ثورة الياسمين كما يحلو للإعلام الغربي تسميتها أو ثورة الكرامة[1] و الحرية كما يتمسك الشعب بوصفها، كانت نتيجة حتمية لظمأ الشعب التونسي إلى العدالة. شرارتها التي اندلعت في سيدي بوزيد[2] أشعلت كامل الجهات و المناطق في البلاد وآلت إلى الإطاحة بنظام الدكتاتور الذي تجسدت فيه مقولة لويس الرابع عشر” الدولة هي أنا “L’Etat c’est moi.. فـ”بن علي” الذي حكم البلاد و العباد مدة 23 سنة وظف آليات الدولة وسخر أجهزتها وحجم مؤسساتها بما مكنه من السيطرة عليها.
وبعد انتصار الثورة رفع الستار عن مهزلة التاريخ وسقطت أقنعة الديمقراطية التي كان النظام يلمع بها صورته في الداخل والخارج وانكشف الانفصام بين المشهد و الصورة. وانفجر بركان الغضب الشعبي ليعبر عن انعدام ثقة كلي في مؤسسات الدولة وأجهزتها بأنواعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، السلطوية أو الإدارية واستهدف مقراتها بالحرق و التخريب وطال مسؤوليها وموظفيها بالاعتداء.
المؤسسة القضائية لم تكن في مأمن من دوامة الثورة هذه حيث وقع إحراق عدد من المحاكم، و اقتحام قاعات الجلسات وتعطيل أعمال الجلسة زيادة على التشهير الإعلامي بجنوح العدالة و التشكيك المعمم في نزاهة القضاة كمناداة عديد الجهات بتنقية القضاء من الفساد. بيد أنه و لئن ساء القضاة ما طال القضاء من مس بهيبته ومن زعزعة الثقة في مصداقيته فإنهم لم يفاجئوا. ففي ظل حكم كالذي رزحت تحته البلاد لسنوات كان من الطبيعي أن لا يستثنى القضاء من التوظيف الذي لم تسلم منه أي من مؤسسات الدولة خدمة للمصالح الخاصة للنظام الحاكم وللعائلة الحاكمة و من دار في فلكهم من مسؤولين.
و للغرض استعملت وسائل السيطرة المعهودة لدي السلطة الحاكمة: إطار قانوني خال من كل ضمانات الاستقلالية، واستخدام البعض من القضاة الموالين للنظام في الوظائف الهامة خدمة للمآرب، وغض الطرف عن فساد البعض الآخر مقابل إصدارهم الأحكام طبق التوصيات، إضافة إلى سياسة الترغيب والترهيب والإقصاء و التهميش مع من أعيت معهم الحيلة .
ثورة 14 يناير 2011 أهدت للتونسيين مشروع جمهورية ديمقراطية يحرص الجميع على إتمامه رغم الظروف الدقيقة التي تعيشها البلاد و التجاذبات السياسة، والمزايدات الفكرية و الحقوقية بشأن معالجة فترة الانتقال من خانة نظام الحكم المستبد و موروثه إلى خانة النظام الديمقراطي.
في هذا المشهد نجد القضاء يسعى في أدائه إلى التموقع واستعادة دوره إسهاما في إنجاح فترة الانتقال (الجزء الأول) كما يناضل من أجل الارتقاء بالقضاء إلى وضع السلطة المستقلة كوسيلة لتحقيق الخيارات الوطنية التي قامت من أجلها الثورة (الجزء الثاني). الجزء الأول :القضاء والانخراط في مشروع الديمقراطية
تسارع نشاط العمل القضائي وتصاعد بقدر تسارع الأحداث و تصاعدها أثناء الثورة وإثرها. وقد نقل الإعلام بأنواعه أخباره التي تلقاها كل حسب اهتمامه. من جهتنا نعرض في مساق هذا المقال بعضا من صدى القضاء في محاولة استقرائية لأدائه الذي يعلن عن رغبة قطع مع نظام الوصاية ووضع اليد الذي كان مسلطا عليه و الانخراط بأدائه في عقلية الثورة. المبحث الأول: القضاء التونسي ومحاولة القطع مع الوصاية
تلاحق نشر الأخبار الموالية حسب تواردها بتاريخ 18 و 20 من شهر يناير على أعمدة مختلف الصحف التونسية .
الخبر الأول “النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس أذنت بفتح بحث تحقيقي ضد المدير العام السابق للأمن الرئاسي علي السرياطي ومجموعة من مساعديه من أجل التآمر على أمن الدولة الداخلي. كما سيتم التحقيق مع السرياطي بتهمة ارتكاب الاعتداء المقصود منه حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي على معنى الفصول 68 و69 و72 من المجلة الجزائية. …
الخبر الثاني- “أصدر وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس قرارا يوم 20 يناير الماضي تم بمقتضاه سحب القضية التحقيقية عدد 19577 المنشورة بمكتب التحقيق الثاني بالمحكمة الابتدائية بتونس وإحالتها على مكتب عميد قضاة التحقيق بنفس المحكمة لمواصلة النظر فيها طبق القانون وتقرّر فتح بحث تحقيقي”.
-“النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس أذنت بسحب القضية التحقيقية والمتورط فيها مدير جهاز أمن الرئيس السابق علي السرياطي من قاضي التحقيق الثاني “…” وذلك بعد أن صدر قرار بنقلته إلى مركز البحوث والدراسات بوزارة العدل….”
ما وراء خبر إيقاف المدير العام السابق للأمن الرئاسي الذي هلل له الجميع وخبر تغيير قاضي التحقيق المعهد بالملف ما يشير إلى وجود نوع من الفساد في التعامل مع بعض القضايا وخرق لمبدإ سلطان القانون على الجميع. مشهد تظهر فيه الوزارة مثل محرك الدمى لها خيوطها ودماها التي تنصاع لتعليماتها في فصل القضايا.
والفساد الذي كان منتشرا لم يكن في الغالب ما يهم العلاقة الأفقية الجامعة بين القاضي و المتقاضي (الرشوة) بل أغلبه فساد في رابطة عمودية يحدد علاقة الوزارة بالقضاة وعلاقة المسؤولين فيها بالنظام السابق وهي حلقات لا متناهية ومتنوعة بتنوع مجالات التقاضي تظم في أغلبها أقارب وموالين.
وفي الخبر الذي أوردنا دليل، فنائب وكيل الجمهورية وإن كان من أعضاء النيابة العمومية أي خاضع لإدارة ومراقبة رؤسائه المباشرين ولسلطة وزير العدل وفقا للفصل 15 من قانون عدد 29لسنة 1967 المتعلق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة – فإنه يؤخذ عليه الموالاة الكلية للنظام و إن إحالة ملف المدير العام السابق للأمن الرئاسي إلى مكتب التحقيق الثاني كما هو من المعتاد في الملفات ذات الاهتمام الخاص لم يكن من قبيل التوزيع الموضوعي بل من قبيل التعليمات الواردة من وكيل الدولة العام مدير المصالح العدلية الذي هو من عائلة الرئيس السابق أو من غيره من المسؤولين ويبقي هكذا الملف بنظر الموالين من القضاة إلى حين ختم القضية وصدور الحكم النهائي .
وفي الواقع فإن القرار الذي اتخذه وكيل الجمهورية بسحب الملف الذي أحاله نائبه الأول على مكتب التحقيق الثاني يوم 18 يناير وإحالته على مكتب تحقيق آخر، إجراء ما كان ليحصل قبل الثورة وذلك لما كان يتمتع به هذا النوع من القضاة من تحصين من قبل أعلى هرم السلطة ما دام قاموسه لم يشمل كلمة “لا”و ذهنه كبر ولائي و تبعي.
تعليل سحب القضية الذي جاء بآخر الخبر و المتمثل في صدور قرار بنقلة حاكم تحقيق المكتب الثاني للعمل بمركز الدراسات القانونية و القضائية جوبه أيضا بموقف يدل على تحرر فكري و جرأة في الانتصار للحق و القانون . إذ تولي القضاة الباحثون بمركز الدراسات القانونية و القضائية[3] رفع بيان احتجاجي إلى وزير العدل بالحكومة المؤقتة عبروا فيه عن استيائهم ورفضهم للتدبير المتخذ الذي كان خارقا للقانون و لم تحترم فيه الإجراءات والمبادئ القانونية الأساسية علاوة على ما لحق القضاة الباحثين بالمركز والمركز كمؤسسة من إساءة مجموعة القضاة الرائج فسادهم للعمل في هذه المؤسسة القانونية والقضائية، على خلفية إبعادهم عن دائرة العمل القضائي .
وبالفعل فإن الفصل 14 جديد من القانون الأساسي للقضاة المشار إليه أعلاه لا يخول نقلة القاضي خلال السنة القضائية بقرار من وزير العدل و دون الرأي المسبق للمجلس الأعلى للقضاء إلا لمصلحة العمل التي عرفها نفس الفصل بأنها الناشئة عن ضرورة تسديد شغور أو في صورة إحداث خطط قضائية جديدة أو مواجهة ارتفاع بين في العمل، وقرار النقلة المحتج عليه لا يواجه أي واحدة من الحالات المعددة حصرا بهذا الفصل.
ما يحسب للقضاء في تونس أنه رغم انعدام ما يحصن القضاة من تسلط وظلم وقمع أصحاب النفوذ فتعفف الغالبية ونزاهتهم غير مشكوك فيها إلا أنهم يحسبون على الأغلبية الصامتة التي أنطقتها وألهمتها شجاعة المواجهة. أما الذين ناضلوا من أجل استقلال القضاء و أسمعوا أصواتهم فهم إما وقعت نقلتهم للعمل بجهات نائية أو وقعت إحالتهم على مجلس التأديب لتسلط عليهم عقوبات تتراوح بين الإيقاف عن العمل و العزل.
انتصار للقانون و رفض للوصاية هذا كان الشأن في مجال علاقة القضاة بالإدارة فالانضباط العمودي المطلوب هو احترام و إخلاص للعمل و ليس ولاء للمسؤولين و أملنا أن لا يكون الأمر ظرفي. المبحث الثاني: الأداء القضائي
لا شك أن فترة الانتقال الديمقراطي خاصة إثر ثورة، تعتبر من أصعب الفترات حكما و إدارة و تصرفا. و من بين أهم التدابير صلة بالقضاء فيها هو تفكيك الاستبداد و معالجة موروثه والتحقيق و التتبع والمحاكمة و جبر الضرر لمن لحقه منه. و لعل أصعب ما في إتيان هذه المسائل هو التعاطي معها بموضوعية وبتجرد من كل العوامل و المؤثرات.
اختبار وضع فيه القضاء على محك العدالة و الديمقراطية بنظره في قضية تتعلق بطلب حل التجمع الدستوري الديمقراطي الحزب الذي حكم البلاد منذ استقلالها و في قضية متعلقة باللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الفساد والرشوة[4]. فإلى أي حد كان نجاحه في أدائه بشأنهما الجزء الأول: التقاء قول القضاء و إرادة الشعب
أصدرت الدائرة الإستعجالية بالمحكمة الابتدائية بتونس في 09 مارس حكما قاضيا بحل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي و بتصفية أمواله و القيم الراجعة له عن طريق إدارة أملاك الدولة وهو حكم ابتدائي الدرجة أي قابل للطعن فيه بالاستئناف والتعقيب. و رغم أن هذا الحكم أعتبر من منظور الشعب عادلا فقد اعتبره بعض المفكرين السياسيين و الحقوقيين[5] منافيا للديمقراطية ووصفه بالقرارا السياسي وإن كان مصدره القضاء. فالمحكمة برأيه كانت متسرعة في قضائها وتأثرت في حكمها وخضعت للإرادة الجماهيرية.
فيما يري شق آخر من رجال السياسة و القانون أن حل حزب التجمع الديمقراطي بات أمرا ضروريا ومتأكدا على اعتبار أنه دخل تحت طائلة الأحكام القانونية الموجبة لحل الأحزاب و أنه في بقاء هذا الحزب خطر على أمن البلاد والعباد[6].
ويطرح التساؤل على هذا المستوي إن لم يكن من الديمقراطية حل الحزب بقطع النظر عن صحة الحكم من عدمه؟ أو ليست الديمقراطية هي تطبيق إرادة الشعب؟ أو لم ننف على النظام السابق شرعيته لأن الشعب رفضه بقطع النظر عن علة الرفض؟ أو لم تقع الإطاحة بالحكومة المؤقتة الأولى التي كان يرأسها محمد الغنوشي لأنها فقدت شعبيتها؟ أين مجلس النواب و المستشارين المنتخبين من قبل الشعب؟…
وبعيدا عن المجادلة القانونية لما تضمنه الحكم أعتقد أن القضاء أصاب في تطبيق الديمقراطية بحكمه حتى لو فرضا أخطأ في اجتهاده في تطبيق القانون.
الجزء الثاني: تصادم قول القضاء ورغبة الحكومة.
طرحت قضية لجنة تقصي الحقائق في قضايا الرشوة والفساد جدلية قانونية كبيرة تخفي في الواقع موقفا معارضا لقرار إحداث اللجنة في حد ذاتها خاصة من جهة القضاة و المحامين.
ويستند المعارضون لقرار إحداث اللجنة على مقولة انعدام جدواها و أن إحداثها لا يسجل منه إلا السلبيات.
و قد اشتدت حدة المعارضة لهذه اللجنة منذ توجه أعضاؤها إلى قصر الرئاسة بسيدي بوسعيد يوم 19 يناير 2011 وقاموا بحجز وثائق و مصوغ كان على ذمة الرئيس المخلوع و أفراد عائلته رغم أن احداثها في تاريخ التوجه لم يكن يحظ بالشرعية القانونية إذ أن تواجدها القانوني برز بمقتضى مرسوم رئاسي صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية يوم 1 مارس2011 . وتصحيحا لأعمالها اعتبر وجودها بأثر رجعي سابق لتاريخ التوجه أي يوم 18 يناير2011 سيما بعد التململ الذي حصل من جانب الرأي العام عند ما ذاع أن تحرك اللجنة دون شرعية من شأنه أن يعطي منفذ افلات من التتبع و المؤاخذة للرئيس السابق علاوة على أن أعمالها شابتها خروقات إجرائية واضحة لمجلة الإجراءات الجزائية التي تستوجب أولا سرية الأبحاث التحقيقية وثانيا أن عملية الحجز يجب أن تتم بحضور قاضي التحقيق المتعهد بالقضية وممثل النيابة العمومية بعد التحول على عين المكان وتحرير قرار حجز .
وهذا ما دفع بالقضاة إلى القيام بوقفة احتجاجية أمام قصر العدالة يوم الثلاثاء 22 فبراير 2011. ويوم 28 فبراير 2011 تقدم عدد من المحامين بقضية استعجاليه لدى المحكمة الابتدائية بتونس ضد أعضاء لجنة تقصي الحقائق للمطالبة باسترجاع ما تم حجزه من مصوغ وأموال إثر توجه أعضاؤها الى القصر الرئاسي بسيدي بوسعيد يوم السبت 19 فبراير 2011 في إطار أعمال البحث والتقصي التي قامت بها بصورة غير قانونية .
وأصدرت المحكمة قرارها في الموضوع يوم 5 مارس 2011 بإيقاف نشاط اللجنة. و النزاع لا زال إلى حد هذا التاريخ من أنظار القضاء بحكم طعن أعضاء اللجنة في القرار المذكور بالاستئناف…
وبقطع النظر عن صحة قرار المحكمة من عدمه و الذي لا يمكن أن يكون محل جدل الآن فالراي لدي أن إحداث لجنة تقصي الحقائق هو إحداث لجهاز عدلي موازي للقضاء وفي هذا هز لصوره المؤسسة القضائية من شأنه إحداث أزمة ثقة في كفاءتها و نزاهتها لدي المواطنين. و إن إضعاف مؤسسات الدولة و خاصة في هذه الفترة الإنتقالية التي تحتاج إلى فرض الهيبة وإحلال الأمن و استقرار البلاد لا يخدم المصلحة العامة و لا يساعد على التأسيس لمرحلة التحول الديمقراطي و فيه تناقض مع فكر العدالة الإنتقالية التي انتصر لها المنظرون واستوردوا آلياتها دون تكييفها مع وضع البلاد. خاصة و أن المؤسسة القضائية رغم بعض المآخذ عليها تزخر بالقدرات و الكفاءات و من الأولويات إصلاحها بوصفها ركيزة أساسية لأي عملية انتقال ديمقراطي.
الجزء الثاني: من أجل قضاء مسؤول : الواقع و الآفاق
لم يحصل من مطالب الإصلاح المنادى بها منذ انطلاق الثورة على الإجماع الا المتعلق بالإصلاح القضائي. وإن كان في هذا دلالة، فعلى أمرين اثنين: يتمثل الأول في أهمية دور القضاء في إرساء الدولة الديمقراطية و ديمومتها في حين يدل الثاني على أن هذه المؤسسة لم تنجح فيما مضى في أداء دورها. ولتحديد التصورات و المقترحات الناجعة لقضاء عادل و مسؤول (ii) يتوجب علينا البحث أولا في العقبات والتشوهات التي حالت دون تحقيق القضاء لرسالته على الوجه الأكمل (i) المبحث الأول: واقع القضاء في تونس.
تنامت على الصعيد الواقعي الانتقادات الموجهة إلى القضاء التونسي نتيجة لبعض الممارسات التي تسيء إلى هيبته و نزاهته وزعزعت ثقة المتقاضين فيه.
فمظاهر الرشوة و المحسوبية والعجز عن محاسبة البعض والتدخلات وصرامة ما يصدر عن القضاء من أحكام خاصة في المادة الجزائية في القضايا ذات الصبغة السياسية و حرية الفكر و التعبير و غيرها من الممارسات عاقت إلى حد بعيد أداء القضاء . مسائل لم تكن خافية فيما مضي لكن كانت المجاهرة بها ممنوعة. والمطالبة بالإصلاح خاصة من قبل القضاة قوبلت بالمماطلة و التسويف لا لشيء إلا لأن استقلال القضاء و معالجته مختلف القضايا و الملفات بجرأة وموضوعية كان يتعارض و النظام الرئاسوي الذي مورس بالبلاد منذ الاستقلال ومن شأنه أن يضعف السلطة التنفيذية.
على الصعيد القانوني نلحظ أن الدستور التونسي لسنة 1959 لا يقر القضاء كسلطة رغم ما تضمنته توطئة الدستور من قيام الجمهورية على مبدأ تفريق السلط. و هذا من أولى عوائق استقلال القضاء واستبداد السلطة التنفيذية بالحكم المطلق إذا اعتبرنا أن فصل السلط يحد من مجال تدخل أي سلطة في صلاحيات الأخرى و أن العلاقة بينها تكون في إطار الضوابط القانونية دون مصادرة أو وصاية من جهة لأخرى.
و إن ما نص عليه الفصل 65 من الدستور: ” القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم إلا القانون.” يبقى محدود المفهوم و المفعول في غياب الاستقلالية المؤسستية الحقيقية للقضاء .وهو غياب يكرسه الفصل 67 من الدستور بأجوفيته الناصة على ما يلي : “الضمانات اللازمة للقضاة من حيث التعيين و النقلة و الترقية و التأديب يسهر على تحقيقها مجلس أعلى للقضاء يضبط القانون تركيبته واختصاصاته.” ليأتي القانون الذي صدر في الموضوع تحت عدد 29 لسنة 1967 و المؤرخ في 14 جويلية 1967 و يعطي رئاسة المجلس الأعلى للقضاء للسلطة التنفيذية ممثلة في شخص رئيس الجمهورية و ينوبه فيها وزير العدل الذي يمارس على القضاة سلطة واسعة إذ له نقلتهم خلال السنة القضائية دون الرجوع إلى رأي المجلس الأعلى للقضاء علاوة على تعيين سبعة أعضاء على الأقل من ضمن خمسة عشر عضوا بالمجلس الأعلى للقضاء من قبل رئيس الجمهورية باعتباره رئيس المجلس الأعلى للقضاء.
وهذا من شانه أن يجعل السلطة القضائية سلطة تابعة للسلطة التنفيذية ويفرغ من كل معنى ورود الباب الرابع من الدستور المتضمن للأحكام الخاصة بالقضاء تحت عنوان”السلطة القضائية” و كذلك الشأن بالنسبة لما جاء في التوطئة من اعتماد النظام لمبدأ تفريق السلط.
كما أنه لا معنى لما تضمنه الفصل 65 من تكريس لسلطان القانون على القضاة اذا أضفنا إلى غياب التفرقة بين السلط افتقار القضاء إلى أدنى الضمانات المعززة للمبدأ.
فالقاضي الذي ينظر ملفا تحت وطأة الخوف من أن تقع نقلته بصورة فجائية فتضطرب حياته و حياة عائلته أو تحت وطأة الخوف من عرقلة مساره المهني الطبيعي بتأخير ترقيه أو تهميشه و إقصائه من خطط المسؤولية يمكن أن يضعف و يفقد نزاهته في مقايضة لحقوقه. و القاضي الذي يضطر إلى بذل ما يفوق مرتبه فيما هو من ضروريات عيشه و عائلته سيكون حتما مدينا و مجاملا لمن عامله في تقسيط شراءاته أو أهداه شيئا مجاملة لصفته أو أقرضه … والقاضي الذي يقع تقييم أدائه ونزاهته دون موضوعية وشفافية أو الذي يحمي من التحقيق والمساءلة رغم ما ورد في شانه من تظلم لا يمكن أن يكون مستقلا.. كل هؤلاء هم القضاة جميعا دون استثناء لأنهم بشر فمن لم ير ذاته في وضعية يراها في أخرى.
لذا فالاستقلالية القاطعة لدابر التدخلات في كلمة هي ضمانات قطع المديونية المادية و المعنوية المؤثرة على أداء القاضي مع المساءلة العادلة له إن ثبث في حقه الخطأ. المبحث الثاني: من أجل قضاء مكرس للديمقراطية
إلى ما بعد فترة فاقت ستة أسابيع من الثورة لم يشهد القضاء التفاتة جدية تخص إصلاح شأنه وتطهيره رغم احتجاجات القضاة و الإعتصامات التي قاموا بها في قصر العدالة بتونس. أما المقابلات التي أجراها وزير العدل في الحكومة المؤقتة مع أعضاء المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين أول توليه الوزارة فإنها اقتصرت على إنصاف أعضاء المكتب حيث تم اتخاذ قرار بشأنهم قاضي بإرجاعهم للعمل داخل محاكم تونس العاصمة و تمتعيهم بجميع الخصومات التي وقعت على رواتبهم بعد قرارات النقلة الإعتسافية التي اتخذت في حقهم سنة 2005 لنضالهم في إطار الجمعية من أجل إصلاح القضاء.
أما من جهة إصلاح المؤسسة القضائية وخاصة تطهير القضاء من رموز الفساد فإن الإجراء الوحيد الذي اتخذ في الغرض تمثل في إعفاء ستة قضاة شغلوا الخطط التالية: وكيل الدولة العام مدير المصالح العدليّة ورئيس دائرة بمحكمة الاستئناف بتونس ورئيس دائرة بالمحكمة الابتدائية بتونس ونائب وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس وقاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس[7] .
الجدير بالملاحظة أن الإعفاء من المهام وفق القانون الأساسي للقضاة لسنة 1967 لا يعتبر من بين العقوبات التأديبية المعددة حصرا بالفصل 52 من نفس القانون. والفصل44 الذي نص على هذا الإجراء لم يبين لا حالاته و لا إجراءاته و لا الجهة التي تتخذ ه بما أن القانون لا يعطي أي صلوحية للمجلس الأعلى للقضاء في شأنه سواء من باب الاستشارة أو التقرير إلا إذا طبقنا مبدأ توازي الإجراءات عندها يخضع إجراء الإعفاء لإجراء الانتداب.
ويبدو أن نائب وكيل الجمهورية الذي شمله الإعفاء قد رفع طعنا في القرار المذكور لدي المحكمة الإدارية.
هذا التأخر في الإصلاح القضائي يعزى لأسباب متعددة من أهمها عدم استقرار الوضع الأمني و السياسي للبلاد. و أخيرا بدأت الجهات المختصة من خلال اللجنة الفرعية المكلفة بـ”الإصلاحات القضائية” التابعة للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي و مركز الدراسات القانونية و القضائية في بحث مستقبل القضاء في إطار نظرة إصلاحية شاملة وجامعة.
وفي سياق الجدل يبدو لنا والرأي لأصحاب الشأن أن إصلاح المؤسسة القضائية يجب أن يبدأ من خلال الاحتكام إلى دستور ديمقراطي من أهم مبادئه التفرقة بين السلطة و إقرار تأسيس سلطة قضائية و حصر صلاحياتها في مجلس أعلى للقضاء تكون له استقلالية مالية و إدارية عن وزارة العدل يعمل على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاء من حيث التعيين و الترقي و النقل و التأديب وفقا لقانون مضبوط.
مراجعة تركيبة المجلس الأعلى للقضاء و فصله عن السلطة التنفيذية بحيث تعهد رئاسته للرئيس الأول لمحكمة التعقيب مع دعم تمثيلية القضاة صلب هذا المجلس بانتخاب أعضائه وفق إجراءات محددة بنص . – التنصيص صراحة بالقانون الأساسي على عدم نقلة القاضي إلا برضاه حتى و إن كان ذلك من قبيل الترقية. – تحديد معايير موضوعية مسبقة للترقي. – بالنسبة للمآخذة، من المستحسن أن يقع وضع ميثاق شرف يلزم بمقتضاه القاضي بالسلوكيات التي تقتضيها وظيفته السلطوية و تنطلق من ثمة مساءلته وبذلك لا يكون مفهوم الخطأ هلامي يتسع و يضيق بحسب الأشخاص. – التنصيص على عدم اعتبار أي وثيقة بملف القاضي إذا لم يقع إطلاعه عليها حتى لا يقع تعطيل أي واحد من القضاة من حق الترقي من أجل شكايات مغرضة . والقاضي مهما عدل يبقى أحد طرفي القضية عدو له. – تنظيم إجراءات الاستقالة وعدم جبر القاضي الراغب في المغادرة علي البقاء لما يمكن إن يترتب عن ذلك من تأثير على أدائه يكون أول متضرر منه مرفق العدالة و المتقاضي. – تخصيص القضاة بسلم أجور مستقل عن الوظيفة العمومية و إعادة النظر في منحة القضاء.
وفي خاتمة هذه الخواطر أضيف انه حسب اعتقادي فإن إصلاح القضاء لا يمكن أن يتم عن طريق إصلاح شأن القضاة فقط، بل يتطلب مراجعة المنظومة القضائية بأكملها بإطارها البشري الواسع بما فيه من مساعدي القضاء و التنظيم القضائي وعدد من القوانين الإجرائية و القوانين الموضوعية لتنقية ما شابها من نقائص و هذا ما يستدعي من الوقت و الجهد و المال الكثير. وبوقفة تأملية أقول أنه ومع معاناة القضاء طيلة الخمسين عاما التي مرت كانت فيها موازين القوى من جانب الإدارة فإن العدالة التونسية قدرت ان تبلغ صوتها و توصل كلمتها في عديد المناسبات و لم يخنها إلا أصحاب النفوس الضعيفة و الآن وقد دفعت الحرية بدم أبناءنا و أيقظت عندنا حس المواطنة فلا أقل ان يستمد قضاتنا استقلالهم من ذاتهم فيكونون مستقلين فكرا وأحرارا في قولة الحق. و قد قيل قديما” ثلاثة إذا كن في القاضي فليس بقاض إذا خشي اللوائم و أحب المحامد و كره العزل”.
[2] اندلعت الثورة على إثر إضرام شاب تونسي النار في نفسه محمد بوعزيزي، احتجاجا على الفقر والبطالة ، فخرجت الحشود التونسيه أحتجاجا علي الفقر والبطالة في ثوره حاشدة امتدت إلى كامل البلاد.
[3]مركز الدراسات القانونية والقضائية هو مؤسسة عمومية ذات صبغة إدارية يعمل تحت إشراف وزارة العدل وحقوق الإنسان تم إحداثه سنة1993 وهو مرصد وطني للتشريع. من ضمن مهامه جمع النصوص القانونية الجاري بها العمل وتحيينها وترجمتها ونشرها…
[4]مرسوم عدد 7 لسنة 2011 مؤرخ في 18 فبراير 2011 يتعلّق باحداث لجنة وطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد. الرائد الرسمي عدد 13 لسنة 2011،ص201.
[5]حمد نجيب الشابي قوة خفية كانت تتخذ قرارات عوضا عن الحكومة””الصباح الأحد 23 مارس2011
[6] Sadok Belaid « Il faut dissoudre immédiatement le R.C. » la Presse, 6 février 2011, p10.
[7] الأوامر عدد 167 إلى 173 مؤرخة في 10 فبراير 2011- الرائد الرسمي عدد 11 في 15 فبراير 2011، ص179/180.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.