عميد المحامين في رحى “الجمهورية الجديدة”: المحاماة “الرسمية” في صف السلطة


2022-06-01    |   

عميد المحامين في رحى “الجمهورية الجديدة”: المحاماة “الرسمية” في صف السلطة
بودربالة وقيس سعيّد (لقطة من فيديو نشرته الرئاسة التونسية على صفحتها على فيسبوك)

هل كان مفاجئا تمييز عميد المحامين الأستاذ ابراهيم بودربالة برئاسة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية ضمن لجان “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة”؟ الإجابة تحتمل الإيجاب والسلب في آن، تكاملًا لا تناقضًا. المفاجئ هو أن يُوكل إلى عميد المحامين رئاسة لجنة مهمّتها صياغة مقترحات اقتصادية واجتماعية بدل أن يرأسها تحديدا الاتحاد العام التونسي للشغل. إذ لم تُوكل للعميد حتى رئاسة اللجنة القانونية المكوّنة من عمداء كليات الحقوق فقط. بيد أنه لا مفاجأة، من جانب آخر، في منح رئيس الجمهورية قيس سعيّد امتيازا للعميد بودربالة، وذلك دون سائر رؤساء المنظمات والهيئات الوطنية، برئاسة لجنة ضمن “لجان الجمهورية الجديدة”. والسبب، هو أنّ العميد بودربالة كان الأكثر دعما-مقارنة بالباقين-لرئيس الجمهورية بخطاب تجاوز أحيانا حتى أشدّ الأحزاب المؤيدة لساكن قرطاج.

بلغ السيل الزُبى.. وأكثر

قبول عميد المحامين برئاسة اللجنة الاقتصادية، ذات الطابع الاستشاري، هو تأكيد لـ “انخراطه” الطوعي في المشروع الرئاسي لبناء “الجمهورية الجديدة”. قرار أثار موجة تنديد في صفوف فاعلين سياسيين وحقوقيين باعتبار تاريخ المحاماة التونسية في التصدّي لانحرافات السلطة والدفاع عن القيم الديمقراطية والحال أنّها تتورّط اليوم في مشروع شعبوي وسلطوي على مقاس رجل واحد. هذا التنديد عزّزته سخرية روّاد مواقع التواصل الاجتماعي من تصريح إذاعي للعميد إثباتا لجدارته برئاسة لجنة اقتصادية بقوله إنّه صاحب تجربة ذاتيّة في التحكم في مصاريفه ونفقاته الشخصية. هذا التصريح “الورطة”، أحرج العميد بدوره، فاتهم لاحقًا الصحفية التي سألته عن خبرته الاقتصادية بأنه تمّ “تلقينها”، ليتدافع زملاؤها متضامنين معها من “تهمة التلقين”. ضريبة متصاعدة نتيجة اصطفاف مطلق، قد يأخذ أحيانا شكل تشكيك في معطى ثابت، كتشكيك العميد في صحة بيان عمداء كليات الحقوق الذين اعتذروا عن عضوية اللجنة القانونية ضمن “لجان الجمهورية الجديدة”.

لم يكن ليمرّ التعيين “الفخّ” دون ارتدادات داخل الجسم القطاعيّ: إذ شملت موجة التنديد أعضاء في مجلس هيئة المحامين وبينهم من اختار التعبير عن موقفه علانية كالأستاذ حسان التوكابري الذي أكّد، في تصريح صحفي غداة إصدار المرسوم، عدم تنسيق العميد بودربالة مع مجلس الهيئة، معتبرًا أن هذا التعيين “طعنة للمحامين الذين يرفضون أن يكونوا ديكورًا وأن يشاركوا في مسرحية سيئة الإخراج”. ويُعدّ هذا الموقف العلني لافتا من زاويتين. أّولا لأنّه يأتي تحديدا من عضو في مجلس الهيئة رغم علويّة واجب التحفّظ ومبدأ التضامن العلني مع الهياكل داخل بيروقراطية المهنة. ثانيا، يأتي هذا الموقف من عضو غير محسوب على الإسلاميين، بل على النقيض منهم. فهو من الذين اعتبروا مثلا أن محاكمة العميد السابق عبد الرزاق الكيلاني جاءت بسبب دفاعه عن حزب معيّن، عدا أنّه من أبرز داعمي هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي. بذلك لم يكن تصريح الأستاذ التوكابري خروجا عن واجب التحفّظ أو مناكفة من عضو “إسلامي”، بقدر ما كان تعبيرا عن حالة سخط ضد توريط العميد للمحاماة برمّتها في مشروع سلطويّ، بل في مشروع معزول عن القوى السياسية والمدنية الفاعلة في البلاد.

كما تصاعدت حالة السخط عبر إمضاء أكثر من 250 محاميا من مختلف التوجهات السياسيّة والأيديولوجية على عريضة مفتوحة، اعتبرت أن العميد بصدد توظيف المحاماة لحساب السلطة الحالية. وقد دعا المحامون هذا الأخير للكفّ عن توريط المهنة في المشروع “التسلطي” لرئيس الدولة، ومطالبين إيّاه بالاعتذار عن رئاسة اللجنة. ولاحظ المحامون الممضون في عريضتهم أن “اتخاذ قرارات مصيرية تهمّ الوطن ودور المحاماة خاصّة في السياق السياسي الدقيق حاليا، لا يمكن أن تظلّ موقوفة على اجتهاد شخص العميد، باعتبار أن مثل هذه القرارات من اختصاصات الجلسة العامة الخارقة للعادة التي تنظر في “المسائل المتأكّدة وذات الأهمية الوطنية” بحسب الفصل 54 من مرسوم المهنة. وقد أمضى على هذه العريضة وجوه من الطيف السياسي، من بينهم الأمين العام للتيار الديمقراطي غازي الشواشي، والحقوقي المستقلّ العياشي الهمامي، والحقوقية دليلة مبارك مصدّق، وأيضًا مجموعة من المحامين الإسلاميين في مقدّمتهم سمير ديلو وسيف الدين مخلوف إضافة إلى عضو مجلس الهيئة سعيدة العكرمي. وشملت قائمة الممضين أعضاء في المجلس الأعلى للقضاء “المنحلّ” والأستاذ رشاد برقاش، وهو أمين المال السابق لهيئة المحامين وصاحب المرتبة الثالثة في انتخابات العمادة سنة 2019.

لم تقف الصورة عند هذا الحدّ. تواصلت كرة السخط “الداخلي” ضد العميد الحالي في التضخّم لتبلغ أيضًا عمداء الهيئة. إذ عبّر أربعة منهم وهم عامر المحرزي وشوقي الطبيب وعبد الرزاق الكيلاني والبشير الصيد، في بيان مشترك، عن رفضهم الزج بمؤسسة العمادة في “حوار شكليّ صوري وغير مجدي” معتبرين أن مشاركة العميد “تتنافى وتاريخ المحاماة”. وأضافوا أن الهيئة الشكليّة “لا تهدف إلاّ لإضفاء شرعية على ديكتاتورية جديدة”. هذا الموقف الحاسم يعدّ بالغ الرمزية: أولًا لأنّه يأتي من عمداء سابقين، وصفة العمادة لا تسقط بمرور الزمن، إذ تظلّ مواقفهم وتقديراتهم ذات أثر خاصّ في صفوف المحامين ولدى الرأي العام أيضًا. وثانيًا، يؤكد حجم السخط العامّ من خيارات العميد بودربالة ومدى قطيعته مع سابقيه. يجدر التذكير هنا، أن العمداء السابقين هم أعضاء في “مجلس العمداء” وهو أحد أهمّ هياكل المهنة على المستوى القيمي. كما أن بيان العمداء يجعل من حديث “أنصار العميد” عن مبدأ التضامن وواجب احترام الهياكل مردودا عليه: فعمداء المهنة هم من يدرّسون أخلاقيات المهنة وليسوا بحاجة لدروس من “الأنصار”.

في الأثناء، كيف تجاوب العميد مع موجة التنديد والسّخط؟ الإجابة دائما جاهزة بتبريرين إثنيْن: إمّا اعتبار المحامين الرافضين لخياره من الموالين لأحزاب سياسية أو اعتبار أنهم أقليّة لا تمثّل جسم المحاماة. على أرض الواقع، لم تعدْ حجّة الموالاة لأحزاب سياسية معيّنة والمقصود بالخصوص الإسلامية منها ذات مقبوليّة لأن موجة الرفض ضدّ “توريط” المحاماة شملتْ المحامين المنتمين لمختلف الأطياف السياسية وبنفس الحدّة والصّرامة. أما الحديث عن أقليّة، فهو يحمل مخاتلة باعتبار أنّ أغلبيّة المحامين لم يعبّروا صراحة عن مواقفهم. إذ من البيّن أن مواقف المحامين من المرسوم الأخير تنقسم إلى ثلاثة: موقف أوّل رافض بشدّة كما سبق تبيانه، وموقف ثان داعم، أحيانا باستحياء، للعميد ويقدّر أن رئاسته لإحدى “لجان الجمهورية الجديدة” تشريف للمحاماة وتعزيز لموقعها. وموقف ثالث- ويبدو عدديا الغالب- وهو الذي اختار عدم التعبير عن أي موقف لاعتبارات متعدّدة: الاستقالة من الشأن العام، عدم التسيّس مطلقًا، الحفاظ على علاقات مهنية، حسابات انتخابية قبيل الجلسة العامة الانتخابية لمجلس الهيئة والعمادة والفروع، وغيرها من الاعتبارات.

إن العميد بودربالة الذي بدا متحمّسا بشكل لافت للانتباه لمشروع الرئيس وهو يصدّر نفسه كأحد أركانه، يؤسس لهذا الانخراط استنادا على موقف مجلس الهيئة بتاريخ 27 جويلية 2021 الداعم لقرارات 25 جويلية 2021. والحال أن المجلس أبدى في بيان بتاريخ 11 ماي 2022 عدم قبوله “لأي حوار شكليّ وبمخرجات مسبقة” ورفض تهميش القوى السياسية والمنظمات الوطنية. إذ بغضّ النظر عن هذا الموقف، يتبيّن أن العميد بودربالة بـانخراطه في بناء “الجمهورية الجديدة”، بل وتولّيه دور الناطق باسم النوايا “الصادقة” للرئيس، لا يُعبّر عن إرادة مجرّدة لمجلس الهيئة أو عن توازنات داخله، بقدر ما يترجم خياره الشخصي وتقديره السياسي الخاصّ.

“المهنية” قبل “التسيّس”.. عنوان مخاتل للانحياز إلى السلطة؟

يبرّر عميد المحامين خياره في الاصطفاف البيّن في مشروع السلطة الحالية بعدم خضوع المحاماة لأي تجاذبات سياسية وحزبية. وهو ينطلق من ضمنية واضحة: اتخاذ موقف من مشروع قيس سعيّد يعني الخضوع لهذه الحسابات السياسيّة والحزبيّة، وكأن مشروع سعيّد نفسه فوق أي حسابات. في الواقع، إنّ الاستناد المطرّد على شعار “المهنية وفقط” طالما كان، داخل المنظمات الوطنية تاريخيًا، عنوانا مخاتلا يُرفع من المجموعات الداعمة للسلطة، في مواجهة “المناوئين” داخل هذه المنظمات الذين يقع اتهامهم بـ”التسييس”. الصورة بيّنة: أولًا الإيهام، خاصة خلال الفترات الانتخابية، بثنائية المهنيّة مقابل السياسة أو المهنيّين مقابل المسيّسين، ثم ثانيًا يصبح عنوان إثبات الولاء للمهنة/المنظّمة هو الولاء للسلطة لأنها “فوق السياسة”. تاريخ الصراعات الداخلية زمن الاستبداد في المنظمة الشغلية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وجمعيّة القضاة التونسيين، جميعها تنبؤنا بهذه الحقيقة، التي لا تشذّ هيئة المحامين عنها اليوم.

بيد أن الذّي من المهمّ توضيحه، في هذا الجانب، هو أن “المهنيّة” و”التسيّس”/السياسة غير متعارضتين بطبيعتهما. فالمهنية/أو القطاعية، التي يقع تقديمها أنها المصلحة الوحيدة التي يجب الذود عنها داخل أي منظمة أو قطاع، هي غير مجرّدة من السياسة باعتبار التداخل الوظيفي بينهما، فلا يوجد خط مهنيّ غير مسيّس بأي شكل من الأشكال. في الواقع، إن المواقف السياسية غالبا ما يقع تقديمها على أنها مواقف مهنيّة من أولئك المخاتلين. بل ومن جانب آخر وبمنطق مهنيّ مصلحيّ، يمثّل الدفاع عن القضايا الوطنية كقيم الديمقراطية ومنها التشاركية، جدار الدفاع الأول عن القضايا المهنيّة، فالتفريط في الأولى يفتح الباب للتفريط في الثانية. كما أنّ الطمع في كسب امتيازات مهنية مقابل موالاة للسلطة هو أمر غير ثابت وليس فقط غير مبدئي، خاصة في ديناميّة غير متغيّرة وفي سياقات ملتبسة.

إنّ المحاماة بالخصوص، ليست مجرّد مهنة حرّة يمارسها تقنيّو القانون، بل مهمّة اجتماعية وسياسية باعتبارها “تشارك في إقامة العدل والدفاع عن الحقوق والحريات” بنصّ الدستور، وتلك مهمّة لا مفرّ منها بغضّ النظر عن هذه الدسترة التي تحمل تكليفًا لا تشريفا للمحامين وهياكلهم التمثيليّة. تاليا، يغدو النضال من أجل قيم الديمقراطية والتصدّي لانتهاكات السلطة والذود عن الحريات، هو من كُنه المحاماة بوصفها رسالة دفاع. لذلك، لم يكُنْ من الصّدفة أن يتصدّر المحامون واجهة العمل السياسي والحقوقي طيلة الحركة السياسية الحديثة منذ النضال ضد الاستعمار وثم الاستبداد. بينما كانت هياكل المهنة تتأرجح عند كل انتخابات بين حسابات “أبناء الخلية” و”المناوئين” تحت أنظار السلطة الساعية لوضع يدها على الهياكل. أمّا اليوم، فيتخلّف قطار “المحاماة الرسميّة” في اختبار جديد وهو مواجهة مشروع تسلّطي فرداني يحمل بذرات ديكتاتورية جديدة بالبلاد. بل الصورة أكثر بشاعة: وقوامها توريط المحاماة “الرسميّة” في وضع أركان هذا المشروع. إن المشكل اليوم ليس في تنوّع التقديرات السياسية داخل صفوف المحامين، فذلك بديهي، بل في توريط الهياكل الرسميّة وباسم المحامين في المشروع السياسي للسلطة الذي لا يفتح الباب إلا على المجهول.

إن ارتدادات هذه “الورطة” مُكلفة على صورة المحاماة التونسية أمام الرأي العام الحقوقي المحلّي والدّولي أيضا. صورة اهتزّت بعد التخلّف في إسناد المحامين المُحالين على القضاء العسكري بسبب ممارسة مهامهم ومنهم العميد السابق عبد الرزاق الكيلاني، الذي أوكلت هيئة المحامين بباريس واتحاد المحامين العرب ممثّلين للدفاع عنه بينما غابت هيئة المحامين بتونس. كما لا تغيب تبعات هذه الخيارات في مستويات أخرى منها خدش العلاقة التاريخية بين هيئة المحامين والمنظمة الشغيلة التي قطعت بشكل حاسم رفضًا للمشاركة في المسرحية. إذ كان يُنتظر أن لا يتخلّف المحامون عن العمّال تصديا لمشروع “دستور المنحة”.

بيد أن الارتدادات وذات الآثار البليغة ستمسّ الجسم القطاعي، عبر تعزيز نزعة الفُرقة والتوتّر الداخلي ليس فقط في صفوف المحامين القاعديّين، بل داخل الهياكل نفسها. انعكاسات جدّ خطيرة بمعيار الأعراف البيروقراطية وما قد ينتج عنها من تبعات غير مألوفة. إذ جاء انسياق العميد وراء مشروع السلطة بالخصوص قبيل عقد الجلسة العامة الانتخابية لانتخاب مجلس هيئة وعميد جديدين. جلسة “عادية” وفق مرسوم المهنة، ولكنها “غير عادية” في السياق الداخلي والسياسي الحالي، وسط شكوك في عدم عقدها في تاريخها المعهود أي قبل انتهاء العطلة القضائية كما جرت العادة طيلة العقود الأخيرة. وتعزّز هذه الشكوك اليوم السؤال حول استقلالية المحاماة الرسمية عن أي مؤثرات خارجية خاصّة في سياق يشهد استهدافا للمنظمات الوطنية والقطاعية من داخل أسوارها. في النهاية، تخوض المحاماة التونسية اليوم امتحانا ستتحدّث الأجيال القادمة كثيرا عنه، كما يتحدّث جيل اليوم عن امتحانات خاضها من سبقوه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات عامة ، أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني