لا يوحي العنف الآلي الذي باشرت ارتكابه معدات الشركة التركية “أوزالتين” المتعهدة تنفيذ سد بسري، وغيرها من آلات متعهدّي محافر الرمول والصخور الناشطة في المرج، ومعها مناشير الحطب التي تقطع الأخضر واليابس منذ أوائل أيلول 2019، بأيّة نية جدّية في مراعاة الإتفاق الحاصل بين المديرية العامة للآثار ومجلس الإنماء والإعمار ويقضي بمسح المنطقة لتحديد قيمتها الأثرية ومكتشفاتها.
نحن نتحدث هنا عن منطقة تم تحديد وجود نحو 70 نقطة أثرية فيها يتصدّرها موقعان مهمّان جداً أحدهما معبد ذو أعمدة غرانيت قد يكون مرتبطاً بمعبد أشمون الفينيقي في صيدا كونه يقع على رأس نهر أشمون (الأوّلي) فيما نجد معبد صيدا قبل مصب النهر في البحر الصيداوي. والثاني موقع أثري مهم يحتوي على كنيسة مار موسى، وإن كان البعض يعتبر أنها ليست أثرية كما المعبد، لكنّ الثابت أنّ عمرها يناهز 150 سنة. وللكنيسة رمزيتها، غير تلك الدينية، في حراسة المرج انطلاقاً من سيرة مار موسى الحبشي حارس القوافل، بالإضافة إلى دير القديسة صوفيا الواقع بقربها، وما يمكن أن يُعثر عليه في أسفله من معالم ومبانٍ ممعنة في القدم. ونحن هنا لم نوثق بعد، وفق الشهادات التي جمعتها “المفكرة” من أثريين وعلماء آثار وناشطين، مدى صحّة وجود درب للسيد المسيح لدى قدومه إلى المنطقة كونه لا يوجد دليل سوى خريطة غير رسمية بما يكفي لاعتبارها دليلاً، مع بعض الأسهم وفق معلومات المديرية العامة الآثار، وبالتالي فإن درب المسيح تحتاج لمزيد من الإثباتات.
نقطة مار موسى هذه هي النقطة الحمراء على خريطة الأعمال كونها الموقع الأول الذي ستطيح به آليات السدّ في حال استمرار العمل. ونجد اليوم الحفر الذي نهش الجبل قرب الكنيسة لتجهيز المكان لبناء السد الذي سيحتل مكانها مع الدير بعد تثبيت الحائط في السفح خلفها مروراً بالمبنيين.
تشرف على عمليات المسح الأثري، التي بدأت في آب 2019، المديرية العامة للآثار عبر فريقين برئاسة الأثري اللبناني الدكتور وسام خليل (قسم الفنون والآثار في الجامعة اللبنانية) في نقطة مار موسى، والأثرية الفرنسية الأستاذة في جامعة سوربون – دبي أنغريد بيريسيه في موقع أعمدة الغرانيت في قلب مرج بسري. وانطلق العمل ممّا توصلت إليه بعثة أثرية بولندية في 2005 وحددت نحو 70 نقطة أثرية في المرج يتوّجها معبد أعمدة الغرانيت والدير والكنيسة.
تمكّن الناشطون والمواطنون الذين دخلوا مرج بسري بعد نحو 20 يوماً على اندلاع انتفاضة 17 تشرين من لمس حجم الخراب المتمثّل بقطع مئات الأشجار المعمّرة مع بساتين الحمضيّات والأشجار المثمرة في المرج، وكذلك في الحفريات التي توحي بنيّة مباشرة عمل المقالع والمرامل نظراً لغنى المنطقة بالرمول والصخور بحجة استعمال مقدّراتها في بناء السد الركامي. فكيف لعشرات الآليات التي تنهش في المرج أن تراعي الآثار التي تبحث عنها البعثات الأثرية بكل دقّة تصل إلى استعمال ملقط الشعر أحياناً.
ترد مسؤولة منطقة الشوف في المديرية العامة للآثار ميريام زيادة على هذا السؤال بالقول “تقود المديرية عبر بعثتيها اللتين عملتا لمدة ثلاثة أشهر في المرج (من آب 2019 ولغاية منتصف تشرين الأول) عمليات إنقاذية للآثار”. وهذا يعني في المبدأ أنّ لا نية بوقف المشروع في حال توافقت نتائج اكتشافاتها مع ما يقال عن الأهمية الأثرية للمنطقة: “المشروع يُنفّذ تحت عنوان المصلحة العليا للدولة، وبالتالي كل ما يمكننا فعله بعد انتهاء مهمتنا هو نقل ما يمكن نقله من الآثار المكتشفة، وترك ما لا يمكن نقله تحت المياه بعد حمايته”، (أي لتغمره بحيرة السد).
أوقفت المديرية بعثتها في محيط المعبد عند أعمدة الغرانيت بسبب ارتفاع منسوب المياه الجوفية في الحفريات “طلبنا من مجلس الإنماء والإعمار والمتعهد تحويل مجرى النهر عن المعبد لنتمكن من استئناف العمل أوائل الربيع بعدما تجفّ الأرض، حفاظاً على الآثار وسلامة الفريق معاً”، وفق ما تؤكد زيادة لـ”المفكرة”. وأوعزت المديرية لبعثتها الثانية التي تعمل في دير القديسة صوفيا بالقرب من كنيسة مار موسى بعدم استكمال أعمالها مع دخول الثوار إلى المرج، وسحب المتعهد معداته منه، بانتظار جلاء الأمور.
كل هذا يبيّن أنّ الدولة اللبنانية، بعد ثلاثين عاماً على انتهاء الحرب، لم تطلق أعمالاً جدية لتقدير القيمة الأثرية الحقيقية لمرج بسري والحفاظ عليها، باستثناء البعثة البولندية التي أجرت بحثاً غير معمّق ولم يستكمل مع بدء العدوان الإسرائيلي في 2006، وكان بالشراكة مع مجلس الإنماء والإعمار، وعلى الأرجح تحضيراً لمشروع السد.
مرج المعابد والطرق التاريخية
نختار من كتاب الرحّالة البريطاني الكاتب كولين ثوبرون “تلال أدونيس، يوم في رحاب لبنان” الذي كتبه في الستينيّات، وفيه صفحات عن مرج بسري، هذا المقطع مما ورد عن المعبد ذي أعمدة الغرانيت: “لم يكن بالإمكان نصب أعمدة الغرانيت، وهي كبيرة جداً بالنسبة لمدينة صغيرة، سوى من أجل عبادة إله، وقد أخفى نهر جزين القريب قاعدة المعبد. ويبدو أنّ المعبد أنشئ بمجهودٍ ضخم، وأنّ المدينة كانت مدينة تجارية بنيت بالأموال. ومن المحتمل أنها كانت مكرّسة لأشمون الذي ربطه الرومان بإله الشفاء أيسكولبيوس، لأن النهر الذي تقف عليه المدينة كان مقدساً له ويلاقي البحر بالقرب من معبده في صيدا”.
نجد روحية هذا التفسير نفسه عند الأستاذ المتقاعد في كلية الآداب – قسم الفنون والآثار في الجامعة اللبنانية الدكتور فادي إسطفان الذي وثقت “المفكرة” شهادته كأثري وكمالك أرض في مرج بسري، وهو يتحدث بدهشة عما تكتنزه المنطقة التي يقع فيها مرج بسري. وتمتد الآثار، وفق إسطفان من “أنحاء النبي يونس (قرب الناعمة الساحلية) واسمها القديم بورفييون، نسبة إلى صناعة الأرجوان، مروراً ببسري وصولاً إلى أعالي نيحا”. وخلال تدرّبه مع عالم الآثار روجيه صيدح في صيف 1975، كشف إسطفان على “كاتدرائية بيزنطية عظيمة من القرن الثالث الميلادي وآثار أخرى أيضاً”. ومن نيحا التي تعلو المرج، يروي مشاهدته في بيت النائب فريد سرحال عن بعض اللّقى التي عُثر عليها خلال بناء البيت، من قطع أثرية تعود لعصور مختلفة بينها أسماك متحجرة من عصور ما قبل التاريخ حتى العهد البيزنطي وميدالية تذكارية لزواج الملك لويس الخامس عشر الذي كان قصره في صيدا. ومن علاقة بسري الحضارية والجغرافية بصيدا، ينتقل إسطفان إلى معبد أشمون “معبد أخميني يعود للقرن الخامس أو السادس قبل الميلاد، وفيه اكتُشفت كرسي عشتروت وآثار بيزنطية أيضاً”.
ووجد إسطفان بنفسه في نهر بسري “آثاراً صوّانية تعود إلى ما قبل التاريخ، إلى العصر الباليوليتي أي 300 ألف سنة قبل الميلاد (العصر الحجري الحديث)، وفؤوس نيوليتية (8 آلاف سنة قبل الميلاد) وكلكوليتية (4 آلاف سنة قبل الميلاد)”.
نجد في دراسة للدكتور وسام خليل، وهو أثري وأستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية قسم الفنون والآثار تضمّنتها رسالته للدكتوراه وفي سلسلة مقالات كتبها متابعةً للدراسة على الإنترنت، تركيزاً على المعبد الروماني وأعمدة الغرانيت التي تشكّل واجهته، وأيضاً على شبكة الطرقات المتشعّبة التي تمرّ بالمرج وتُفضي إلى مناطق عدّة عبر إقليم الخرّوب، ومنها ما يصل إلى جزين ومنها نحو الباروك، وكلّها تفضي حتماً نحو البقاع. وعندما نقول البقاع فهذا يفتح على الشام من راشيا، وعلى فلسطين عبر سفح جبل حرمون على بحيرة طبريا، ومنها أيضاً نحو سيناء وصولاً إلى قلب مصر. ونقرأ في دراسته عن أهمية هذه الطرقات كونها “تفتح على آفاق حضارية وثقافية وتجارية تدل على زخم النشاط البشري الذي تمتع به المرج وبالتالي قيمته الأثرية”.
يعتبر خليل أنّ الطريق الرومانية من صيدا صعوداً مع نهر الأولي إلى مرج بسري “ما زالت قيد الدرس لتأكيد وجوده من عدمه”، ملاحظاً وجود شبكة طرقات متطوّرة في الفترتين المملوكية والعثمانية تمرّ في المرج، يشهد عليها عدد كبير من الجسور والدروب وعيون الماء الأثرية الموجودة بالعشرات على الطريق نحو جزين ووادي الباروك.
وعن الطرقات نفسها، يستشهد د. إسطفان باكتشاف المختص بمرحلة ما قبل التاريخ الأب اليسوعي تالون (Talon) لطريق تصل الشاطئ البحري بالبقاع عبر بسري مروراً بجبل الباروك من الشمال وبجزين من الجنوب عبر درج روماني معروف بالمعبور الروماني. ويقول إنّ بعض حفريات مديرية الآثار دلّت على طريق أقدم تعود إلى الكنعانيين ثم الفينيقيين.
بسري: بوسترينوس أم بيت القمر؟
في كتابه “معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية” (1972) يضع الصحافي والكاتب أنيس فريحة احتمالات عدة لأصل تسمية بسري. ففي السريانية هو “لحوم وجثث”، أو الحصرم والثمر الفج، وبالفينيقية بيت سارة أي معبد أو هيكل سارة إلهة الحبوب نسبة إلى وجود معبد في المرج، ثم ينتهي بالإسم اليوناني واللاتيني لنهر الأوّلي “بوسترينوس” الذي ربما اشتُق منه اسم بسري، أو نسبة لإله عُرف بغضبه ويدعى بوسيريس Busiris.
من جهته يضيف إسطفان لتفسيرات فريحة تفسيره الخاص: “ربما أتى الإسم من إدغام فينيقي لكلمتي بيت وسهرو أو شهرو، أي بيت أو معبد القمر، كما هي تسمية بشري وهي بيت القمر”. ويتحفّظ عمّا يقال عن أنّ المعبد في بسري قد يكون معبد كليوباترا، مستندين إلى وجود قرية باتر الشوفية فوق بسري، كون هناك 7 كليوباترا مختلفة في التاريخ”.
ومن المعبد ينطلق إسطفان ليروي مشاهداته عن الهيكل الأثري في بسري وأعمدة الغرانيت الأربعة التي تشكل واجهته: “لفتت نظري خمسة أعمدة من الغرانيت الأسود، وقع أحدها في النهر، قرب واجهة معبد، فيما بقي ثلاثة أرباع الأعمدة الأخرى مغروساً في التربة الخصبة”. ويضم شهادته إلى شهادات بعض أهالي المنطقة الذين يتحدثون عن وجود أعمدة إضافية من الغرانيت الزهري، ونوعيته أفضل من الغرانيت الأسود، و”كانت موجودة في محيط المعبد الحالي ويشير وجودها إلى معابد مهمّة وإستثنائية، وهي أعمدة كان يؤتى بها من مصر التي اشتهرت بالغرانيت الزهري”.
ويوثق إسطفان في كتابه “وثائق الرمال والريح” الصادر عن دار “إيريك بونيه” للنشر، أنّه في عمر المراهقة حين كان مسحوراً بهذه الأعمدة كان يستعين بمنظار “لأراها متلألئة كأنها مصنوعة من ذهب”.
وبالعودة إلى الواقع، ينقل إسطفان ما تناهى له من معلومات حول عمل فريق مديرية الآثار مؤخراً في المرج، عن العثور على أعمدة وتيجان أعمدة (Chapiteaux) من النمط الكورنثي (أي أن رأس العامود عبارة عن سلّة فيها أشواك الآكنتس)، ليقول إنّه “في المبدأ يمكن أن تعود الإكتشافات إلى المرحلة اليونانية الهلينية أو الهلنستية أو الرومانية”. وأضاف أنّ ثمة معلومات تشير إلى وجود “ملامح مدينة كاملة، مع أنقاض ثلاثة معابد وليس معبداً واحداً، وهذه كلها موجودات طُمرت بانتظار استئناف الأعمال في الربيع المقبل”.
آثار بسري وفق مديرية الآثار
تؤكد ميريام زيادة، مسؤولة منطقة الشوف في المديرية العامة للآثار أنّ فريق عمل المديرية قدّم منهجية محدّدة ليتمكّن من العمل في موقع بسري ككل. فـ”المنطقة معروفة كممر للطرقات من الساحل عبر الشوف إلى البقاع، وأنّها صلة الوصل بين صيدا الساحل عبرالشوف ومنه إلى البقاع، وبالتأكيد هناك شبكة طرقات حيث كان الناس يفضلون السير في الأودية”.
وبالنسبة للنشاط البشري الغني لبسري، تقول زيادة: “نعرف أنها استعملت في العصور الهلنستية (القرن الثالث قبل الميلاد) والرومانية أيضاً”.
بالإضافة إلى الطرقات، تتحدث زيادة عن منطقة المعبد “حيث تقع أعمدة الغرانيت الأربعة، وهي واجهة المعبد ويتوسّطها المدخل، وهي حكماً مربوطة بمعبد أشمون على الساحل، إذ أننا نعرف أنّ النهر، وكان اسمه بوسترونيس من اليونانية، كان مقدساً، ولكننا لسنا متأكدين أنّه أعطى إسمه لنهر بسري، ولكننا نعرف أن معبد أشمون على الساحل في صيدا، وهو إله الشفاء، له علاقة بالنهر حيث كانت تستعمل مياهه في طقوس الشفاء والتطهير”. وكونهما على النهر نفسه، وفق زيادة، “فمن المحتمل أن يكون هناك علاقة بين المعبدين في بسري وأشمون في صيدا”.
ووضع فريق المديرية خطة عمل مؤلفة من جزئين: “المسح الأثري الذي يعتمد على السير في كل المرج ومسحه لتبيان إذا كان هناك المزيد من الآثار، أو أيّ تجمّع لفخّار أو بناء قديم أو حجر مقصّب، فنقوم بتنظيف الموجودات وتوثيقها والتقدّم بالعمل كتنفيذ إسبار، أي أن نكوّن صورة عن موجودات المرج الأثرية، وهذا على صعيد المرج ككل”. ويتضمّن هذا الجزء العمل أيضاً على دير القديسة صوفيا بالقرب من كنيسة مار موسى حيث بدأ التنظيف كون الموقع كان يُستخدم من قبل الرعيان. ويقوم الفريق، الذي يعمل مع الدكتور وسام خليل وفريق من الجامعة اللبنانية “بالتوثيق وكشف المنطقة من حولها وتنفيذ إسبار لنرى إذا كان هناك آثار أقدم تحتها”. وبالنسبة للكنيسة، طلبت المطرانية المارونية في المنطقة نقلها، بوجود فريق مختص من المديرية، وتم شراء أرض أعلى المرج وتحديداً في مزرعة الضهر بمساحة 8 آلاف متر”. وترجّح زيادة أنْ يكون تحت الكنيسة معبد آخر، لأنّ البناء المقدّس عادة يبقى مقدساً على مرّ العصور، لذا إذا لزم الأمر سنجري إسبارات أثرية في المكان”.
يتركز الجزء الثاني في منطقة أعمدة الغرانيت التي تُعتبر واجهة لمعبد مطمور تحت الأرض، “فقد أنجزنا دراسة جيومورفولوجية، أي كيف تراكمت الطبقات على مر العصور، واكتشفنا أنّ النهر لم يكن في مكانه الحالي، بل زاح نتيجة فيضان فجائي هدم المعبد. وهذا الفيضان حصل قبل أن يصبح وادي بسري سهلاً”. ووفق زيادة، تم “أخذ عينات من التربة لنعرف في أي حقبة حصل الفيضان الذي هدّ المعبد وطمره بطبقة الترسّبات هذه”.
وقرر فريق المديرية تنفيذ إسبارين: “الأول وراء المعبد حيث لدينا أعمدة تحيط به، ووجدنا أربعة أعمدة رخام تحت الأرض، وردمنا الإسبار لأن مياه النهر خرجت لنا من قلب الإسبار، فطلبنا من مجلس الإنماء والإعمار رد النهر إلى مجراه القديم بعيداً عن المعبد لنتمكّن من الحفر. وسنستأنف العمل في أوائل الربيع بعد أن تجفّ الأرض حيث لا يمكننا الإستمرار بضخ الماء من الحفريات لكي لا تنهارعلى فريق العمل والآثار أيضاً”.
ونُفّذ الإسبار الثاني أمام أعمدة الغرانيت عند مدخل المعبد، وتبيّن للفريق “طبقة رومانية ربما تعود إلى ما بعد بناء المعبد، أي محتمل أن يكون الفيضان حصل بعد انتهاء بناء المعبد، ووجدنا طبقة استيطان ثان حصلت بعد ذلك”. وكذلك تم إقفال الإسبار الثاني “كوننا أوقفنا العمل ولدواعي أمن الحفرية لكي لا تنهار في الشتاء ولكي نحميها لأن الناس العاديين يعتقدون أن الآثار هي كنوز من ذهب وغيره، فنخاف أن يأتي أي شخص ويحفر ويهدد الموجودات”.
ويعطي الفريق الأولوية لـ”المنطقة الحمراء وهي موقع كنيسة مار موسى ودير القديسة صوفيا إذ يجب أن نسلّمها للمتعهد في أسرع وقت ممكن كون السد يمر فيها”. وتقول زيادة إنهم أبلغوهم بعدم قدرتهم على “إبعاد السد عن هذه النقطة لدواع جيولوجية كما يقولون، وبالتالي يتعذّر إنقاذ الكنيسة إلا بنقلها من مكانها”.
المرج يحتاج إلى مزيد من الأبحاث والوقت
وعلمت “المفكرة” أنّ فريق العمل وجد حول دير القديسة صوفيا وكنيسة مار موسى لقى أثرية (كسر فخار) مملوكية ورومانية، وسيجري البحث عمّا إذا كان مبنياً على إنشاءات أثرية أقدم. وأنجز موقع فريق مار موسى إسبارات عدة لم تصل إلى تحديد طبقات أعتق من الفترة العثمانية بسبب عمق الترسّبات وسماكتها في المنطقة حتى وإن كانت هذه النقطة أعلى من السهل. كما أنّ الوقت الذي عملت فيه البعثة كان قصيراً، (لم يتخط ثلاثة أشهر مع أيام التعطيل).
وكون العمليات “إنقاذية” بالتوافق بين المطرانية المارونية ومديرية الآثار ومجلس الإنماء والإعمار، فإنّ هناك حليّن لنقل الكنيسة والدير، وفق ما يؤكد أثريون لـ”المفكرة”: نقل الكنيسة كبلوك (قطعة) واحد، وهذا مكلف نظراً للآلة التي يمكن أن تحملها وكذلك ضرورة توسيع الطرقات للسير بها، أو بلوكين وتواجه البلوكين العوائق عينها وإن بنسبة أقل، أو ترقيم أحجار الكنيسة والدير تمهيداً لفكّهما وإعادة تركيبهما في مزرعة الضهر.
وفي موقع المعبد يعتقد بعض الأثريين وجود هيكل ومنتفعاته، وهنا لا تعني المنتفعات مطبخاً ومرحاضاً، بل باحات ومذابح وهياكل جانبية وثانوية ومساكن للكهنة والمتاجر وربما تجمع سكاني أيضاً. ولا يمكن الحسم بموجودات هذا الموقع المهم إلّا بعد استمرار البحث والتعمّق بالإسبارات والحفر الدقيق، وربما يكون هناك أكثر من معبد.
ويعود معبد أعمدة الغرانيت إلى الحقبة الرومانية (64 ق. م. إلى 392 ب. م.)، كما تُظهر العمارة الظاهرة وفي الحفريات الصغيرة التي جرت على عمق لا يتجاوز متراً ونصف إلى مترين. والسؤال هنا مطروح أيضاً حول وجود معبد أثري آخر أو أكثر تحت هذا المعبد ويعود لحقبة أو حقبات أثرية أقدم ومنها الفينيقية، وما إذا كان يرتبط بمعبد أشمون الفينيقي في أسفل نهر الأوّلي في صيدا.
ويعزز هذه الفرضية وجود الهيكل وما حوله على نقطة التقاء نهريّ الباروك وجزين اللذين يشكلان نهر أشمون (الأولي) كما يرد اسمه في بعض النصوص الرومانية. وهنا يُرجّح أنّ المعبد كان عند المصب وتغيّر موقعه مع تغيّر مسار النهر. مع العلم أنّ العمل في موقع أعمدة الغرانيت لم يتجاوز عشرة أيام، وبالتالي فإن الإكتشافات ظهرت بسرعة لغنى المنطقة بالآثار.
ووفق نتائج الإسبار تم العثور على تاج عمود وبعض الحجارة الأثرية التي تعود لجدران أو تيجان أعمدة.
ومع توقّف العمل بانتظار تحويل النهر عن المعبد الذي غيّر مجراه قبل أكثر من نحو ألف سنة نتيجة فيضان كبير ربما أودى بالمعبد نفسه في حينه، سيتابع الفريق البحث عن بقية المعبد تحت مجرى النهر الحالي بعد أن تجفّ الأرض، حيث هناك قطع لأعمدة إضافية ظاهرة في مجرى نهر جزين، وذلك وفق تطوّر الأحداث في بسري ونجاح اللبنانيين بمنع السد أم لا.
- نشر هذا المقال في العدد | 62 | كانون الثاني 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
مرج بسري في قلب الإنتفاضة