في خضم البحث عن زيادة إنتاجية القضاء، برز توجه خطير في أعلى الهرم القضائي، مفاده دعوة القضاة الشباب الى الاختزال في تعليل أحكامهم. وقد تولى الدعوة مجلس القضاء الأعلى في جلسة مع قضاة المحاكم الابتدائية انعقدت في 13-6-2014، وذلك في تماه مع انتقادات النواب حول إنتاجية القضاة. فوفق المجلس، التميز القضائي يكمن ليس في سدادة التعليل ولا في دقته، بل في الإسراع في إنهاء القضايا وإصدار الأحكام. إزاء هذا الخطاب الذي يشكل اليوم تهديداً كبيراً للعمل القضائي، يهم المفكرة إعادة إبراز أهم الوظائف المنسية لتعليل الأحكام (المحرر).
تعليل الأحكام هو حكماً إحدى أبرز ضمانات المحاكمة العادلة. وهو يشكل الميزة الأساسية للقضاء، الذي عليه خلافاً لمجمل السلطات العامة، أن يستمع الى الحجج والمطالب المدلى بها أمامه وأن يصوغ أجوبته عليها على أساس المبادئ والأحكام القانونية، وأن يخضع من خلال ذلك أعماله لرقابة الرأي العام. وفي هذا الإطار، سنستعرض أهم الوظائف المرتقبة من موجب التعليل، ومنها الوظائف المتصلة مباشرة بحق التقاضي، والوظائف المتصلة بتطوير أداء المؤسسة القضائية أو بتطوير الدور الاجتماعي للقضاء أو أيضاً بتعزيز الشفافية والمساءلة والرقابة العامتين.
أولاً: في وظائف موجب التعليل من ناحية حق المتقاضي ربما، تبدو هذه الوظائف الأكثر حضوراً في المواثيق الدولية وفق ما نبينه أدناه، وهي تجعل من موجب التعليل “حقاً للمتقاضين في ذمة القاضي”[1].
1- حق المتقاضي باستماع المحكمة الى حججه:
وهذا ما نصت عليه المادة 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية اللتان تنصان على أن “كل شخص لديه الحق بأن تُسمع قضيته (…) من قبل محكمة مستقلة ومتجردة”. وقد استعادت المادة السادسة فقرة أولى من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان العبارة نفسها لجهة حق كل شخص “بأن تسمع قضيته”. وقد فسرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان هذه الفقرة في قرارها Dulauransضد فرنسا[2]بقولها إن “الحق بمحاكمة عادلة… لا يمكن أن يكون فعّالاً إلا إذا كانت الملاحظات “مسموعة” فعلياً vraiment « entendues »أي إذا حظيت بدراسة فعليةdument examinées من قبل المحكمة التي تنظر في الدعوى.
وقد شدد بعض الفقهاء الفرنسيين[3] على أهمية هذه الوظيفةdroit d’être entendu . فحق اللجوء الى المحكمة ومعه حق الدفاع يكونان بمثابة “صدفة فارغة “coquille vide، و”ضمانة وهمية محض” une garantie purement factice[4]إذا لم تدرس المحكمة فعلياً لوائح الخصوم ولم ترد على إدلاءاتهم. وهذا ما يحصل حكماً إذا سمحنا للمحكمة بأن لا ترد على الإدلاءات المقدمة من المتقاضي.
وفي الاتجاه نفسه، رأت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في قرار صادر في 2004 أنها ترفض القرينة التي ترى أن الإدلاء الذي لم يتطرق إليه الحكم يُعتبر مدروساً ومرفوضاً[5].
2- يشكل موجب التعليل ضمانة لاستقلالية القاضي وعدم تحيزه:
يشكل موجب التعليل عاملاً أساسياً في ضمان حيادية المحكمة واستقلاليتها، وذلك على أساس أنها لم ترتكز في أحكامها على تحيزات شخصية أو مواقف مسبقة، بل على أساس معطيات واقعية وقانونية واضحة[6]. وهذا ما نقرؤه في قضية Piersackضد بلجيكا أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حيث جاء أن “على القاضي أن يقدم ضمانات كافية لاستبعاد الشكوك عن تحيز المحكمة”[7]. فالعدالة يجب ألا تتحقق وحسب بل يقتضي أن يكون تحققها مرئياً عملاً بالمقولة الشهيرة: ” Justice must not only be done, it must also be seen to be done”[8]. ومن أخطر الممارسات التي ينتظر من موجب التعليل أن يضع حداً لها هي ممارسة الأحكام النموذجية، التي تشكل على العكس من ذلك تماماً، أداة لترسيخ الآراء النمطية المسبقة.
3- يسهم موجب التعليل في عقلنة الحق بالمراجعة:
يسمح التعليل للمتقاضي بدرس حظوظ نجاح الطعن وتالياً باتخاذ قراره من الطعن أو عدمه وهو على اطلاع كامل على الأسباب التي تناقض مطالبه. فقد جاء في عدد من القرارات الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن “على القضاة أن يحددوا بوضوح الأسباب التي استندوا اليها كافة (…) على نحو يمكّن المتهم من ممارسة طرق الطعن المتاحة أمامه ممارسةً مفيدة ومجدية”.[9] وفي قضية Baucherضد فرنسا، رأت المحكمة الأوروبية أنه تبعاً لـ”عدم استطاعة المتقاضي الحصول على الحكم كاملاً قبل انتهاء مهلة الاستئناف، لم يكن لديه حل غير الاستئناف من دون الاطلاع على تعليل المحكمة”، لتخلص الى القول بوجود انتهاك لحقه بالدفاع.
وكتب Pascal Gilliauxأن على الذي يخسر دعواه أن يقيم حظوظه بالطعن وأن يحدد بدقة عيوب الحكم المطعون فيه[10].
ثانياً: في وظائف موجب التعليل من ناحية تعزيز الأداء القضائي:
4- يخفف موجب التعليل من احتمال ارتكاب أخطاء قضائية:
من المسلّم به أن أحد أهداف التعليل هو التخفيف من احتمال ارتكاب أخطاء قضائية من خلال استعراض الحجج المدلى بها وتقييمها على ضوء الإثباتات المتوافرة والقوانين المعمول بها. فمن شأن عملية مماثلة، تقرب الى عملية تحليل رياضي، أن تسمح للقاضي بالتوصل الى نتيجة مبررة قانوناً[11]، بحيث يخضع توجهاته لاختبار المنطق والمادة القانونية contrôle de légalité[12].
5- يسمح موجب التعليل للمحاكم الناظرة في الطعون القضائية بأن تمارس رقابتها بفعّالية:
وهذا ما نقرؤه في قرار Taxquetضد بلجيكا الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان[13] حيث جاء صراحة أن غياب التعليل من قبل محكمة الجنايات يجرّد محكمة التمييز من إمكانية ممارسة رقابتها بفعّالية ومن استبيان النقص أو التناقض في الحجج التي استند اليها الحكم.
6- يسمح موجب التعليل للمحاكم بإنضاج القضية من خلال بناء تراكمي بين مختلف درجاتها:
وكنتيجة مباشرة لما تقدم، يسمح موجب التعليل في ظروف العمل القضائي الجاد للقضاة بأن يطوّروا مع كل درجة الحجج التي تتضمنها الأحكام المطعون بها، في تفاعل مع فرقاء الدعوى، أقله مع الفريق الخاسر، الذين يذهبون غالباً في الاتجاه نفسه، في سعي حثيث منه لإقناع القضاة الأعلى درجة بخطأ الأحكام الصادرة عن الهيئات القضائية الأدنى درجة.
7- يسمح موجب التعليل بتعزيز قدرات القضاة البحثية والتحليلية:
من الطبيعي أن يؤدي موجب التعليل، بما يفترضه من تطوير لقدرة القضاة على الإقناع والمنهجية المتبعة منهم، في حال احترامه، الى تعزيز قدرات القضاة، فيكونون ثقافة قضائية واجتماعية واسعة من شأنها أن تخولهم تطوير اجتهاداتهم لاحقاً.
ثالثاً: في وظائف موجب التعليل من ناحية تعزيز الدور الاجتماعي للقضاة:
8- يرمي موجب التعليل الى إقناع المتقاضي بأن العدالة قد تحققت وتالياً الى الإسهام في تحقيق “السلم القضائي”:
في هذا الإطار، كتب Pascal Gilliauxفي كتابه: Droit(s) europeen(s) à un procèséquitable(أي الحق(وق) الأوروبي(ة) بمحاكمة عادلة)[14]، أن تعليل الأحكام يرمي أساساً الى إقناع المتقاضين بأن العدالة قد تحققت تحقّقاً مناسباً وأن جميع حجج الفرقاء قد تم التدقيق فيها. ومثالاً، يسهم هذا الأمر في تحقيق “السلم القضائي” paix judiciaire. ومن هذه الزاوية، يبدو تعليل الحكم خدمة أساسية يدين القاضي بها للمتقاضين، أي بذل الجهد لإقناعهم بما يراه عادلاً، أملاً بإنهاء أسباب النزاع بين المتقاضين[15].
9- يسهم موجب التعليل في تعزيز المنظومة القانونية وهامش الاجتهاد القضائي:
يسهم موجب التعليل في إنتاج القاعدة القانونية وتفسيرها وتحديد كيفية انطباقها[16]. وأهم من ذلك، هو أن التعليل يسمح بابتداع مناهج عمل قضائي أو بترسيخها على نحو من شأنه أن يوسع هامش القضاء على الاجتهاد. ومن هذه الزاوية، يسهم موجب التعليل في تعزيز الدور الاجتماعي للقضاء في تعزيز المنظومة القانونية وإعادة الانسجام اليها وفق ما بات يسمى في أوروبا بالدور الخلاق للقاضي pouvoir créateur[17].
10- يسهم موجب التعليل في توحيد الاجتهاد:
يسهم موجب التعليل أيضاً في توحيد الاجتهاد من قبل المحاكم العليا.
رابعاً: في وظائف موجب التعليل من ناحية تعزيز الشفافية ومقتضيات الديمقراطية:
11- يعزز موجب التعليل ثقة الرأي العام بعدالة موضوعية وشفافة:
وهذا ما أوضحته المحكمة الأوروبية في قضية Taxquetضد بلجيكا عندما اعتبرت أنالتعليل يلعب دوراً ضامناً ضد العشوائية l’arbitraire، وهو يعد من هذه الزاوية مرتكزاً أساسياً لترسيخ ثقة الرأي العام بعدالة موضوعية وشفافة، تشكل حكماً أحد أركان المجتمع الديمقراطي[18].
12- يسهم موجب التعليل بإخضاع الأعمال القضائية للرقابة والمساءلة العامتين:
وهذا ما كرّسه أيضاً القرار الصادر عن المحكمة الأوروبية في قضية Hirvisaariضد فنلندا عام 2001:
“It is only by giving a reasoned decision that there can be public scrutiny of the administration of justice”[19]
أي ما معناه أن موجب تعليل القرارات القضائية ضروري لإجراء رقابة عامة حقيقية على عمل القضاء.
٭مجازة في الحقوق, من فريق عمل المفكرة القانونية
نشر هذا المقال في العدد | 19 |تموز/يوليو/ 2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
حضرات النواب، حدثونا عن إنتاجيتكم
[1]Laurent Berthier et Anne-Blandine,« La motivation des décisions de justice et la Convention européenne des droits de l’homme » –Caire – RFDA 2009. 677
[2]CEDH, 21 Mars 2000, Dulaurans c. France
[3]Laurent Berthier et Anne-Blandine,«La motivation des décisions de justice et la Convention européenne des droits de l’homme » –Caire – RFDA 2009. 677
[4]Louis BORE,La motivation des décisions de justice et la Convention européenne des droits de l’homme, JCP la Semaine Juridique 2002 Page 122
[5]CEDH, Affaire Quadrelli c. Italie, 11 janvier 2000
[7]CEDH, 1
er octobre 1982, Piersack c. Belgique
[8]Louis BORE، مذكور أعلاه.
[9]CEDH 16 décembre 1992, Hadjianastassiou c/ Grèce,
[10]Droit(s) européen(s) à un procès équitable, Pascal Gilliaux, page 675, et en ce sens CJCE 14 septembre 2006, ASML C-283/05
[11]Laurent Berthier et Anne-Blandine، مذكور أعلاه.
[12]– Frédéric Zenati-Castaing, La motivation des décisions de justice et les sources du droit– D. 2007. 1553.
[13]CEDH, 16 novembre 2010, Affaire Taxquet c. Belgique.
[14]Droit(s) européen(s) à un procès équitable, Pascal Gilliaux, page 675
[15]Laurent Berthier et Anne-Blandine،مذكور أعلاه.
[16]La motivation des décisions de justice et les sources du droit – Frédéric Zenati-Castaing – D. 2007. 1553
[19]CEDH, 27 Septembre 2001, Affaire Hirvisaari v. Finland