“عفا الله عما مضى” بفتاوى براغماتية: جريمة الليطاني بلا مجرمين


2018-11-02    |   

“عفا الله عما مضى” بفتاوى براغماتية: جريمة الليطاني بلا مجرمين

أمثلة ثلاثة عن كيفية مجاملة ملوثي البيئة

سطرت اللجنة الفنية التي شكلها رئيس مجلس  الإدارة المدير العام لمصلحة الليطاني في 12 أيلول 2018، تقريراً بأحد معامل الألبان والأجبان (مؤسسة جرجورة عيد) الذي يرمي يوميا 1500 ليتر من المياه العادمة من دون أي معالجة إلى الصرف الصحي لبلدية جديتا ومنها إلى مجرى نبع شتورة ثم إلى نهر الليطاني. وطلبت المصلحة في تقريرها “إيقاف المؤسسة مؤقتاً إلى حين إيجاد وتفعيل طرق معالجة وتكرير الصرف الصناعي”. وقد اتخذت اللجنة هذا الإجراء على ضوء كشوفاتها على المؤسسات الصناعية والمنشآت والبلدية والمستشفيات وغيرها من ملوثي نهر الليطاني. يذكر أنه تم تشكيل هذه اللجنة تحت اسملجنة مشتركة لمتابعة تلوث نهر الليطاني في الحوض الأعلى”.

بعد أيام قليلة من تقرير لجنة الليطاني، وتحديداً في 31 تشرين الأول 2018 ، وجه وزير البيئة طارق الخطيب كتابا إلى محافظ البقاع القاضي كمال أبو جودة يطلب فيه “عدم إدراج مؤسسة جرجورة ضمن لائحة المؤسسات الصناعية الملوثة لنهر الليطاني”. وتمنت وزارة البيئة في كتابها “إعطاء المؤسسة مهلة شهر من تاريخ تبلغهم كتابنا هذا لتصريف النفايات السائلة إلى حفرة صحية مصممة بطريقة تضمن توافق المياه المعالجة مع المعايير البيئية الموضوعة بموجب قرار الوزارة الرقم 8/1 تاريخ 30 /1/2001، تحت طائلة الإقفال المؤقت ثم النهائي في حال عدم الإلتزام”.

هذه آخر التدخلات الموثقة لحماية مؤسسة صناعية موجودة قبل أن يولد معظم أبناء البقاع، ومع ذلك لم تكلف نفسها تكرير نفاياتها من المياه العادمة الصناعية السائلة برغم مرور عشرات السنين على إنشائها.

في خط مواز لا زال الإحتفال الذي أقيم في السرايا الحكومية بعد استدعاء النيابة العامة المالية لمالكي ومديري مصنع “ليبان ليه” حاضراً في أذهان الناس. Liban Lait نفسه الذي يحظى بالحصة الأكبر من مبيعات السوق اللبنانية ويصدر إلى الخارج منذ العام 2005، احتفل به رئيس الحكومة سعد الحريري وتم منحه قرض من دون فائدة بقيمة مليوني دولار لإنشاء محطة تكرير تستغرق عشرة أشهر. مع العلم أن القانون 63 الصادر في 2016 لتنظيف نهر الليطاني وتخصيص مبلغ ألف ومئة مليار ليرة لبنانية لذلك، قد طلب من هذه المصانع إنشاء محطات تكرير خاصة بنفاياتها الصناعية قبل صرفها إلى قنوات الصرف الصحي أو إلى مجاري الأنهار في حال كانت صالحة للري بعد معالجتها. كسب المعمل سنتين من التلويث وعاد ومُنح مليونا دولار وسنة إضافية لإنشاء محطة تكرير من دون أي عقاب على تلويثه الذي تسبب مع مصانع أخرى وبلديات ومستشفيات في إمراض الناس بالسرطان وقتلهم[1].

على خط التدخلات عينها، يقول المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم ل “المفكرة القانونية” أنه “لم يبق أحد ولم يتصل عندما أوقف خلال جولته التفقدية على نهر الليطاني، صاحب إحدى محطات الوقود التي تلوث النهر، لكننا شرحنا لهم حجم الجرم ولم نطلق سراحه إلا بعد أن نظف التلوث في محيطه وسلط نفاياته الصناعية إلى حفرة صحية خاصة بمحطته”. بالإضافة إلى صاحب محطة الوقود، أوقف إبراهيم صاحبي مسلخين ومالكي مطعمين أيضاً في البقاع، وأفرج عنهما بعدما نفذا الإجراءات التي طلبت منهم، وفق إبراهيم نفسه.

تشير الأمثلة الثلاثة إلى مسار التدخلات التي ما زالت تحصل في ملف الليطاني المتروك منذ ما قبل حرب 1975 وخلالها وبعدما وضعت أوزارها إثر اتفاق الطائف في أواخر العام 1989. ويتم التعامل على ما يبدو مع الجرائم المرتكبة بحق الليطاني وناسه في البقاع والجنوب في مساحة تبلغ 21% من مساحة لبنان، وحيث يعيش نحو مليون مواطن لبناني و250 ألف لاجئ سوري، بالطريقة نفسها التي تم التعاطي فيها مع جرائم حرب 1975-1990 بطريقة “عفا الله عما مضى”. الفارق هو أن العفو عن جرائم الحرب تم بموجب قانون عفو عام (تشريعا) وأتى ليضمد جراح حرب أخذت في أحيان كثيرة طابع الحرب الأهلية، فيما أن العفو عن جرائم الليطاني (وهي جرائم استغلال للملك العام واستباحة لصحة الناس) تتم على ما يبدو بشكل ضمني بتواطؤ بين أعيان من السلطة التنفيذية والنيابات العامة.

هذا المسار دفع بمصلحة الليطاني إلى المطالبة في الإخبار الذي قدمته إلى النيابة العامة المالية الأسبوع الماضي، وإلى التفتيش المركزي قبل يومين بتاريخ 29/10/2018، باتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاسبة الملوثين من بلديات وإدارات عامة ومنشآت خاصة ومستشفيات وكل من يثبت تلويثه للنهر لإيقاف هذه الجريمة، محذرة في الوقت نفسه من هدر الألف والمئة مليار ليرة لبنانية التي خُصصت لتنظيف الليطاني. وجاء في كتاب المصلحة ما يفيد بالحرف:”وقد انقلب واقع تنفيذ القانون 63 من واقع صحي لإنقاذ النهر ورفع التلوث الى واقع مغاير يوازي هدر المال العام، نتيجة استمرار وثبات التعديات على نهر الليطاني بمياهه ومجراه ومشروعه، والتي بقيت من دون قمعها ولا ردعها، ما هدد صحة الناس وأدى إلى انتشار الأوبئة في منطقة حوض الليطاني الأعلى وازدياد الأمراض السرطانية هناك وفقا لما تثبته أرقام وزارة الصحة العامة والدراسات العلمية المنشورة”. وأضافت المصلحة “وقد بات واقعاً أن الاعتمادات المرصودة في القانون 63 والتي سترهق الخزينة بمبلغ 1100 مليار ليرة، قد تهدر وتجهض الجهود المبذولة نتيجة استمرار التعديات البيئية من قبل بعض البلديات والمؤسسات الصناعية والمؤسسات المصنفة التي لم تجد لتصريف ملوثاتها إلا نهر الليطاني ومشاريع المصلحة وأجساد المواطنين، ما عطل ويعطل وسيعطل محطات التكرير التي نفذت أو يجري تنفيذها أو سيجري تنفيذها”. ولفتت المصلحة إلى أنه “أكثر من ذلك فيما خص التلوث الناجم عن الصرف الصناعي؛ فقد شهدت الإدارة اللبنانية غياب تطبيق أحكام الفصل الثالث من المرسوم 8018 / 2002 “الأحكام الخاصة بسقوط الحق بالترخيص وبالإقفال وبالإلغاء. وحددت المصلحة المسؤولين عن تطبيق المرسوم واتخاذ التدابير والعقوبات المتعلقة بالمؤسسات الصناعية، وهي دوائر المراقبة  في وزارة الصناعة، البلديات كل ضمن نطاقها، والأجهزة المختصة في كل من وزارتي البيئة والصحة العامة ضمن الصلاحيات المحددة لها في القوانين والأنظمة المرعية الإجراء”.

ولكن أين كانت كل هذه الجهات المسؤولة بما فيها مصلحة الليطاني على مدار السنوات الثلاثين الأخيرة؟ أو على الأقل منذ 1990 ولغاية اليوم؟

النائب العام المالي يحدد سياسته الجزائية:

شو بدي بالماضي، أنا عم فكر لقدام

يقول المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم ل”المفكرة” أنه “لم يكن هناك أي إخبار في النيابة العامة المالية بخصوص نهر الليطاني” قبل جولته التفقدية التي نفذها في البقاع في 17/10/2018، برفقة المدير العام لمصلحة الليطاني الدكتور سامي علوية ورئيس مصلحة مياه البقاع رزق رزق وأخرين. وأكد أن جولته جاءت في إثر إخبار تقدم به “مواطن صالح” حول هدر مال عام وفساد في مصلحة مياه البقاع العام الماضي “ويومها لم تمنحنا وزارة الطاقة الإذن للملاحقة كونها وزارة الوصاية على  مؤسسة مياه البقاع”.

وأشار إبراهيم إلى أن عمل النيابة العامة المالية منفصل عن عمل النيابة العامة البيئية التي تهتم بالتلوث على نهر الليطاني “فيما المالية تهتم بقضايا حماية الأملاك العامة والمياه كملك عام ونهر الليطاني وأملاك مصلحة الليطاني أيضاً”. ووصف إبراهيم وضع الليطاني بالكارثي وهو إحدى الثروات الوطنية التي خسرناها مع ما خسرناه أثناء الحرب”، معتبراً ورداً على سؤال من يحاسب كل الملوثين الذين تمادوا في قتل الليطاني “أنا أعمل لحماية النهر من الآن وصاعداً، همّنا أن نكف التلوث ونوقفه عن النهر”. ووعد بإعادة نهر الليطاني عشرين عاماً إلى الوراء “حيث كان هناك نهر وسهل بقاع يروى منه وناس تعيش عليه”.

“ولهذه الغاية “استدعينا سبع بلديات حتى الآن ومنحنا رؤساءها مهلة شهر لوقف تصريف الصرف الصحي إلى نهر الليطاني وإنشاء بحيرات للمعالجة على طريقة الأراضي الرطبة والنباتات المائية التي تمتص المياه العادمة وتسحب الملوثات منها”، وفق ما قال. كما استدعى مصنعين حتى الآن ومنحهما مهلاً لتجميع نفاياتها السائلة في برك ريثما يتم وضع محطات تكرير لنفاياتها الصناعية كل وفق نوعها وفئتها.

وأشار إبراهيم إلى أن الدولة ممثلة بمجلس الإنماء والإعمار هي التي سلطت مياه المجارير إلى نهر الليطاني، “ولذا سنستمع أيضاً إلى مجلس الإنماء والإعمار وسنسأل عن الأموال التي خصصت لمحطات التكرير وعن المراحل التي نفذت حتى الآن”.

ووفق الخطة سيتم إرسال كتب إلى البلديات لوقف المعامل الملوثة فيها، ومنها بلدية المرج حيث يوجد ثمانية معامل ألبان تصب نفاياتها السائلة في الليطاني “كما أننا سنحمي المياه الجوفية ووقف الآبار المحفورة غير المرخصة. وطلبنا من مصلحة مياه البقاع لائحة بكل الآبار غير المرخصة لتوقيفها”.

يتضمن كتاب المصلحة تحديد أكثر من مئة بلدية ملوثة ومتعدية على نهر الليطاني ونحو 723 مؤسسة صناعية غير مرخصة أو لا تستوفي شروط تكرير نفاياتها الصناعية مع المستشفيات التي ترمي نفاياتها الطبية على الليطاني. ومع ذلك، تقطع الدولة ممثلة بالقضاء والوزارات المعنية حسابا مع الماضي. يقول إبراهيم “شو بدي بالماضي أنا عم فكر لقدام”، مؤكدا أن المهمة اليوم تنصب على رفع التلوث عن الليطاني وإعادته خلال سنتين شريان حياة في البقاع والجنوب.

خطة لا يبدو من مجريات التعاطي معها، وآخرها كتاب وزارة البيئة لعدم اعتبار مؤسسة جرجورة ملوثة لليطاني، أنها ستصل إلى خواتيمها المرتجاة.

 


[1]  ومع بلوغ الإصابة بالسرطان في الحوض الأعلى في البقاع، من 3 إلى 5 أضعاف المعدل العام للبلاد، وفق الدراسة التي أشرف عليها الدكتور إسماعيل سكرية، كشف رئيس مجلس إدارة والمدير العام لمصلحة الليطاني الدكتور سامي علوية للمفكرة ارتفاع نسبة انتشار فيروس الكبد الفيروسي في البقاع مع التبليغ عن 334 حالة في العام 2018، بنسبة 53 حالة لكل مئة الف شخص. وقال علوية للمفكرة أن “فريق المصلحة يعمل على تحليل هذه النسبة وهي نتيجة التلوث الناجم عن الصرف الصحي الذي ينشر الأمراض الوبائية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، الحق في الصحة والتعليم ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني