علانية جلسات المحاكمة: من أجل بثّ “الروح” في القضاء الإداري اللبناني


2020-06-28    |   

علانية جلسات المحاكمة: من أجل بثّ “الروح” في القضاء الإداري اللبناني

“العلانية هي روح العدل” (جيريمي بنثام، 1970) ولكن للأسف يفتقد القضاء الإداري اللبناني لهذه “الروح”. فلا ينصّ قانون مجلس شورى الدولة الحالي على أيّ جلسة علنية حقيقية. فالإجراءات التي تجري أمام المحكمة الوحيدة والفريدة للقضاء العادي الإداري مكتوبة: من الطلب الذي يرفعه صاحب المراجعة أو المستدعي، إلى تبادل اللوائح بين أطراف الدعوى، مروراً بالتقرير الذي يصدره القاضي/المقرر، وصولاً إلى المطالعات المكتوبة لمفوّض الحكومة، وأخيراً تحويل ملف القضية إلى هيئة الحكم التي تتذاكر سرّاً. والجلسة العلنية العامّة الوحيدة التي ينصّ القانون على انعقادها هي جلسة إفهام القرار النهائي، ولكنها في الواقع محض خيال. وهذا كلّه حزين ككابوس نودّ فقط أن نستيقظ منه.

وبعيداً عن أيّ اعتبار ماورائي أو رومنسي، هل يشكّل غياب الجلسة العلنية أمام مجلس شورى الدولة خللاً حقيقياً في العدالة الإدارية اللبنانية؟ من المغري نفي ذلك. ففي النهاية، يمكن للإجراء المكتوب، إلّا في حالة الطوارئ القصوى، أن يتيح في الحالة المثالية حصول نقاش قضائي بمستوى جيّد، رغم تناقضه مع مبدأ العلانية. إلّا أنه إن لم يكن هناك حاجة إلى إضافة أي حجّة شفهياً، لماذا تضييع الوقت في التوصّل إلى حكم من خلال الاستماع إلى الأطراف يكررون ما قرأه أعضاء هيئة المحكمة؟ فأمام مجلس شورى الدولة اللبناني بشكل خاص، لا حاجة لعقد جلسة علنية للإطّلاع على مطالعات مفوّض الحكومة. وعلى عكس ما ينص عليه قانون القضاء الإداري في فرنسا، يتم إرسال جميع ما توصّل إليه المفوّض إلى الأطراف قبل أن تتذاكر هيئة الحكم، والأمر نفسه ينطبق على تقرير القاضي/المقرر، ولدى أطراف الدعوى إمكانية الرد عليها في تعليقات مكتوبة.

إلا أنّ هذه النظرة التقنية الباردة لعدم جدوى الجلسة العلنية في الإجراءات الإدارية تتجاهل أمراً أساسياً ألا وهو أنّ الجلسة تمثّل مصالح تتجاوز مسألة الكفاءة الإجرائية. وهي مصالح تتطلّب أن يكون الحق في جلسة علنيّة مكرّساً في النصوص الدولية الرئيسية المتعلقة بحقوق الإنسان لا سيّما نصّين إثنين تشير إليهما مقدّمة الدستور اللبناني: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

ووفقاً للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، فإنّ “العلانية [للجلسات] تحمي الأشخاص من العدالة السرّية التي تجري بعيداً عن نظر الجمهور؛ كما أنّها إحدى الطرق التي تساعد في المحافظة على الثقة في المحاكم. ومن خلال الشفافية التي تعطيها لإقامة العدل، تساعد العلانية على تحقيق الهدف من المادة 6 الفقرة 1 [من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية]: المحاكمة العادلة والتي يشكّل ضمانها أحد مبادئ أي مجتمع ديمقراطي […] “.

بالتالي فإنّ المحاكمة العلنيّة هي أولاً وقبل كل شيء أداة ضرورية للمراقبة الديمقراطية. فالعدالة، بما في ذلك الإدارية، تتحقق “بإسم الشعب اللبناني”. وكي لا تكون هذه العبارة التي نجدها في رأس أحكام مجلس شورى الدولة، مجرّد شعار فارغ، يجب أن يكون لدى المواطنين الحق في أن يكونوا شهوداً على ما يجري بإسمهم. شهوداً على الحكم الصادر بالطبع والذي يجب أن يكون في جلسة علنية، وأيضاً على المداولات التي تسبقه. هذا أحد شروط المراقبة الديمقراطية المستنيرة. فعلانية المداولات تتيح لكل فرد (عملياً يكون ذلك بواسطة الصحافة) معرفة الحجج المطروحة وبناء رأي يمكّنه من قراءة القرار بطريقة نقدية. فمن الصعب تحقيق هذا الشرط من خلال قراءة حكم نجهل تقريباً كل ظروف وتفاصيل النقاشات التي سبقت صدوره إن لم يكن المتخاصمون قد سرّبوا بعضاً منها. أمّا قراءة قرار بعد جلسة علنية تمّت فيها مواجهة المواقف بحضور جمهور مهتم وممثلين عن المجتمع المدني والأهم بوجود صحافيين، يجعل الأمر أكثر سهولة.

تساهم الجلسة العلنية في تكريس ثقة الناس في القضاء. فلا يمكننا الإكتفاء بالطلب إلى المتخاصمين أن يثقوا في القضاء بل يجب إعطاؤهم الأسباب لذلك. وبالتالي فإنّ ضمان استقلالية القضاء وحياديّته أساسية في هذا المقام. ولا تقلّ الضمانات الأخرى أهمّية في إطار إجراءات المحاكمة الإدارية. من بينها ضمانة حصول المتخاصمين على فرصة الإستماع إليهم جيداً. فأعضاء هيئة المحكمة يعرفون بأنّهم درسوا بضمير حي ملفّ القضية ولا سيّما الالتماسات التي قدّمها المستدعي. ولكن من الطبيعي أن يشكّ الأخير في حصول ذلك وهذا حقّه. وهو إن تأكّد من أنّ القاضي/المقرر درس الملف من خلال قراءة تقريره، إلّا أنّه لن يكون أكيداً من أنّ القضاة الآخرين في الهيئة فعلوا الأمر نفسه. هل تسنّى لهم الوقت؟ هل رغبوا في ذلك؟ ألم يتهرّبوا من العمل من خلال الإتّكال على تحليل زميلهم؟

إذاً إن لم تسمح الجلسة العامة بإزالة الشك نهائياً، فإنّها على الأقل تقود إلى تحييد معظم التأثيرات السلبية التي يخشاها المستدعي  سواء عن حق أو عن باطل. وهي تقدّم له إمكانية التوجّه شفهياً إلى مجموع أعضاء هيئة الحكم لتذكيرهم فعلياً بالنقاط الرئيسية التي وردت في دفاعه وملاحظاته على نتائج تحقيقات المقرر أو الملاحظات الخطّية لمفوّض الحكومة. وبغض النّظر عن نوعية القرارات الصادرة عن مجلس شورى الدولة اللبناني، يقول المثل إنّه لا ينبغي إقامة العدل فحسب بل يجب أن يظهر ذلك للعيان(Justice is not only to be done, but to be seen to be done  ) والطابع الشفهي للدعوى لا يقود إلّا إلى تعزيز العلنية. وبهذه الطريقة تتحقق الثقة في القضاء.

وبالنتيجة فإنّ هذين السببين: المراقبة الديمقراطية وثقة المتقاضين، يجعلان الحق في جلسة عامة علنية حقّاً أساسياً. ومشروع إصلاح القضاء الإداري الذي تطرحه “المفكرة القانونية” ينصّ على تكريسه مع الإبقاء استثنائياً على إمكانية أن يعطي رئيس هيئة الحكم الأمر بعقد جلسة سرّية إذا كانت حماية النظام العام واحترام خصوصية الأشخاص أو الأسرار التي يحميها القانون تتطلّب ذلك. ورئيس الهيئة مسؤول أيضاً عن صون نظام الجلسة. وبحسب مشروع القانون تجري الجلسة كما يلي:

“يعرض المقرر ملخّصاً عن الدعوى. يتلو المقرر العام (الإسم الجديد لمفوّض الحكومة) مطالعته ويقدّم أخيراً أطراف الدعوى ملاحظاتهم شفهياً. وأثناء عرض المقرر العام خلاصاته شفهياً، يمكنه إذا رغب في ذلك، الرّد على أية ملاحظات قد يكون الأطراف سبق أن عرضوها خطّيّاً عليه. كما أنّه بإمكان الأطراف أيضاً عند إبداء ملاحظاتهم أن يجيبوا على ردود المقرّر العام شفهياً. كما أنّ بإمكان أعضاء هيئة الحكم أن يطرحوا في الجلسة أسئلة على الأطراف من أجل الحصول على توضيحات لهذه النقطة أو تلك. فالنص لا يمنع ذلك شرط عدم المسّ بمبدأ الحياد”.

العدالة الإدارية هي عدالة تهمّ الحياة في المدينة. فمن الرقابة السينمائية وإبرام الصفقات العمومية وإشغال الأملاك العامة البحرية مروراً بتجنيس الأجانب ونتائج الانتخابات وحماية الإرث الثقافي وصولاً إلى التعيينات في المواقع العامة العليا وتجاوز حد السلطة، كلّها مواضيع منازعات من الممكن أن تدخل في اختصاص القضاء الإداري. مثل هذه العدالة لا يمكن أن تكون عدالة مكتبية، فالعدالة الإدارية يجب أن يكون لها روح وعلانية الجلسات هي من سيساعد في منحها تلك الروح.

*ترجمة لمياء الساحلي

  • نشر هذا المقال في العدد | 65 | حزيران 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

القضاء الإداري: من يحمي الدولة ومن يدافع عنها؟

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني