تستمر السلطة السياسية الحاكمة بمفاجأتنا بطرق لا يمكن تصورها حتى من قبل الذين يملكون مخيلة قانونية واسعة. ففي تطور شديد الإستغراب، أصدر أمين عام مجلس الوزراء في 17/8/2020 مذكرة يعلن فيها تمديد حالة الطوارئ التي أعلنت بالمرسوم رقم 6792 الصادر في 7/8/2020 لغاية 18 أيلول 2020، بعد الحصول على الموافقة الاستثنائية لكل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة عملا بالتعميم رقم 27/2020 الذي أصدره رئيس مجلس الوزراء، والذي ينص على أن الأعمال التي لا تدخل ضمن تصريف الأعمال يمكن اتخاذها عند الضرورة لكن بعد الحصول على موافقة كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. وقد بررت المذكرة تمديد حالة الطوارئ بهذه الطريقة باستقالة الحكومة وتعذر اجتماع مجلس الوزراء. ان هذه المذكرة الادارية تثير اشكاليات كبيرة جدا وهي مشوبة بعيوب قانونية جسيمة لا بد من تفنيدها وهي تتلخّص بالنقاط التالية:
أن إعلان حالة الطوارئ وإلغاءها صلاحية حجزها الدستور صراحة للسلطة التنفيذية المتمثلة بمجلس الوزراء. وقد اعتبرت الفقرة الأخيرة من المادة 65 من الدستور أن هذا التدبير يدخل من ضمن المواضيع الأساسية التي تحتاج إلى موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها. وبالتالي، لا يحق لمجلس النواب إعلان حالة الطوارئ، لكن يعود له وفقا للمرسوم الاشتراعي 52 تاريخ 5/8/1967 الموافقة على الإستمرار بحالة الطوارئ في حال أعلنت لأكثر من ثمانية أيام. حتى هذه الصلاحية يمكن أن تخضع للتعديل أو حتى للإلغاء كونها تجد سندها في المرسوم الإشتراعي المذكور وليس في الدستور. فبإمكان مجلس النواب كونه السلطة التشريعية أن يحدد ما هو الإطار القانوني الذي يطبق في حالة الطوارئ، لكن لا يعود له إطلاقا إعلان حالة الطوارئ كون هكذا تدبير تختص به السلطة التنفيذية التي تتولى تقدير الوضع وتطبيق اجراءات الطوارئ.
أن تمديد حالة الطوارئ لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال مرسوم يحمل تواقيع الجهات المختصّة ويتخذ في مجلس الوزراء. وفيما يمنع على الحكومة المستقيلة مبدئيا اتخاذ أي اجراء يدخل في حقل الأعمال التصرفية لينحصر دورها بالأعمال الادارية العادية الضرورية لتأمين استمرارية المرافق العامة، فإنها تستعيد في حال طرأ وضع استثنائي الجزء من صلاحياتها الضروري لمعالجة الوضع وتاليا قدرتها على اتخاذ أعمال تصرفية. بمعنى، أنه على فرض طرأ وضع يستدعي تمديد حال الطوارئ، فإنه يكون بإمكان مجلس الوزراء المستقيل أن يجتمع كي يتخذ القرار بتمدبد الطوارئ.
وقد عرف لبنان سوابق من هذا القبيل عندما أقرت حكومة الرئيس كرامي المستقيلة مشروع الموازنة في سنة 1969 كذلك حين اجتمعت حكومة الرئيس سليم الحص المستقيلة لاقرار مجموعة من مشاريع القوانين المستعجلة في سنة 1979 وأخيرا عندما أقرت حكومة الرئيس ميقاتي المستقيلة تشكيل الهيئة العامة للإشراف على الإنتخابات في سنة 2013. وبما أن حالة الطوارئ لا تنشأ إلا بسبب وجود ظروف استثنائية قاهرة كان يمكن للحكومة الحالية المستقيلة أن تجتمع حصرا من أجل الموافقة على تمديد حالة الطوارئ على أن يتم تكريس ذلك بمرسوم جديد.
إن تمديد حالة الطوارئ هو بمثابة إعلان جديد للطوارئ ويتطلب اجتماع مجلس النواب مجددا من أجل الموافقة على ذلك في حال كان التمديد لأكثر من ثمانية أيام. فمجلس النواب عندما أقر المرسوم رقم 6792 وافق على إعلان الطوارئ فقط للفترة المحددة بالمرسوم، وكل تمديد جديد يحتاج إلى العودة إلى مجلس النواب وإلا يصبح بامكان الحكومة تمديد حالة الطوارئ لانهائيا استنادا على الموافقة الأولى التي أبداها مجلس النواب، ما يعني فعليا تعطيل الغاية من النص الذي يفرض هذه الموافقة ويوصلنا إلى نتائج عبثية.
في حال فرضنا أن مجلس الوزراء لا يمكن له الاجتماع لأي سبب كان، يمكن تمديد حالة الطوارئ دون موافقة مجلس الوزراء لكن ذلك يجب أن يتم بمرسوم يصدره رئيس الجمهورية ويحمل تواقيع كل من رئيس مجلس الوزراء والوزراء المختصين، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال تمديد الطوارئ بمذكرة إدارية يصدرها أمين عام مجلس الوزراء بعد الحصول على موافقة استثنائية لا نعرف كيف تم التعبير عنها شفهيا أو خطيا، وفي حال كانت الموافقة خطية كيف تم ذلك. وهذا بالفعل ما كان يحدث في ظل حكومات تصريف الأعمال إذ كانت المراسيم التي تصدر من دون موافقة مجلس الوزراء تشير، علاوة على ضرورة المحافظة على المصلحة العامة، إلى الحصول على الموافقة الاستثنائية بسبب تعذر اجتماع مجلس الوزراء، أي أن الاجراءات القانونية كانت تصدر بمراسيم تحمل كل التواقيع الضرورية.
أكثر من ذلك، تستند هذه المذكرة على تعميم لرئيس مجلس الوزراء هو بحد ذاته موضع تشكيك كونه يستحدث آلية لاتخاذ القرارات غير ملحوظة في الدستور. فضرورة حصول الوزراء على الموافقة الاستثنائية لرئيسي الجمهورية والحكومة في ما خص الأعمال التصرفية يؤدي عمليا إلى نقل صلاحيات مجلس الوزراء إلى رئيسي الجمهورية والحكومة وهذا لا وجود له في أي نص دستوري.
إن المذكرة الإدارية التي تمدد إعلان حالة الطوارئ تنطوي على مخالفة جسيمة (illégalité grave) للقانون مقرونة بعدم الصلاحية الجلية كون أمين عام مجلس الوزراء لا يمكنه أن يتولى هذه الصلاحية حتى لو حصل على موافقة كل أعضاء الحكومة علاوة على موافقة رئيس الجمهورية، إذ أن قواعد الاختصاص تفسر في القانون الدستوري والإداري حصرا ولا يمكن التوسع بها اطلاقا.
لذلك يمكن لنا القول أن هذه المذكرة الادارية ينطبق عليها التوصيف القانوني للأعمال الادارية عديمة الوجود (inexistence juridique) وهي “كل عمل إداري صادر بجلاء عن سلطة ادارية غير صالحة (وهو) يعتبر كأنه لم يكن ويمكن الطعن فيه في أي وقت” (مجلس شورى الدولة، قرار رقم 568 تاريخ 27/5/1999). وفي قرار آخر له اعتبر مجلس شورى الدولة في لبنان ان القرارات المنعدمة الوجود هي تلك التي “يكون مصدرها مجردا من أي سلطة تقرير” (قرار رقم 629 تاريخ 10/6/98).
حتى لو سلمنا جدلا أن هذه المذكرة يمكن ربطها من بعيد جدا بالأصول القانونية الواجب اتباعها، فإنها مذكرة تنظيمية أدخلت قواعد آمرة جديدة، ما يجعل منها قابلة للطعن لتجاوز حد السلطة، ولتكريسها سابقة خطيرة جدا تجعل اعلان حالة الطوارئ مجرد تدبير إداري بسيط يهدّد حريات المواطنين ويمنعهم من ممارسة حقوقهم السياسية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.