا بصورة قد تهدّد الحقوق والحريات. ففي حين أشار الدستور في ديباجته إلى الأبعاد الإنسانية للدين الإسلامي، فإنه عاد ليؤكّد في فصله الخامس على “انتماء تونس للأمة الإسلامية والدولة وحدها تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف والحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية”. وبذلك، تتحوّل الدولة بموجب الدستور الجديد من دولةٍ محايدة شعبها مسلمٌ وهي مدنيّة إلى دولة تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام. وبذلك يصبح العامل الدينيّ وتحديدا الإسلام مكوّنًا ليس فقط من مكوّنات الثقافة بل عنصرًا من عناصر الحياة السياسيّة والقانونيّة للدولة. وأن تعمل الدولة على تحقيق مقاصد الإسلام إنّما يُوجب عليها مراجعة تشريعاتها وتركيبة مؤسساتها بما ينسجم مع مقاصد الإسلام. وبذلك، يكتسب الدين دورًا فاعلًا ومدسترًا بعدما كان مجرّد عنصر توصيفيّ ثقافيّ في دستور 2014 يتوقّف عند حدود الدولة المدنيّة الكفيلة في إيقاف أيّ مشروع دينيّ أو أيّ مسعى لتغليب الاعتبار الدينيّ في تشريعات الدولة.

ومن شأن إقرار الاعتبار الديني على النحو المقترح أن يرتّب انعكاسات هامّة فيما يتعلّق بالتشريعات المستقبليّة والحدود المفروضة عليها وعلى ضمانات حمايتها.

تحوّل الدين من مكوّن ثقافي إلى أحد عناصر الحياة السياسيّة والقانونيّة للدولة 

الخطر الثاني: تقليص ضوابط تقييد الحقوق والحريات

رغم استعادة الباب الثاني من دستور 2014 كاملًا في مشروع دستور الرئيس وإضافة بعض العناصر التي لم يحتوِها كتجريم التمييز وحقوق الأشخاص المسنّين وحريّة الفرد كما سبق بيانه، إلا أن مشروع الدستور قد وضع ضوابط على الحقوق والحريات من شأنها الانتقاص منها أو حتى المسّ بجوهرها.

  • في تعدّد الاحالة على القوانين لتنظيم الحريات دون ضوابط عليها

تعدّدت الفصول التي تحيل على  القانون لتنظيم الحقوق والحريات كالحقّ في الحياة وحقّ الملكية والإيقاف والاحتفاظ والانتخاب والاقتراع والتغطيّة الاجتماعيّة. وهو ما من شأنه أن يمنح المشرّع سلطةً وحريّةً مطلقةً في تحديد هذه الحقوق، بخاصّة أنّ هذه الآليّة التي كان قد كرّسها دستور 1 جوان 1959 عادتْ بالوبال على الحقوق والحريات إلى حدود 2010. وليس أدلّ على ذلك من قانون الجمعيات لسنة 1959 وقانون الأحزاب 1988 ومجلّة الصحافة 1975 وغيرها انتهتْ إلى المسّ بحريّات أساسيّة تحت غطاء تنظيمها بقانون.

  • في حذف الإشارة إلى مقتضيات الدولة المدنية الديمقراطية

استعاد مشروع سعيّد في فصله 55 نص الفصل 49 من الدستور الحالي، بعدما حذف منه توصيف الضرورة التي تجيز تقييد الحقوق والحريّات، وهو ما تقتضيه الدولة المدنيّة والديمقراطيّة. وإذ انتقدتْ مكوّنات المجتمع المدني والديمقراطي نسخة 30 جوان لهذه الجهة، حاولتْ النسخة المعدّلة للمشروع تجاوزه باستعادة مفهوم النظام الديمقراطي كضابط لشرعية تقييد الحقوق والحريّات المضمونة دستوريًا. إلا أن ذلك لا يعوّض أبدا مفهوم مدنية الدولة، الذي لم يعد إطارًا لقياس مدى ضرورة القيود المفروضة على الحقوق والحريات. فالنّظام الدّيمقراطي يمكن أن ينظر إليه بصفة شكلية فقط: نظام يقوم على الانتخاب وتعدّد المشاركين فيه. وهذا ما يتأكّد بوجود دول دينية تعلن أنّها ديمقراطيّة سواء في دساتيرها أو في خطابها السياسي. ولعلّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية خير دليل على ذلك. فضمانة المدنية والتي تتنافى مع الدولة العسكرية والدولة الدينية، لم تعُدْ موجودةً في مشروع الدستور. وبذلك يجد الفرد نفسه في مواجهة دولة تدّعي أنّها ديمقراطيّة، ولكنها بالحقيقة مجرّد ديمقراطيّة صوريّة. وما يزيد من هذه المخاوف هو ما ذكرناه أعلاه لجهة التزام الدولة العمل لتحقيق مقاصد “الإسلام الحنيف”.

“النّظام الدّيمقراطي” يمكن أن يُفهم شكليّا بوصفه قائما على الانتخاب والتعدّدية وهو ليس كذلك

  • في الأمن العامّ كمفهوم مطّاط للتقييد من الحرّية

رغم تصحيح الفصل 55 من الدستور من الأخطاء التي “تسرّبت” إليه (ومنها حذف ضابط الآداب العامة الذي يجوز تقييد الحريات على أساسه)، إلا أن الأصل لا يزال قائما. فحذف ضابط الآداب العامة من هذا الفصل، لا يعني أن الحقوق والحريات لن تخضع لهذا القيد مستقبلًا. فمفهوم الأمن العامّ من ناحية (المذكور في الفصل 55) ومقاصد الإسلام الحنيف المذكورة في الفصل 5 من مشروع الدستور كفيلة بأن تحتوي تحت عباءاتها مسألة الآداب العامة والأخلاق الحميدة والتجاهر بفحشٍ وبما ينافي الحياء. وهو ما تمّ صراحةً التنصيص عليه مثلا في الفصل 28 من مشروع الدستور حيث تحمي الدولة حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخلّ بالأمن العامّ.

هذا المفهوم المطاط، الذي يمكن تطويعه حسب الأحوال لتقييد الحقوق والحريات، نراهُ في التطبيق أكثر الضوابط استعمالًا لضرب الحريات: حرية التظاهر، حرية اللباس، ممارسة القناعات الفكرية أو الدينيّة (الإفطار في رمضان) الحريات الجسديّة واختيار الشريك/القرين… ولذا يمكن أن نتصوّر كيف ستكون وضعية الحريات مع نظرة كليانية للحكم وهيمنة الحاكم الواحد على الدولة واحتمائه بمفهوم الأمن العام والدفاع الوطني وبمقاصد غير محددة للدين الحنيف. فكيف ستكون المجلة الجزائية بصدور هذا الدستور؟ كيف نتصوّر مجلة الإجراءات الجزائية ومجلة الأحوال الشخصية والقانون المنظّم للمخدرات؟ والأهمّ كيف سيكون تفسير هذه القوانين في ظلّ إعلاء أهمية كل هذه المصالح من دون ضابط؟

الخطر الثالث: ضعف المؤسسات وتغوّل سلطة الفرد

من أجل ضمان الحقوق والحريات، لا تكتفي الدساتير عادةً في إعلانها إنما تضع مجموعة من الضمانات الهيكلية “المؤسساتية” التي تحميها وتحدّ من تسلّط أو تجاوز المؤسسات لدورها والتغوّل على غيرها. ولذا انبنى دستور 2014 على مبادئ دولة القانون والتوازن بين السلط ودور الهيئات القضائية والهيئات الدستورية المستقلة وعلوية المحكمة الدستورية. وبالنظر إلى مشروع دستور الرئيس، نلاحظ وجود العديد من المخاطر الهيكلية في هذا الخصوص.

  • الرئيس الأعلى والأسمى: 

يمنح مشروع الدستور رئيس الجمهورية صلاحيات كبرى وسطوة على جميع المؤسسات ولا يخضع في ذلك لأيّ لوم أو مساءلة، أي أن لديه حصانة كبرى تجعله في موقعٍ أسمى من كل المؤسسات بل المتحكم فيها إذ لا يراقَب ولا يحاسَب، في حين تُساءل السلطات والهياكل كافة: المجلس النيابي يمكن سحب وكالة أعضائه، ويمكن للرئيس حله، والحكومة مسؤولة أمام الرئيس وتُساءل أمام المجلس النيابي ويمكن للرئيس إقالتها. ولكن الرئيس صاحب الحصانة المطلقة، القائد الأسمى الذي لا يخطئ. وما يزيد من خطورة تحصين الرئيس على هذا الوجه هو منحه صلاحية تقديم مشاريع قوانين للمجلس النيابي واللجوء للاستفتاء فضلا عن تحكّمه في أغلب المؤسسات من خلال ضلوعه في تسمية أعضائها ومكوّناتها واللجوء للمراسيم ذات الطابع التشريعيّ خلال العطلة البرلمانية أو تعذّر نشاط البرلمان. وهي وضعية تذكرنا مباشرة بما كان عليه الوضع تحت حكم دستور 1959 وبخاصّة لجهة الخروقات المتعددة التي شابتْ الحقوق والحريات الدستوريّة في ظلّ هيمنة الرئيس على مؤسسات الدولة. فالطّابع الانفرادي بالسلطة وتركيزها  في يد شخصٍ واحدٍ “وليس في يد مؤسسة” لا يؤدّي إلا للانحراف بها وضرب الحقوق والحريات.

تحصين الرئيس وصلاحياته تذكّرنا مباشرة بما كان عليه الوضع تحت حكم دستور 1959

  • حماية قضائية وهمية: 

رغم تنصيص الفصل 55 من مشروع الرئيس على تعهّد الهيئات القضائية بحماية الحريات إلا أن هذه الضمانة الهامة تفقد قيمتها عندما ينصّ المشروع على أنّ القضاء وظيفة ويزيل عنه ضمانات استقلاليته المنصوص عليها دستوريا محيلًا تنظيمه إلى “القانون”. وإذا استندنا إلى نظرة علاقة الرئيس بالقضاء ومجلسه الأعلى في الفترة الراهنة، بإمكاننا أن نتخيل نوع العلاقة التي سيضعها الرئيس في النصوص القانونية القادمة. هذا عدا عن أنّ الدستور المقترح يجرّد الهيئات القضائية من الوظيفة المناطة بها بموجب دستور 2014 والمتمثلة في حماية الحقوق والحريات.

  • دور المحكمة الدستورية: 

أكّد مشروع الدّستور على محكمة دستورية تراقب مشاريع القوانين وتنظر أيضا في دستورية القوانين عن طريق الدفع بعدم دستوريتها. ولكن بالنظر إلى تركيبتها التي نصّ عليها المشروع، نلاحظ بأنها ستكون هيئةً مكوّنةً فقط من قضاة عدليين وإداريين وماليين، بما يقصي سائر الفئات والمهن الأخرى وبخاصة التيارات الفكرية و السياسية. من شأن هذا التوجّه أن يحوّل المحكمة إلى هيكل قضائيّ تقنيّ لا ينظر في الأهداف والأفكار والبعد السياسي للنصوص الدستورية، وبخاصة في غياب الحوارات أو الأعمال التحضيرية للمشروع المقترح إقراره. وهو غياب من شأنه أن يجعل رئيس الجمهورية الفاهم الأوحد للدستور والمفسر الأسمى له، فضلا عن كونه صانعه و ناشره و صاحبه. 

سيكون الرئيس الفاهم الأوحد للدستور ومفسّره الأسمى، فضلا عن كونه صانعه وناشره

  • في نهاية الهيئات الدستورية المستقلة: 

أخيرا، محا دستور 2022 الهيئات الدستورية السابقة ولم يستبقِ منها إلا هيئة الانتخابات، فضلا عن إحداثه المجلس الأعلى للتربية والتعليم. هذا التوجّه الذي سيحرم الحقوق والحريات من هياكل مستقلة قادرة (بموجب علويتها و دستوريتها) على رقابة واقع الحقوق والحريات والإدانة والتدخل لإعادة الحقوق لأصحابها وصاحباتها، من شأنه أن يضعف الهياكل القائمة على ذلك. بمحصلة هذه القراءة السريعة لمشروع دستور 2022، يتبيّن أنّ المخاوف على الحقوق والحريّات جدّية، بالرغم من استنساخه للباب الثاني من دستور 2014. فقد جاء هذا الاستنساخ منقوصًا من مبادئه الأساسية وفي مقدمتها مدنية الدولة وديمقراطيتها، كما ترافق مع تحميل الدولة مسؤولية تحقيق مقاصد الإسلام في موازاة إضعاف الضمانات الهيكليّة والمؤسساتية التي من شأنها الحدّ من الاستبداد وحماية الحريات وتكريسها. من هنا، أمكن القول أن من شأن الدستور الجديد أن يعرّض الحقوق والحريات لمخاطر تقييد غير مبرّر أو ضياع.

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، الحق في الحياة ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني