صراع الهيئات حول تنظيم الإعلام الانتخابي في تونس: الهايكا ضد هيئة الانتخابات


2022-11-25    |   

صراع الهيئات حول تنظيم الإعلام الانتخابي في تونس: الهايكا ضد هيئة الانتخابات

قبل أسبوع من انطلاق الحملة الانتخابيّة، أصدرت هيئة الانتخابات القرار عدد 31 لسنة 2022 والمتعلق بضبط القواعد والشروط التي يتعين على وسائل الإعلام التقيد بها خلال الحملة الانتخابية. من حيث السياق، مثّل هذا القرار ردّة فعل على إصدار هيئة الاتصال السمعي والبصري لقرار توجيهي يتعلق بنفس الموضوع من دون التشاور معها. أمّا من حيث الرمزيّة، فيعدّ إصدار كل من الهيئتين لقرار خاصّ بها مخالفة للفصل 67 من القانون الانتخابي وسابقة لم نشهدها خلال المحطّات الانتخابية اللاحقة للثورة على الرغم من كون هذه المواعيد لم تخلُ من تجاذبات بين الهيئتين، اللتين عهدتا دائما على إصدار قرار مشترك بينهما ينظّم كيفيّة تعامل وسائل الإعلام مع المترشحين خلال الحملة الانتخابية والضوابط التي عليها اتباعها. سابقة تُضاف إلى حلقات العبث التي شهدها المسار الانتخابي الجاري القائم على الإقصاء الممنهج للأحزاب السياسيّة والعبث القانوني لهيئة الانتخابات.

فكيف يمكن الحديث عن حملة انتخابية في وسائل الإعلام، بين مرشحين أفراد وفي ظلّ مقاطعة شبه كليّة للقوى السياسيّة؟ كيف يمكن تحقيق الموازنة بين ما يفوق 1000 مترشّح؟ أي نقاش انتخابي ممكن وأيّ مقارعة للحجج بين مرشحين تقتصر برامجهم على البعد المحلّي؟

عودة على صراع الهيئات: اتهامات متبادلة بأحادية القرارات

أصدرت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) بتاريخ 16 نوفمبر 2022 قرارا توجيهيا يتعلق بضبط قواعد النفاذ وتغطية الحملة الانتخابية التشريعية بوسائل الإعلام والاتصال السمعي البصري، مؤسسة قرارها ذاك على الدستور والقانون الانتخابي وكذلك المرسوم عدد 116 المنظم لحرية الاتصال السمعي والبصري. ويعدّ هذا القرار سابقة هي الأولى من نوعها منذ الثورة، حيث كانت الهايكا وهيئة الانتخابات دأبتا على إصدار قرار مشترك قبيل الانتخابات ينظّم الموضوع المذكور. ردّا على القرار الذي اعتبرته هيئة الانتخابات “أحاديا”، قامت بدورها بإصدار قرار ترتيبي مؤرخ في 18 نوفمبر 2022 حيال نفس الموضوع يتضمن أحكاما مختلفة عن تلك التي أقرتها الهايكا، معتبرة أنّ لهيئة الانتخابات “الولاية الكاملة على الشأن الانتخابي دون سواها” بمقتضى الفصل 134 من “الدستور الجديد”. هذا واعتبرت هيئة الانتخابات على لسان نائب رئيسها أنّه أمام مماطلة الهايكا في إصدار مشروع قرار رغم التنبيه عليها، ارتأت من باب المسؤولية الوطنية ضرورة إصدار هذا القرار وذلك لردع الهايكا وضمان تغطية حملة انتخابية شفافة.

ردّا على ذلك، أصدرت الهايكا بيانا بتاريخ 19 نوفمبر 2022 عبّرت من خلاله عن رفضها لقرار هيئة الانتخابات، مؤكدة على أنّ تأخر إصدار قرار مشترك يعود لتعنّت هيئة الانتخابات وتعذّر التواصل معها وتدخّلها في مهام الهايكا على غرار الانطلاق في تسجيل حصص التعبير المباشر من دون الرجوع إليها، كما أكّدت على تمسكها بصلاحياتها واحتفاظها بحقها في اللجوء إلى القضاء ضدّ القرار عدد 31 لسنة 2022.

في المقابل، صرّحت هيئة الانتخابات أنها لن تعتمد التقاريرَ التي ستصدرها الهايكا خلال مراقبتها للتغطية الإعلامية للحملة -في مخالفة صريحة للقانون الانتخابي- وأنّها ستباشر بمقتضى قرارها “تعويض” الهايكا في هذا المجال، عبر إحداث خلية رصد للحملة تابعة لها. من الجانبين، بدا الاتهام الأبرز هو اتخاذ قرارات أحادية، باسم “تولّي المسؤولية الوطنية”، فما هي أسباب هذا الصراع؟

صراع الهيئتين: خلافات وتسويف ففرض الأمر الواقع

يعود صراع الهيئتين، تحت وطأة التدابير الاستثنائية، إلى ما قبل فترة الاستفتاء. حيث بدأت بوادره بالبروز في خصوص القرار المشترك لتنظيم حملة استفتاء 25 جويلية 2022، حين اختلفت هيئة الانتخابات مع الهايكا حول من يمكن أن يُغطّى إعلاميا خلال الحملة. ففي حين كان أعضاء مجلس الهايكا يدفعون في اتجاه  تشريك المقاطعين في الحملة وفتح المجال لهم للتعبير عن مواقفهم، كانت هيئة الانتخابات في مرحلة أولى متجهة نحو إقصاء هاته الفئة الواسعة من المشهد السياسي والاقتصار على المشاركين في الحملة سواء كانوا داعمين أو رافضين لمشروع الدستور. خلاف أدّى في بدايته إلى تأخر إصدار القرار المشترك وأفضى في نهايته إلى عدم منع وسائل الإعلام من استقبالهم.

بعيد الاستفتاء، لم تخفِ الهايكا موقفها من توظيف الإعلام العمومي للقيام بحملة انتخابية لصالح ال “نعم” في الاستفتاء. فقد تحوّلت بعض البرامج على القناة الوطنية إلى غرفة دعاية.اعتبرت أنّه لا يمكن مواصلة نفس التمشي خلال حملة الانتخابات التشريعية. وهو ما جعلها تطالب الحكومة بصفة مستعجلة بتسمية مديرعامّ للتلفزة الوطنية حسب أحكام القانون، خلفا للمديرة العامّة بالنيابة، وذلك احتراما لمبدأ تكافؤ الفرص بين المترشّحين و تكريسا لمبدأ حياد المرفق العمومي. إلاّ أن حكومة بودن لم تستجِب لهذا الطلب إلى اليوم. علاوةً على ذلك، انطلقتْ هيئة الانتخابات في التواصل مع المترشحين لتسجيل حصص التعبير المباشر، وأيضا مع وسائل الإعلام حول دورات تكوينية في خصوص إدارة الحملة، من دون التشاور مع الهايكا أو إصدار القرار المشترك المنظّم لذلك. كلّ ما سبق دفع الهايكا إلى إصدار قرار أحادي الجانب يوجّه وسائل الإعلام في إدارة الحملة. هذا الموقف جعل الهايكا محشورة في خانة “معارضي” المسار وهو ما جعل هيئة الانتخابات تردّ عبر قرار مضادّ وتنبّه بضرورة احترامه، دون غيره من قبل الإعلام باسم “تحمّل المسؤولية التاريخية”.

اختلاف المنطلقات وحتميّة الفشل

لئن لم نرَ موقفا للهايكا حيال تقويض مؤسسات دستور 2014 وحذفها من الهيئات صلب دستور الرئيس، فإنّها اليوم تتمسك على لسان أعضاء مجلسها بكونها ليس فقط هيئة تعديلية بل في جوهرها سلطة “مضادّة” من دورها حماية الانتقال السلس للسلطة وضمان شفافيّة قصوى لمسار تسليمها. في المقابل، تتمسك الهيئة المعيّنة للانتخابات بالبعد الإجرائي الصرف وتضع نصب عينيها المسار التقني لها مع السهر على “تطهيرها” من أيّ بعد سياسي، على الرغم من كون الموعد الانتخابي لحظة سياسية بامتياز. تنطلق الهيئتان من فهميْن متناقضيْن لدوريْهما قد يعود للتاريخ المختلف لكلّ منهما. فقد نشأت الهايكا بمقتضى المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المنظّم لحرية الصحافة والإعلام والذي أنشأ الهيئة الحالية كهيئة وقتية عهدتها محدودة بستّ سنوات، إلى حين إحداث “هيئة الاتصال السمعي البصري” التي كرّسها دستور في 2014 في الفصل 127 منه، قبل أن يتمّ الانقلاب عليه بقوّة التدابير الاستثنائية. اليوم توضع شرعيّة الهايكا في الميزان ولا يتوانى المناهضون لصوتها المرتفع نسبيا، خاصة في الآونة الأخيرة، عن اعتماد انتهاء مدة ولايتها كحجّة لضربها وتولي صلاحياتها بمقتضى القرارات الترتيبية. إلاّ أنّه لا يجب إغفال أنّ مشروع قانون أساسيا لهيئة الإعلام السمعي البصري كان مطروحا طيلة سنوات على طاولة المناكفات الحزبية وهو ما منع رؤية هذه الهيئة النور، على غرار عديد الهيئات الدستورية الأخرى. تاريخ الهيئة كافٍ لفهم موقفها اليوم وفهم موقف هيئة الانتخابات المعيّنة منها. فهذه الهيئة التي تعدّل تكوينها بقوّة مراسيم الرئيس تتمسك بتقنيّة عملها وتعففها عن السياسة في حين أنّها تؤسس لمسار سياسي أحادي عبثيّ.

نتائج حروب النصوص والصلاحيات

أسفرت حرب المشادات الكلامية بين الهيئتين على مدى أشهر، عن قرارين ينظمان نفس الموضوع من هيكلين يحتّم القانون أن تشتركا في سنّه. الأوّل صادر عن الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري والذي جاء توجيهيا مكتفيا بخطوط عريضة من شأنها توجيه وسائل الإعلام من حيث المبادئ العامة لادارة الحملة الانتخابية، تنظيم حقّ الردّ وكيفية النفاذ المتساوي إلى وسائل الإعلام والتزامات هاته الأخيرة بالإضافة إلى تنظيم الدعاية الانتخابية غير المباشرة. أمّا في الأحكام الختاميّة، فقد شدّدت الهيئة على مراقبتها لمدى احترام فحوى قرارها التوجيهي متمسكة بحقها في تسليط العقوبات المكرّسة قانونا ومؤكّدة على أنّها ستمدّ هيئة الانتخابات بالخروقات والقرارات المتخذة من قبلها.

في المقابل، ردّت هيئة الانتخابات بإصدار قرار خاص بها، ضمّنت فيه فصولا توسّع من مشمولاتها المحددة بمقتضى الدستور وتضرب جوهريا صلاحيات الهايكا. لعلّ أغرب ما ورد في قرار هيئة الانتخابات تنصيصها صلب الفصل الأول الجديد على أنّ للهيئة “الولاية الكاملة على الشأن الانتخابي دون سواها” عوض صلاحية إدارة الانتخابات والاستفتاءات وتنظيمها والإشراف عليها في جميع مراحلها، وضمان سلامة المسار الانتخابي ونزاهته وشفافيته والتصرّيح بالنتائج كما نصّ عليه دستور الرئيس. وهو ما اعتبرته الهايكا خرقا خطيرا للفصل 134 من الدستور والقانون الانتخابي برمته على اعتبار ما سينجر عنه من فوضى في إدارة التغطية الإعلامية للحملة الانتخابية ومن إقصاء لمختلف الأطراف المتدخلة في الشأن الانتخابي بما في ذلك الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري ومحكمة المحاسبات والمحكمة الإدارية.

ترجمت هيئة الانتخابات “ولايتها الكاملة” على الشأن الانتخابي من خلال إسنادها لنفسها صلاحية مراقبة الحملات الانتخابية بوسائل الإعلام والاتّصال السمعي والبصري كما نصّبت نفسها مكان الهايكا في خصوص تسلِّم المخططات التفصيلية للبرامج المخصصة لتغطية الحملة الانتخابية ومتابعتها وتحديد شروط إنتاج وعرض حصص التعبير المباشر شكلا ومدة وتوقيتا وترتيبا وذلك عبر مذكّرة تفصيلية ستصدر لاحقا عن هيئة الانتخابات بالتنسيق مع مؤسستي الإذاعة والتلفزة التونسيتين. علاوة على ذلك أحدثت الهيئة ما يسمّى بـ”خليّة رصد الحملة” والتي “تتولى رصد الحملة في جميع البرامج الإخبارية، والحوارية، أو حصص التعبير المباشر” في اعتداء مباشر على صلاحية الرقابة السمعية والبصرية التي يسندها المرسوم عدد 116 المتعلق بحريّة الاتصال السمعي والبصري وكذلك القانون الانتخابي صراحة للهايكا. كما ألزم القرار الخلية بإحالة تقارير يومية على مجلس الهيئة على أن لا يتمّ اعتماد غير تلك التقارير عند الإعلان عن النتائج، في إقصاء ضمني لتقارير الهايكا.

في هذا الصدد يجب التذكير بأنّه على الرغم من تنقيح سعيّد القانون الانتخابي عن طريق المرسوم عدد 55 المؤرخ في 15 سبتمبر 2022 في عدّة مواضع ليتلاءم مع مشروعه القائم على إجراء انتخابات على الأفراد، فانّه لم يقم بإدخال تعديلات على الجزء المتعلّق بصلاحيات الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري.

نقابة الصحفيين تصطفّ مع الهايكا

أمام تعنّت هيئة الانتخابات وتمسّكها بفرض قرارها على وسائل الإعلام من خلال بيان أصدرته بتاريخ 22 نوفمبر 2022، أعربت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين عن كونها ترفض قطعيا “احتكار هيئة الانتخابات للولاية على المشهد السمعي والبصري أثناء المسار الانتخابي” داعية إياها للتراجع عن قرارها “غير القانوني وغير القابل للتطبيق”، معتبرة أن القرار الصادر عن هيئة الانتخابات “متسرع ومزاجي” و يندرج في مواصلة لسلسلة الأخطاء الفادحة للهيئة. في الواقع، اصطفّت النقابة إلى جانب الهايكا معتبرة أنّ البطء الحاصل في إصدار القرار المشترك تتحمّل مسؤوليته هيئة الانتخابات، مشدّدة على أنّها خرقت المرسوم 116 المحدث للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري. كما اعتبرت النقابة أنّه حتى في صورة غياب قرار مشترك فإن الولاية العامة للهايكا على وسائل الإعلام تظل نافذة بمقتضى المرسوم، وأن تلويح هيئة الانتخابات بتسليط عقوبات على وسائل الإعلام السمعية البصرية  سيزيد من توتير الأوضاع في هذه الفترة الانتخابية.

في ظلّ رفض نقابة الصحفيين الانصياع لقرار هيئة الانتخابات وتشبث الهايكا بممارسة صلاحياتها وتهديدها باللجوء للقضاء ضدّ الهيئة الأولى، تتبلور ملامح مقاومة للمسار الانتخابي المفروض بقوّة التدابير الاستثنائية التي طالت. مقاومة لم نكن نرى لها أثرا منذ أشهر خصوصا مع تقويض المؤسسات الراعية للمسار الانتخابي ودخولها تحت جلباب الرئيس. لئن كان الموضوع في ظاهره تقنيّا فإنّه في كنهه تجاذب بين مؤسسات مطيعة جعلت من الانتخابات مسارا عبثيا لتطبيقه مفرغا من معناه وبصيص مقاومة مدنيّة ضدّ مشروع الرئيس.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات إعلامية ، أحزاب سياسية ، نقابات ، مرسوم ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني