“
جبل من الأوبئة يجثم على صدر طرابلس والميناء. أطنانٌ من النفايات غير المفروزة أُلقيت عشوائياً على مدى عشرات السنين، فتحوّلت إلى كابوسٍ بيئيّ يهدد البيئة الشمالية. صرخات أهالي شمال لبنان لم تهدأ منذ أعوام: لا لمكب الموت. إتحاد بلديات الفيحاء الذي يضم بلديات طرابلس والميناء والقلمون والبداوي المسؤول الأول عن هذا الملف كان وجهة لاعتصامٍ مطلبي جديد.
يأتي الاعتصام في إطار الدعوات لضرورة خروج الثورة في طرابلس عن نطاق ساحة عبد الحميد كرامي (النور) وهو ما بدأ يُترجَمُ بشكل يومي من خلال اعتصاماتٍ أمام مقرات يعتبرها أهالي المدينة بؤراً للفساد.
عشراتُ الأشخاص تجمّعوا أمام مقر الاتحاد في الميناء على مقربة من جبل النفايات، واضعين الكمامات على وجوههم للوقاية من الجراثيم والروائح الكريهة. وشاركت في الوقفة أمهات مع أطفالهنَّ، بينهنّ عائشة عكاري وهي من سكّان القبة (ضواحي طرابلس) التي تصل رائحة النفايات إلى منزلها حسب اتجاه الهواء. وعن ذلك تقول: “منركض منسكّر الشبابيك لأنو الجو بيصير كلو مسموم”. وتتحدّث عن القلق الذي يتملّكها من أن يصيب مرض السرطان أحد أفراد أسرتها، وتستذكر وعود المسؤولين: “عندما بدأ العمل في هذه الأرض قيل لنا أنها ستصبح حديقة بعد أن تُستخدم للطمر وفرشوا لنا المستقبل بالأحلام الوردية لكنّنا حصلنا على سدّ عالٍ يحجب عنا البحر”. وتشير إلى الخجل عندما يأتي زوّار إلى طرابلس المشهورة برائحة بساتين الليمون، سائلةً نواب المدينة: “هل هذه رائحة الفيحاء؟”.
شارك عامر فيض الله في الوقفة الاحتجاجية ليس فقط بصفته من سكان الميناء بل أيضاً كونه عضواً في مجلس بلديتها ومطلعاً على ملابسات ملف النفايات. يقول فيض الله إن “اتحاد بلديات الفيحاء يصادر قرار أربع بلديات ويستغل صلاحياته بالتعاون مع السياسيين لتمرير صفقات مشبوهة غير سليمة مالياً وتعاقدياً”. ويشير إلى عدم تجاوب رئيس بلدية الميناء (الذي يرأس حالياً الاتحاد) مع أعضاء البلدية خلال الاجتماعات في المجلس “على سبيل المثال لم يُطلعنا حتى اليوم على قرار التمديد عمل الشركات المُشغّلة الصادر بتاريخ 9 تشرين أول 2019”. وتحدّث فيض الله عن مجموعة مخالفات تحصل في ملف النفايات “فالأرض التي تعمل عليها شركة لافاجيت هي ملك البلديات والمعدات والآليات هي ملك البلديات أيضاً، ومع هذا تتقاضى الشركة ما يقارب المليون دولار شهرياً لقاء أتعاب العمّال والمهام الإدارية”، مشيراً إلى تجاوزٍ يحصل في موضوع العمّال، “فبحسب ما ينص العقد على الشركة تأمين جميع العمّال وبالتالي دفع رواتب لهم، أما ما يحصل في الواقع فهو أنّ غالبية العمّال هم عمّال في البلدية”.
أما في ما يتعلّق بعملية الطمر، يؤكد عامر فيض الله أنّ “نسبة المواد التي يجري فرزها لا تتجاوز 5% وتذهب حوالى 95% من النفايات إلى المكب الذي لا يستوفي أدنى شروط التشغيل الصحية المنصوص عليها”.
ومن منظمي هذا الاعتصام يحيى الحسن (طبيب وناشط) الذي يذكّرُ بوعود قطعها جميع نواب طرابلس قبيل الانتخابات النيابية الأخيرة بإيجاد حلٍّ بيئي مستدام للمكب. وهي وعود ذهبت هباءً بعد وصولهم إلى المجلس النيابي. ويقول الحسن إنّ هناك دعاوى عدة رُفعت أمام القضاء ضد مجلس الإنماء والإعمار واتحاد بلديات الفيحاء والشركات المُشغّلة ANB وباتكو، ولم تصل الدعاوى إلى خواتيمها بعد. ويضيف “مطالبنا واضحة وهي أبسط حقوقنا. نريد خطة بيئية مستدامة بدفتر شروط تجري على أساسه مناقصة لتلزيم شركات جديدة بل التمديد الدائم للشركة نفسها”.
ويشير الحسن إلى أن اختيار مركز إتحاد بلديات الفيحاء للاعتصام أمامه هو “للإضاءة على مركز الصفقات والسمسرات، إذ إن ملف النفايات هو أكبر ملف فساد في طرابلس وجوارها حيث تتم التلزيمات بالتراضي ولا تطبيق لمبدأ الرقابة والمحاسبة”.
من جهته، يصف وليد زيادة (محامي) المشكلة في ملف النفايات بأنّ المعالجات تأتي دائماً جُزئية ومرحلية لذلك تذهب الجهود سدى من دون حل جذري: “نحن ضد التمديد لشركة لافاجيت المستمر لعدة سنوات بدل إجراء مناقصات”.
خيمة ثابتة أمام مالية طرابلس
بالتوازي مع التحرّك ضد المكب، وللمرة الأولى منذ اندلاع الثورة، استحدثت نقطة ثابتة للاعتصام في طرابلس خارج ساحة عبد الحميد كرامي وذلك مقابل مركز المالية على التل حيث نصبت خيمة إحتجاجية. وتقول الناشطة تيما سمير إنّه منذ بداية الحراك كان “تركيزنا على قطع الطرقات وتسكير مؤسسات الدولة والمصارف”، مشيرةً بحرقة إلى أنه “بدأ البعض بتخويننا واتهامنا بأنّنا مشبوهون وأقيمت حملة ضدنا لفتح الطرقات لا سيّما عند نقطة البالما، في وقت كانت فكرتنا تعطيل العمل في مؤسسات الدولة ومنع المظفين من الوصول إليها”.
وتضيف تيما أنّ “إقامة هذه الخيمة الثابتة هي ورقة ضغط بعدما تبيّن أنّ هذه السلطة تصم آذانها عن مطالب الناس ولم تبدأ حتى اليوم بالاستشارات النيابية الملزمة لا بل تقرّر الدعوة إلى جلسة لمجلس النواب بجدول أعمال يضم قانون عفوٍ عام مشبوه”.
أما اختيار المالية فيأتي بحسب تيما لأنّها “باب تدخل منه الأموال الطائلة لخزينة الدولة من دون أن تقدّم الدولة في المقابل الخدمات لنا كمواطنين، وهي أيضاً من المؤسسات التي يعشعش فيها الفساد”.
“