لم تكن وظيفة مأمون بديع أبو شقرا (69 عاماً) تكفيه وحدها لإعالة عائلته في ضيعته عماطور الشوفية. عماطور نفسها كانت تمنح اسمها لمرج بسري الذي طالما عرفه الناس بمرج عماطور، نظراً لملكية البلدة الكبيرة في المرج التي تلامس 30%.
ترك مأمون الوظيفة واستدار نحو أرضه التي ورثها وزوجته عن عائلتيهما: ستون ألف متر مربع في مرج بسري و30 ألف متر مربع في الرميلات. تقع الرميلات، وهي أرض زراعية مجللة في الجبل المنحدر من عماطور نحو المرج.
منذ ذلك الحين، أي منذ ثلاثين عاماً، صار مأمون نموذجاً، كما مزارعون آخرون، وإن كانوا قلّة في المنطقة، لما يمكن للزراعة أن تكون عليه: حلقة زراعية إنتاجية متكاملة من الحقل إلى المعمل فالسوق.
لا يمكن للمنحدِر من عماطور على طريق ضيقة ومحفّرة أن يتخيّل وجود مزرعة مزدهرة تغذّي مؤسسة “بلدي” حيث يُصنّع كل الإنتاج الزراعي والحيواني: من الأرض إلى المستهلك. والمؤسسة هي نموذج لما يمكن أن يكون عليه حوض بسري من سهل المرج إلى القرى المحيطة لو كان للمنطقة أماً ترعاها وتسأل عن أهلها.
هناك، في الرميلات، تفهم سر هذا الإكتفاء والتعلّق بالأرض لدى مأمون أبو شقرا، الرجل الآتي من نضال سياسي طويل قضى جزءاً منه في محاربة إسرائيل تحت مظلّة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وتحديداً خلال الإجتياح الإسرائيلي 1982. الرجل المجبول بالنضال لغة وثقافة وتفكيراً وسلوكاً، يمارس المقاومة نفسها في أرضه “اكتفاء المزارع وأهل الريف هو شرط أساسي لتحرّر المواطن من الولاء للزعيم وارتهانه له في كل لبنان”، يقول وهو يربط بين ما وصل إليه واقع القطاعين الزراعي والصناعي في البلاد وحال المواطنين، وخصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة.
في هذه النقطة، يشرح مأمون كيفية إفقار الناس لغايات في نفس الممسكين بالسلطة: ” بدل ما المؤسسات الرسمية تساهم في إعداد عمال زراعيين ومزارعين فنيين قادرين على المساهمة بالإنتاج والإقتصاد الوطني وتسهيل تصريف الإنتاج عبر آليات واضحة، نجدها تعزز معامل لإنتاج البطالة لكي يصبح الناس مرتهنين لأصحاب النفوذ، وليستمروا بالسير وراءهم والتذلّل لهم ليحصلوا على وظيفة أو ينالهم أي إفادة من السلطة التي تحكم البلاد”. هذا النهج، بالنسبة لمأمون، أي “عدم تنمية القطاعات المنتجة، وخصوصاً الصناعة والزراعة، ما هو إلّا إمعان في استغلال الناس ليبقوا لقمة سائغة في يد الطبقة السياسية الحاكمة، ومن هنا ذاعت فكرة أنّ الناس لم تعد تهتم بالزراعة وأنها أدارت الظهر لمرج بسري”.
تترجم مزرعة الرميلات فهم مأمون للحلقة الزراعية المتكاملة من قن الدجاج البلدي إلى صيرة الماعز والأغنام والأبقار إلى كروم التين والعنب والزيتون والتفاح والليمون من برتقال وحامض وكذلك أبو صفير الذي يصنعون من زهره الشراب ومن ثماره المربيات و”الكومبوت” كما بقية الثمار، مروراً بالصنوبر الجوي، والخرما والأفوكا والكيوي والرّمان والعنّاب والمشمش وغيرها من الأشجار المثمرة.
ومن الأشجار إلى حقل الخضار كل حسب مواسمها من البندورة إلى الباذنجان فالخيار والمقتى والجزر واللفت والشمندر والورقيات الخضراء والهندباء والروكا والملفوف والقرنبيط والبروكولي. جعل مأمون من مزرعته في الرميلات حقل تجارب ناجحاً ليقول للسلطات الرسمية بالفعل ما يمكن لمنطقة حوض بسري مع السهل والأراضي الزراعية في القرى أن تنتجه مع تراوح الإرتفاعات ما بين 300 إلى 850 متراً عن سطح البحر “ليس صحيحاً أنّ الأراضي مهملة وأنّ الناس أدارت الظهر لها، هنا يمكن لنا كمزارعين وسكان أن نستفيد من مناخ المنطقة الدافئ والمعتدل لنزرع ثلاثة مواسم على الأقل في العام”. وفي الرميلات نجد أكثر من عشرين نوعاً من الأشجار المثمرة المتجاورة في الجلّ نفسه مع أنّ بعضها لا يعيش مع الآخر في منطقة أخرى من لبنان.
لم يمنع مشروع السد مأمون من توسيع مزرعته نحو مرج بسري فقط بعدما استملكت الدولة 45 ألف متر مربع من أراضي العائلة فيه “بالإستملاك ما منقدر نرفض نبيع، الدولة استملكت تحت شعار المصلحة العامة وهذا ملزم لنا كمواطنين”. ولكن مأمون قلق كونه كمزارع عتيق وخبير يعرف ماذا يعني أن تصبح أرضه مطلّة على بحيرة بسعة 125 مليون متر مكعب من المياه: “ستتأثر المزرعة كما بقية أراضي المنطقة الزراعية بالتغيُّر المناخي الذي ستفرضه البحيرة. فهذا المستنقع إذا ما لم ينفجر من الضغط على طبيعة المنطقة الصخرية الهشة، أو لم يتسبب بزلزال لوقوع السد فوق فالق رئيسي (فالق بسري) وبالقرب من التقاء فالقي روم وبسري على بعد ألف متر من حائط السد، سوف يدمّر الزراعات كلّها بسبب ارتفاع نسبة الرطوبة في المرج نتيجة التبخّر المتوقع. وسيقتل العنب والتين والرمان والأشجار الأخرى التي لا تتحمل هذه الرطوبة عدا عن البرغش والبعوض والأمراض الفطرية التي ستصدر عن البحيرة في حال نجحت في جمع 125 مليون متر مكعب”.
يقول مأمون إنّه كان ومزراعي المنطقة يتأملون من السلطات اللبنانية دعم المؤسسة ومؤسسات أخرى شبيهة وتشجيع الناس على الزراعة والتصنيع الزراعي والحيواني لدعم الإقتصاد المحلي للقرى في حوض بسري ومعها الإقتصاد الوطني: “لأنه بهكذا مشاريع نبني لبنان، وندعم عبر مراكز الإنتاج الزراعي والصناعي الناجحة أبناء الأرض ونحافظ على الناس في الأرياف، ونواجه التغيُّرات الديموغرافية القوية والقاتلة نتيجة النزوح نحو المدن، وتوزيع الإنتاج في المدن إضافة إلى تنمية ومساعدة المزارعين على إنتاج زراعي متنوع وجيد”. وعبر معمله “مؤسسة بلدي” في عماطور ينتج مأمون مروحة واسعة من الصناعات عمادها الألبان والأجبان والشنكليش والقمبريس إلى المخللات والمكدوس والمربيات والكشك وماء الورد وماء الزهر والقصعين ودبس الرمان وحامض الحصرم.
وبعدما يؤكد أنه يأتي بدخل محترم من الزراعة والمعمل “مكّنني ويُمكنني العمل الزراعي من القيام بواجباتي تجاه عائلتي حيث ربيت وعلمت ثلاثة أبناء منه”، يؤكد مأمون أبو شقرا أن “مرج بسري هو المتنفس الحيوي لجزين والشوف ولجزء من الإقليم. كان مزروعاً بالليمون والموز والحمضيات، وهو أهم مركز لإنتاج الفاصوليا العريضة وأحد أهم الموائل في جبل لبنان لتربية الحيوانات والمواشي في أرض دافئة تتوفر فيها المراعي الجيدة والمناسبة خصوصاً في فصل الشتاء حيث يتعذّر تربية المواشي في المرتفعات بسبب الصقيع”.
اليوم لا يسلبون المرج فقط ويدمرون زراعات القرى المحيطة ومناخها، هم أيضاً دفعوا أثماناً بخسة تراوح حول 30 ألف ليرة للمتر المربع “دفعنا نصفهم وأكثر بدل انتقال ملكية وحصر إرث وترتيب أوضاع لتتم عملية البيع للدولة”، وفق مأمون.
في معمل الإنتاج الزراعي والحيواني في عماطور، يقول مأمون وهو يتنقل بين نحو عشر موظفات وموظفين يعملون في تصنيع المنتجات على أنواعها، إنّ الغالبية العظمى من قرى حوض بسري تعتمد على المدخول الزراعي في دعم اقتصادها “يعني معاش الموظف لا يكفي كل احتياجات الأسرة في بلد نضطر فيه إلى تعليم أبنائنا في المدارس الخاصة وندفع فاتورتي ماء وكهرباء وإستشفاء خاص هو من الأغلى في العالم، والدخل الفردي لا يتناسب مع المستوى المعيشي، لذلك، حتى إبن الريف الذي لا يستثمر أرضه لبيع منتوجاته، يدعم اقتصاد أسرته عبر مؤونته من الزيتون وزيت الزيتون الذي يبلغ سعر صفيحته مئة دولار على أقل تعديل، كما عبر زراعة خضاره التي يستهلكها وبنوعية أفضل من السوق وكذلك التفاح والفواكه الأخرى وغيرها. وبالتالي هو يستفيد من كل موسم بما يساوي قيمة راتب على الأقل وهو ما يجعله يصمد أمام الكلفة المرتفعة للعيش في لبنان، كون الوظيفة هي أحد روافد المعيشة ولكنها لا تكفي وحدها لتحمّل كامل المصاريف المترتبة على العائلة”.
ويعتبر مأمون أنّ الوظائف التي يشغلها أبناء قرى حوض بسري اليوم هي نتاج عمل أجدادهم وآبائهم في الزراعة منذ القدم “لولا الزراعة ما في متعلمين وموظفين، طبعاً من دون أن ننسى المنح التعليمية اللي قدّمتها بعض الأحزاب التقدمية أيضاً”.
- نشر هذا المقال في العدد | 62 | كانون الثاني 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
مرج بسري في قلب الإنتفاضة