“هيدي أسوأ جلسة بتاريخ مجلس النواب”، عبارة ردّدها أحد أكبر الموظّفين سنّاً ودرجةً في مجلس النواب والحاضر في جلسات هيئته العامة منذ عشرات السنوات، وذلك عند خروج الحضور من قاعة الهيئة العامة. رأي الموظف ليس فريدا، بل هناك إجماع بين جميع من حضر الجلسة من نواب وصحفيين وموظفين ومدعوّين على ذلك. فجلسة الساعات السبع عقب يوميْن كامليْن تخلّلهما 41 كلمة من النواب كانت أشبه بمهزلة على جميع الأصعدة، بخاصّة على صعيد إدارة الجلسة، فقد فقد رئيس المجلس النيابي السيطرة عليها لفترات طويلة، لتُصبح أشبه بصفّ دراسي في مدرسة ابتدائية غابت عنه المعلّمة، فارتفعت أصوات الحاضرين دفعة واحدة من دون أيّ اعتبار للظرف أو إدراك لأهمّية التشريع الذي يُفترض أن يقوموا به.
نستعرض فيما يلي مشاهدات من الفوضى التي أحاطت الجلسة، توثيقا لأحداثها الفريدة التي أثّرت بشكل مباشر على صحّة ودقّة جميع مواد الموازنة.
برّي يفقد السيطرة على الجلسة
ليست من عادات رئيس المجلس النيابي نبيه برّي أن يترك الأمور تسير خلال الجلسات من دون قرارات حازمة، افتتاح واختتام النقاش كان دائما يمرّ عبره، وما لا يرغب بأن يتم الحديث به كان يصعب حتّى الإيحاء به خلال الجلسة. لكنّ الأمور تغيّرت في الفترة الأخيرة، فقدرة برّي لم تعد تسمح له بإدارة الجلسات كالسابق، وهو ما دفع نواب كتلة التنمية والتحرير مرّتيْن للتصدّي لنواب “التغيير” عند وقوع نقاش بينهم وبين رئيس المجلس، وهو دفاع وتدخّل لم يُسجّل احتياج برّي له من قبل. ويتظهّر بذلك، شخصية ثانية لبرّي عن تلك التي شاهدها الجميع عند البث المباشر لجلسات الموازنة، حيث ظهر برّي حازما مستبدّا عند تعاطيه مع النائب ملحم خلف على خلفية طلبه الكلام بالنظام مهدّدا بإخراجه من الجلسة.
برّي الذي أُنهك كجميع النواب والحاضرين من ثلاثة أيّام من النقاشات، ترك كرسي الرئاسة وخرج عدّة مرّات إلى خارج القاعة (وهو أمر قليل الحصول في الجلسات عادة) تاركا لنائبه الياس بو صعب إدارة الجلسة إلى حين عودته. لكن حتّى عند عودة برّي إلى القاعة، كان يترك إدارة الجلسة لبو صعب في ممارسة لم تحصل من قبل، حيث أدار الأخير أكثر من ساعة من الجلسة. وبطبيعة الحال، كان يزداد منسوب الفوضى مع ترؤس بو صعب للجلسة، وقد تدارك برّي الأمر في مرّتيْن ليعود ويأخذ مكانه ليُنهي نقاشا قد طال حول موضوع معيّن. إلّا أنّه حتّى إدارة برّي للجلسة لم تكن في أحسن أحوالها، فاختلطت عليه أرقام الموادّ في الكثير من المرّات ما استدعى تنبيهه من قبل النواب على مواد سها عن طرحها، إضافة لوضوح عدم اطّلاعه على جميع مواد الموازنة وعدم إدراكه معاني كلّ منها.
الفوضى
تمثّلت الفوضى خلال الجلسة بأشكال عدة، أهمها الأحاديث الجانبية التي طغت على النقاشات.
فوضى الأحاديث الجانبية
كانت الساعات السبع أشبه بعقاب جماعي على جميع من في القاعة. الجميع كان يتحدّث في الوقت نفسه، من دون أي احترام أو إنصات للمتحدّث الذي يُناقش نُقطةً معيّنة، حيث غالبا كان من يتحدّث عبر الميكروفون يتحدّث مع نفسه أو مع ثلّة قليلة من النواب، بينما الآخرون منهمكون في أحاديث جانبية. وقد طلب المتحدّثون عشرات المرّات خلال الجلسة من زملائهم الإنصات لهم من دون نتيجة تُذكر. كان الأمر أشبه بسوق شعبي أو بازار لجهة الأصوات المتداخلة الصادرة، ولعلّه الأمر الوحيد الإيجابي المترتّب عن هذه الفوضى لجهة إعادة الحياة لأسواق ساحة النجمة القديمة.
دفع هذا الأمر رئيس المجلس النيابي التهديد في غير مرّة برفع الجلسة، وقد أيّد ذلك أكثر من نائب في أكثر من مرّة كسليم عون وإبراهيم كنعان اللذين اعتبرا أنّه يستحيل التشريع في هكذا أجواء. وهو ما أبرزته أيضا النائبة بولا يعقوبيان، أمّا النائب جهاد الصمد فقد اعتبر أنّ ما يحصل هو “تشليع” وليس تشريع. وفي ظلّ الكم الهائل من الأصوات، اضطرّ النواب عشرات المرّات خلال الجلسة لإعادة مداخلاتهم بسبب عدم تمكّن زملائهم من سماع ما تقدّموا به. وقد وصل الأمر إلى حدّ طلب يعقوبيان من رئاسة المجلس توزيع “بنادول” على الموجودين بسبب ارتفاع الأصوات على مدار ساعات.
البقاء للأقوى
في ظلّ الفوضى الحاصلة، كان الحديث يُعطى لمن يفرض نفسه على النقاش، بقوّة صوته وارتفاعه وسرعته في تحويل الحديث إليه، حيث فشلت آلية منح الكلام لطالب الإذن. وقد استطاع النائب فراس حمدان من خلال جلوسه في منتصف القاعة وصوته المرتفع وجرأته في الحديث بفرض نفسه متحدّثا في العديد من المواد (10 مواد)، في حين وردت امتعاضات عدّة من النواب سليم عون وهاغوب تيريزيان وحليمة القعقور بعد عدم حصولهم على دور للحديث رغم رفع أيديهم طالبين الكلام.
نسيان التصويت على مادّتيْن… وعلى الواردات
بسبب النقاش الذي بدا وكأنّه سيستغرق وقتا في ما يتعلّق ببعض المواد، عمد رئيس المجلس إلى تعليق مناقشة هذه المواد حتّى الانتهاء من المواد الأخرى طالبا التشاور حولها للخروج بصيغة معيّنة اختصارا للوقت والنقاش، وهو ما ساهم بجزء من الفوضى جرّاء الأحاديث الجانبية الكثيرة.
إلّا أنّ الأهمّ في ذلك هو أنّه تمّ نسيان مناقشة المادتيْن الخطيرتيْن (56 و57) المتعلّقتيْن بإعادة تقييم الشركات لموجوداتها وأصولها الثابتة وعقاراتها ومخزونها مقابل ضرائب مخفّضة أو إعفاءات. فبعد أن تمّ تعليقها حتّى نهاية الجلسة، صوّت ختاما على مواد أخرى معلّقة إلّا أنّه تمّ تجاهل هاتين المادتيْن، على الرغم من صراخ أكثر من نائب لأكثر من مرّة للتذكير بأنّه لم يتم مناقشة هذه المواد والتصويت عليها، إلا أنّ الصراخ لم يُستجب له حيث تزامن مع صُراخ آخر بخصوص أمور أخرى ما خلط الأمور بعضها ببعض، مع احتمال أنّ برّي قد سمع ذلك إلّا أنّه قرّر عدم النقاش بهما بسبب الإنهاك الذي مُني به مع جميع الحاضرين.
لا بل أكثر من ذلك، في حين تنص المادة 118 من النظام الداخلي لمجلس النواب على التصويت على نفقات الموازنة ثمّ على مواد مشروعها ثمّ على إيراداتها، فقد اكتُفي بالتصويت على النفقات والمواد من دون أن يتم التصويت على الإيرادات أو تلاوتها أو مناقشتها.
التصويت على أي أرقام للموازنة؟
إنّ محور وهدف كلّ النقاش والمواد والبنود في الموازنة، هما المادّتان 2 و3 اللتان تتعلّقان بتحديد نفقات وإيرادات الموازنة المرتقبة للعام المقبل. وقد كان منطقيا جدّا ألّا يُصوّت على هاتيْن المادتيْن أولا وأن تُتركا للنهاية للتصويت على أرقام صحيحة بعد التعديلات التي ستُجريها الهيئة العامة على المشروع والتي ستنعكس بطبيعة الحال على هذه الأرقام. إلّا أنّ الصدمة قد وقعت بالتصويت على المادتيْن بعد انتهاء نقاش المواد الأخرى من دون أي نقاش حول الأرقام ومن دون ذكرها حتّى، على الرغم من العديد من التعديلات التي أجرتها الهيئة العامة على المواد والتي ستؤثّر حكما على أرقام النفقات والإيرادات المقدّرة. وقد حاول النائب رازي الحاج، بالصراخ أيضا، السؤال عن ما هي الأرقام التي صُوّت عليها وكيف أصبحت، من دون أن يلقى أي جواب.
كيف صُوّت على الموازنة؟
كعادته، يلجأ رئيس المجلس النيابي لحسم نتائج التصويت على القوانين من تلقاء نفسه من دون الحاجة للنظر إلى عدد الأيادي المرفوعة أو المناداة على النواب. وقد أثار ذلك إشكالية في مرّتيْن خلال التصويت على الموازنة.
الأولى، عند التصويت على المادة 38 (وهي مادّة تم ترحيلها إلى نهاية الجلسة حتّى يحصل اتّفاق عليها، ولم يحصل) المتعلّقة بمضاعفة القيم التأجيرية التي يُستوفى على أساسها الرسوم البلدية، حيث اعتبر برّي من دون أن ينظر أنّ التصويت كان مع إلغاء المادة، وهو أمر غير صحيح أثار موجة من الاعتراضات في القاعة ما ألزمه بإعادة التصويت، ليتبيّن أنّ الأكثرية كانت مع إقرار المادّة كما هي.
أمّا الثانية فكانت عند التصويت على القانون برمّته في نهاية الجلسة بمادّة وحيدة حيث إمّا أن تُقر الموازنة وفقا للتعديلات التي أُدخلت عليها، أو تسقط. وقد صدّق رئيس المجلس الموازنة بسرعة قياسية من دون النظر أيضا إلى الأيادي، ومن دون المناداة على النواب. وقد أثار ذلك امتعاض العديد من النواب حيث طلب 5 منهم التصويت بالمناداة، إلّا أنّ برّي رفع الجلسة وغادر على عجل بعدما نال منه ومن الجميع الإنهاك.
فوضى المواد والاقتراحات
حاول رئيس المجلس النيابي إنهاء الجلسة بأسرع وقت ممكن. وقد ترجم ذلك بإقراره لمواد الموازنة بسرعة قياسية محاولا عدم بدء نقاش في قسم كبير منها، ما دفعه لتصديق عدد كبير من المواد المتتالية عند بدء تلاوتها من موظّف المجلس. وقد أدّى ذلك لفوضى عارمة، بحيث أنّ النواب عجزوا عن اللحاق بسرعة برّي، وكانوا دوما يعيدون النقاش إلى مواد سبق وأن أعلن برّي تصديقها (من دون تصويت فعلي طبعا)، لكونهم لم يتمكّنوا من نقاشها.
أكثر من ذلك، وفي ظلّ جوّ الفوضى الحاصل، برز ميل لدى النواب لطلب إدخال مواد غير موجودة في المشروع أو إعادة اقتراح مواد سبق وأن حذفتها لجنة المال والموازنة، فيما أمسى كبازار أو مزاد تعلو فيه المزايدات، علما أنّ جزءا كبيرا منها لا علاقة له بالموازنة أو بصلاحية المجلس النيابي كالذي اقترحه النائب علي حسن خليل حول تضمين الموازنة مادة ترفع سعر الدولار المصرفي من 15 إلى 25 ألف ليرة لبنانية. وقد أدّت سرعة برّي إضافةً إلى اقتراح مواد جديدة فجأة من قبل النواب إلى حالة من الضياع عجز فيها كل من في القاعة في العديد من الحالات عن فهم أي مادّة يحصل النقاش فيها، لا بل وصل النقاش العام إلى مواد مختلفة في نفس الوقت.
الفارق في الأداء في السرّ وفي العلن
مع انتهاء كلمة رئيس الحكومة وبدء مناقشة بنود الموازنة، طلب رئيس المجلس النيابي إطفاء البث المباشر. اعترض عندها النائب فراس حمدان، مذكرا بمبدأ علنية الجلسات الدستوري، إلّا أنّ برّي رفض ذلك مذكّرا بوجود الصحفيين ما يجعل الجلسة علنية. وبالتأكيد، لو كانت الجلسة منقولة لاختلف أداء النواب وانخفضت نسبة الفوضى التي شهدناها في الجلسة، فلا أحد يرغب أن يظهر أمام ناخبيه إلّا بمظهر النائب الرصين، لا المشاغب الذي رأيناه بعد إطفاء الكاميرات.
ولعلّ أبرز دليل على اختلاف الأداء بين وجود بثّ مباشر قطعه هو ما رصدناه من عدد مداخلات النواب. ففي حين تحدّث 41 نائبا خلال اليوميْن اللذيْن سبقا النقاش الفعلي لبنود ومواد الموازنة وهي المداخلات المنقولة على التلفاز، وصل عدد النواب اللذين تحدّثوا عن أكثر من مادّتيْن من المشروع خلال النقاش الفعلي بعد انتهاء البث المباشر إلى 20 نائبا فقط. ويُشكّل ذلك دليلا على انخفاض إنتاجية ومساهمة النواب في التشريع الفعلي عندما لا يندرج الموضوع ضمن إطار الظهور الإعلامي والشعبوي أمام الناخبين.