مثل كلّ عام، تأتي فترة إعلان نتائج امتحانات الثانوية العامّة وتعقبها مرحلة التنسيق في الجامعات بقدر كبير من النقاش والجدل حول النظام التعليمي وحول إشكاليّات هذه الاختبارات التي يعتبرها الكثيرون مصيرية في تحديد مستقبلهم. تستنزف الثانوية العامّة الجزء الأكبر من إنفاق الأسر على التعليم لأنّها تلعب بالفعل الدور الأساسي في توزيع الطلّاب على مسارات التعليم العالي المختلِفة من خلال نظام الـ “تنسيق” الذي يوزّع الطلّاب على الجامعات بحسب مجموعهم في هذه الاختبارات. توجَّه معظم الموارد للدروس الخصوصية بهدف تقوية فرص الأبناء بالحصول على مجموع عالٍ، وبالتالي زيادة احتماليّة وصولهم إلى الكلّيّة المرغوبة. لكن الأمر اختلف هذا العام، ليس بسبب الأزمة الصحّية الناتجة عن جائحة الكوفيد 19 للعام الثاني على التوالي فقط، إنّما أيضاً لأنّها الدفعة الأولى التي تتخرّج في ظلّ تطبيق نظام جديد للامتحانات. يتبع النظام الجديد فلسفة مختلفة للتقييم، تهدف إلى تفادي العديد من النقاط الإشكاليّة في النظام السابق مثل الغشّ وتسريب الامتحانات والاعتماد على صيغ للإجابات النموذجية. جاءت الاختبارات هذا العام في شكل أسئلة متعدّدة الاختيارات تظهر على الأوراق بترتيب مختلف تتبع نظام الكتاب المفتوح وتُصحَّح إلكترونياً. يأتي نظام الثانوية العامة الجديد بفلسفته وأدواته في ظلّ سياسة أشمل لإصلاح التعليم، ظهرت بوادرها عام 2017 مع تولّي د. طارق شوقي منصب وزير التربية والتعليم وتحوّلت مشروعاً قومياً للتعليم في 2019 تحت اسم education 2.0.
تحاول هذه المقالة تقديم الملامح الأساسية لمشروع إصلاح التعليم في مصر وأهدافه وفاعليه ورصد أبرز الإشكاليّات التي تمّ تناولها في الخطاب السياسي والإعلامي والنقاش العامّ حول المشروع، ثم ننتهي بتحليل يضع هذا المشروع في السياق التاريخي لتحوّلات النظام التعليمي في مصر ويطرح تساؤلات عن الأبعاد السياسية لإصلاح التعليم.
تعليم 2.0[1]: البناية القديمة والبناية الجديدة[2]
يُشَبِّه د. طارق شوقي وزير التربية والتعليم نظام التعليم الحالي في مصر ببناية متهالكة قاربت على الانهيار، ويصفه بـ “جريمة فعلناها في حقّ أبنائنا”. تتمثّل مشكلات التعليم الأساسية من وجهة نظره في: الاعتماد على الحفظ والتلقين واعتماد التقييم على اختبارات أساسية مصيرية تجعل الهدف من العمليّة التعليمية اجتياز الاختبار وليس التعلّم. يشرح الوزير أنّ سياسته لن تستهدف إنقاذ البناية القديمة، بل تبني بناية جديدة على أسس مختلفة هي الفهم والتفكير النقدي ومحوريّة الطالب والتطبيق العملي والإعداد للمستقبل المهني واستخدام التكنولوجيا. يتمّ ذلك من خلال وضع مناهج تعليمية جديدة في كلّ المراحل التعليمية بدءاً من رياض الأطفال ويستمرّ سنة بعد سنة. تُعَدّ المناهج الجديدة بالتركيز على المهارات المطلوبة والمرغوبة في نهاية العمليّة التعليمية وفقاً للمعايير الدولية في التقييم وفي التعلّم. وتتضمّن السياسة الجديدة استخدام أدوات حديثة وتفاعلية لتوصيل المعلومات. بدأ بالفعل تعديل المناهج، وحتّى اللحظة، انتهت الوزارة من مناهج بداية المرحلة التعليمية حتّى الصفّ الرابع ابتدائي. وقد أعلن الوزير مؤخّراً أنّه سيتم الإسراع في إعداد المناهج الجديدة كي تظهر آثار الإصلاح بشكل أوضح قريباً.
أمّا عن الطلّاب في البناية القديمة، على الرغم من عدم تعديل المناهج التعليمية في المراحل المدرسية المتقدّمة يتّجه الإصلاح إلى تغيير نظام التقييم عن طريق إدخال تقييم تراكمي من سنة إلى أخرى مع تغيير طريقة وضع الاختبارات مثلما حدث في امتحانات الثانوية العامّة هذا العام. فهي إذاً محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أي تفادي الصيغ المحفوظة النموذجية التي يتمّ تلقينها في الدروس الخصوصية وتفادي إشكاليّات تسريب الامتحانات وحثّ الطلاب على التعلّم والتفكير المستقلّ، والأهمّ إلغاء مفهوم الاختبار الأوحد الذي يتوقّف عليه مصير الطالب.
بالإضافة إلى المناهج الجديدة وإصلاح منظومة التقييم واستخدام التكنولوجيا، يتضمّن مشروع تطوير التعليم أهدافاً أخرى، منها تعدُّد مصادر المعرفة المتاحة للطالب. تُرجِم ذلك من خلال إنشاء بنك المعرفة المصري الذي يتيح للطلّاب (أو المصريين بشكل أعمّ) الوصول إلى دوريّات علمية وكتب ومصادر مختلفة للمعلومات. كما يشمل تحسين التعلّم في مرحلة الطفولة المبكرة من خلال زيادة عدد الطلّاب الداخلين في التعليم بدءاً من رياض الأطفال وزيادة عدد المدارس. كما يتضمّن المشروع مكوّناً أساسياً هو تدريب المدرّسين والقائمين على التعليم لتنفيذ النظام الجديد وتبنّي فلسفته.
لا شكّ أنّ وزير التربية والتعليم هو الوجه الأساسي لمشروع تعليم 2.0؛ فهو يتميّز باهتمامه الشديد بالتكنولوجيا بحكم دراسته للهندسة في مصر وفي جامعات أميركية عالمية. وللوزير باع دولي في التدريس وخبرة طويلة في العمل مع منظّمة اليونيسيف في مجال تكنولوجيا التعليم[3]. تساعدنا هذه الخصائص في فهم المنطق الذي يتّبعه في تطوير التعليم، كما توضح أهمّيّة الشراكات مع فاعلين دوليين في تنفيذ المشروع. فبالإضافة إلى دعم البنك الدولي نجد شراكة مع اليونيسيف. كما تمتدّ الشراكات إلى شركات دولية مثل موسوعة Britannica التي تساهم في وضع المناهج الجديدة وPearson المتخصّصة في مجال التعليم الإلكتروني وتحديداً الامتحانات.
الجدل حول إصلاح التعليم في مصر
يصف تقرير البنك الدولي الخاصّ بالقرض الموجَّه لمشروع إصلاح التعليم في مصر أنّ “المشروع يطمح إلى تغيير السياسات والنظم والممارسات ويستهدف التغيير نظام التعليم بالكامل على المستوى المركزي – المحلّي وحتّى على مستوى المدرسة الواحدة، بل الفصل الواحد”. وهذا ما يمثّل نقطة القوة في المشروع، وفي الوقت نفسه أهمّ مخاطره، فهو يحتاج إلى “التزام كبير وغير مسبوق وإرادة سياسية كبيرة ومشاركة من كافّة أصحاب المصلحة”[4].
من حيث الإرادة السياسية، شهد موضوع إصلاح التعليم تحوُّلاً تدريجياً في الخطاب الرئاسي. فلا ينسى أحد المقولة الشهيرة للرئيس عبد الفتاح السيسي “ينفع التعليم في إيه مع وطن ضايع” في 2016 التي، إن وُضِعَت في سياقها، يُفهَم منها أنّ إصلاح التعليم، وإن كان شديد الأهمّيّة، ليس أولويّة على قائمة بنود الإنفاق في الدولة في مقابل القضاء على الفقر والبطالة وتحقيق الاستقرار. وبالتالي، كان ردّ الفعل الرئاسي على فكرة إصلاح التعليم، حينها، هو سؤال “منين؟ وبكام؟” أي ما هي مصادر الإنفاق على إصلاح جذري للتعليم؟ تغيّرت هذه النغمة مع بدء المشروع الجديد ورأينا السيسي في 2018 يؤكّد ضرورة الـ “ثقة” و”تحمُّل التكلفة” و”التضحية” لبناء المستقبل والخروج من “الفقر والعوز” ثمّ أعلن عام 2019 “عام التعليم في مصر”، وأخيراً جاء آخر تصريح للرئيس في 2021 إثر نتائج الثانوية العامة ليؤكّد ضرورة التغيير وأنّ “المشكلة إنِّنا قعدنا 50 سنة متغيّرناش، وبقينا كلّنا أسرى للواقع اللي متغيّرش”. يعكس تطوُّر الخطاب الرئاسي إشكاليّات عدّة في مشروع تطوير التعليم، طُرحت في التقارير الفنّية والإعلام وفي النقاش العامّ حول هذا الموضوع.
أولى الإشكاليّات قضيّة التمويل، “منين؟ وبكام؟”. على الرغم من نصّ المادّة 19 من الدستور على تخصيص 4% من ميزانيّة الدولة للإنفاق على التعليم، وبالإضافة إلى دعم المؤسّسات الدولية من خلال قرض البنك الدولي لا يزال سؤال مصادر الإنفاق على إصلاح جذري للتعليم ملحّاً، حتّى إنّ تقرير البنك الدولي يعتبر أنّ أحد مخاطر المشروع هو عدم ضمان استمراريّة التمويل من موارد الدولة. ويؤكّد العديد من المصادر أنّ أكثر بنود الإنفاق إشكاليّة هو رواتب المعلّمين. لا شكّ أنّ الحاجة شديدة إلى إعادة نظر شاملة في منظومة الرواتب، خصوصاً إذا كانت محاربة الدروس الخصوصية هدفاً أساسياً في النظام الجديد، لأنّها تُعتبر مصدر دخل تكميلياً يعتمد عليه الكثيرون. إلّا أنّ قراراً في 2019 بتجميد المرتّب الأساسي للمعلمين عند 2014[5]، ممّا يعني أنّ المرتّب يتناقص بالفعل، إذا ما أخذنا التضخّم في الاعتبار[6]. ورغم صدور قرار في فبراير 2021 بتقديم حوافز أداء للمعلّمين مع ربطها باجتيازهم للتدريب ما زال موضوع الرواتب ملحّاً، إذ يُعتبر المعلّمون الركيزة الأهمّ في إصلاح التعليم في مصر الذي يعتمد عليها النجاح أو الفشل. ولذلك يتوجّه مشروع تعليم 2.0 إلى تدريب المعلمين بشكل سريع ومكثَّف كمكوِّن مركزي في الإصلاح. ويبقى سؤال كيف سيتمكّن المعلّمون من تطوير أنفسهم وتطبيق النظام الجديد في ظلّ عدم كفاية الراتب والعائد من ممارسة المهنة؟
بالإضافة إلى ذلك، جاءت جائحة كورونا بتحدّيات جديدة. فإذا كانت قد أدّت إلى الإسراع بتطبيق بعض أجزاء مشروع إصلاح التعليم وأهمّها استخدام التكنولوجيا الذي أصبح حتمياً إلّا أنّها أكّدت مشكلات أخرى، منها عدم المساواة في الوصول إلى الإنترنت. إذ تختلف التغطية بقدر كبير من موقع إلى آخر ما بين المدن الكبرى والصغرى والقرى، كما ظهرت الحاجة إلى توفير أجهزة وأدوات للطلّاب (مثل التابلت) وتدريب كلّ من المعلّمين والطلّاب على استخدامها. كما أكّد التعليم عن بعد على الحاجة إلى إشراك الطالب في العمليّة التعليمية، إذ إنّه يعتمد بشكل أساسي على التزام الطلاب عن بعد[7].
من ناحية أخرى، ينصّ تقرير البنك الدولي على أهمّيّة مشاركة المواطنين (Citizen engagement) لضمان تنفيذ مشروع الإصلاح بنجاح كما يؤكّد أهمّيّة التواصل وتوفير المعلومات ومتابعة ردود الأفعال على التغيُّرات في السياسات. وهنا تظهر نقطة إشكاليّة أخرى في النقاش العامّ وهي وجود ما يتمّ تصويره على أنّه مقاومة للإصلاحات من أهالي وعائلات الطلّاب. فمن ناحية، نجد بالفعل خطوات لتحسين التواصل منها: إتاحة مصادر على موقع وزارة التربية والتعليم والتصريحات المتكرّرة من الوزير ومداخلاته في البرامج الحوارية. كما ظهرت مبادرات مجتمعية ركّزت على متابعة وتوثيق المشروع مثل مبادرة بحث وتوثيق مشروع تعليم 2.0 التي أُطلقت في وحدة البحث المجتمعي في الجامعة الأميركية في 2018. وعلى الرغم من التأكيد على أنّ الإصلاح لن ينجح إلا بتعاون الجميع وعلى أنّه يضمّ الجميع، يظلّ الحوار المجتمعي الأكثر شمولاً غائباً وتظلّ هموم الأهالي تقابَل بقدر من اللوم في خطابات الوزير والرئيس بسبب عدم قبول التغيير والـ “مبالغة” في الضغط على الأبناء لاجتياز الامتحانات بنجاح وتحمّلهم مسؤوليّة استمراريّة النظام القديم مع مطالبتهم بالـ “ثقة” و”تحمّل تكلفة” التغيير. تقودنا هذه النقطة إلى طرح بعض التساؤلات الأساسية عن أسس فلسفة التعليم في مصر.
ما وراء إصلاح التعليم: أسئلة عن فلسفة التعليم الجديدة
أشار باحثو مؤسّسة كارنيغي في أحد التقارير التي تتناول التعليم في المنطقة العربية على أنّ مشروعات إصلاح التعليم في دول عديدة ركّزت حتّى الآن على الزيادة العددية للتلاميذ والمدارس والإصلاحات الجزئية في المناهج على حساب الإصلاحات الكيفية الجذرية وعلى إعادة النظر في فلسفة التعليم لتكوين بيئة تشجّع على التفكير النقدي والمستقلّ. لا شكّ أنّ مشروع تعليم 2.0 كما يتمّ تقديمه يتخطّى المستوى الكمّي والإصلاح الجزئي ويطمح إلى تغيير حقيقي في توجّه التعليم في مصر، يترجَم بشكل مباشر في المناهج الجديدة التي يتمّ إعدادها والشروع في تطبيقها. لكن، على الرغم من ذلك ثمّة أسئلة أساسية عدّة تتعلّق بفلسفة المشروع وخطوات تنفيذه وبشكل أعمّ التعليم في مصر.
تؤكّد ورقة بحثية، صادرة عن جامعة هارفارد، أنّ إصلاح التعليم في مصر يتبع حتّى الآن مدخلاً من “أعلى إلى أسفل” (Top-down)[8]. يظهر ذلك في ما عرضناه سابقاً من حيث استبعاد عائلات الطلّاب وتصويرهم كمقاومين للإصلاح، لكنّه يمتدّ أيضاً إلى استبعاد منظّمات المجتمع المدني. فالعديد من المبادرات المهتمّة بالتعليم والتعليم البديل تعمل باستقلال منذ زمن ولم يتمّ إدماج خبرتها في مشروع الإصلاح ولا في الحوار حوله. يظهر في أحد تقارير مدى مصر تصوُّر لدى البعض عن نظام تعليمي ليس تشاركياً فحسب، بل غير مركزي، أي يتمّ تطبيقه بشكل مختلف يتناسب مع البيئة والسياق الذي يختلف من موقع إلى آخر في مصر. ومنهم من يحلم بتعليم غير تقليدي، أي ليس بالضرورة في مبنى مدرسة أو فصول مغلقة، بل لا مانع من تصوّر تعليم يتمّ في أماكن مفتوحة أو فصول في الهواء الطلق[9]. وإذا لم تذهب مخيّلة الدولة إلى هذا الحدّ، فمخيّلة المجتمع والمجتمع المدني أوسع وبالتالي، إنّ مدخل الـ top-down يُفقِد مشروع إصلاح التعليم فُرَصاً عديدة للمشاركة الحقيقية وضمان الاستمراريّة[10]، حتّى إنّه يحدّ من طموحات التغيير.
من ناحية أخرى، طالما كانت قضايا التعليم في مصر مُحاطة بالجدل والاختلاف في وجهات النظر، بخاصّة في ما يتعلّق بهدف التعليم وسؤال مَن يحقّ له التعلُّم؟ فكانت رؤيتان في العقود الأولى من القرن العشرين: الأولى أنّ التعليم يهدف إلى خلق نخبة وطنية تقود المجتمع، وبالتالي فهو يتاح فقط للقادرين عليه ممّن سيشكّلون هذه النخبة. والثانية أنّه يهدف إلى تحقيق التحرّر الوطني الفعلي، فالتعليم لا بدّ أن يتاح للجميع مجّاناً “كالماء والهواء” مثلما عبّر عنه طه حسين[11]. وإذا كانت الرؤية الثانية هي التي انتصرت مع المجّانيّة الشاملة للتعليم في كافّة مراحله بدءاً من عام 1950 ثمّ مع ثورة يوليو 1952 إلّا أنّ الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين فئات المجتمع أصبحت (أو ظلّت) تفرّق بين تعليم النخبة وتعليم العامّة بشكل متزايد تدريجياً. تترجَم هذه الفوارق اليوم في الاختلاف الكبير بين التعليم الخاصّ والتعليم الحكومي، وفي التعليم الخاصّ بأنواعه المختلفة تتميّز فئة المدارس الدولية عن غيرها بارتفاع مصاريف التسجيل وفي المقابل تقدّم شهادات دولية عالية الجودة. من ناحية أخرى جاء التوجّه إلى اقتصاد السوق منذ نهايات السبعينيّات مع سياسة الانفتاح، ثمّ بشكل أوضح مع تبنّي النيوليبرالية في بداية التسعينيّات بتصوُّرات جديدة عن دور التعليم لإعداد القوّة العاملة ومواطن منتج قادر على المنافسة في سوق يحكمها القطاع الخاصّ[12]. أمّا عن التعليم العالي، فقد رسّخت دولة الضبّاط الأحرار فكرة أنّه وسيلة للصعود الاجتماعي (في مقولة أن ابن الفلّاح يقدر أن يكون طبيباً). وعلى الرغم من أنّ ارتفاع معدّلات البطالة وعدم قدرة جهاز الدولة حتّى وقتها على استيعاب أعداد الخرّيجين، بالإضافة إلى التحوّل إلى اقتصاد السوق قد شكّلت عوائق فعلية لهذه المسارات الصاعدة المأمولة، ظلّت الفكرة ثابتة عند الأغلبيّة، ممّا يشرح لنا لماذا تثير امتحانات الثانوية العامّة هذا القدر من القلق والجدل والإشكال عند المواطنين.
يأتي مشروع إصلاح التعليم الحالي بخليط من الأفكار والرؤى والأدوات. فمن ناحية، “البناية الجديدة” أي المناهج الجديدة تُطبَّق على الجميع، أو على الأقلّ مَن يتبع النظام المصري (سواء مدارس حكومية أو خاصّة، ولكن ليس المدارس الدولية). فهي إذاً تستهدف النهوض بالتعليم الوطني. لكن من ناحية أخرى، لا شكّ أنّ اختلاف الإمكانيّات بين المدارس الخاصّة والمدارس الحكومية سيولّد فوارق في جودة التطبيق، تحديداً مع اعتماد المشروع على الأجهزة الإلكترونية وعلى تدريب المعلّمين، وأيضاً مع كون التمويل قضيّة إشكالية. لكن لا ننكر أنّ على المستوى الخطابي على الأقلّ، يبدو أنّ الهدف هو النهوض بالتعليم الحكومي وسيُظهِر الوقت ما إذا كانت إدارة المشروع ستنجح في تقليل الفوارق الموجودة حالياً.
أمّا عن الهدف من التعليم فتمتزج ثلاثة توجّهات في الخطاب الوزاري والرئاسي، أوّلها وأبرزها هو التعليم من أجل سوق العمل، ثانيها الإصرار، خصوصاً من الوزير، على أهمّيّة التفكير المستقلّ، وأخيراً إصرار الرئيس على فكرة أنّ التعليم ليس للمعرفة فقط لكن “السلوكيّات والقيم” و “صنع الإنسان”. ينقلنا البعدان الثاني والثالث إلى السؤال الأخير: ما شكل الإنسان أو المواطن الذي يسعى النظام الحالي إلى صنعه؟
لا يمكن عزل التعليم عن السياق الفكري والسياسي في المجتمع. فنظام التعليم الحالي في مصر ليس “غير محفِّز لخلق مواطن فعّال يشارك في حياة سياسية ديموقراطية”[13] فحسب، بل كان دائماً يوظَّف لتثبيت نظم الحكم وصناعة شرعيّة النظام القائم[14]. ولذلك، حتّى وإن أصرّ وزير التعليم، على أهمّيّة التفكير المستقلّ والتفكير النقدي، لا تزال جدّيّة هذه الأهداف محلّ شكّ لأسباب عدّة، منها التركيز على الأجزاء الفنّية والمهارات العملية – استبعاد المجتمع من خلال مدخل الـ top-down وأخيراً، استمرار بل تصاعد التضييق على الحرّيّات، على الأخص حرّيّة التعبير وغلق المساحات الفنّية والثقافية والتحكّم فيها من خلال أدوات متعدّدة.
وهكذا، إذا كان مشروع إصلاح التعليم في مصر هو مشروع طَموح وواعد، يسعى إلى تنفيذ تغيير جذري في فلسفة التعليم في مصر، فإنّ البعد السياسي بخاصّة تصوُّر الدور المجتمعي للتعليم في صنع المواطن قد يشكّل عائقاً في طريق التحوُّل الحقيقي ويحدّ من أثره.
لقراءة المقال باللغة الانجليزية انقروا على الرابط ادناه
Egypt’s Education 2.0: A Promising Project Facing Political Challenges
[1] نركّز هنا فقط على التعليم الأساسي ولا نتطرّق إلى خطوات إصلاح التعليم الفني.
[2] تعتمد هذه الفقرة على مصادر عدّة، منها : خطابات ومداخلات لوزير التعليم وثقها مشروع بحث وتوثيق التعليم 2.0 –
“A walk on the wild side?”, Nathan J. Brown, and Mayss Al Alami, November 2017, Carnegie, Diwan.
How will Egypt reform its education system , Oxford Business Group.
[3] كما يشرح مساره في خطاب علة موقع Tedx Cairo، Learning for Life : Tarek Shawki، 1 أكتوبر 2015.
[4] تقرير البنك الدولي حول قرض لدعم تطير التعليم في مصر، مارس 2018.
[5] عمرو علاء الدين، القصّة الكاملة لتجميد مرتّبات المعلّمين، أخبار اليوم، 3 فبراير 2019.
[6] محمّد أشرف أبو عميرة، عربات ناقصة في قطار تطوير التعليم، مدى مصر، 1 أغسطس 2019.
[7] ندى عرفات، هل انطلق التعليم الإلكتروني قبل الأوان؟، مدى مصر، 20 مايو 2020.
[8] Education 2.0:A Vision for Educational Transformation in Egypt, Nariman Mostafa, Ebtehal el Ghamrawy, Claire Hao, Katherine King, Poster, Student Research Symposium, Harvard University, Education2.0 Research and Documentation Project
[9] محمّد أشرف أبو عميرة، عربات ناقصة في قطار تطوير التعليم، مدى مصر، 1 أغسطس 2019.
[10] Education 2.0:A Vision for Educational Transformation in Egypt
[11] Abdalla, Ahmed. The student movement and national politics in Egypt, 1923-1973. American Univ in Cairo Press, 2008.
[12] Engaging Society to Reform Arab Education: From Schooling to Learning , Marwan Muasher and Nathan J Brown, Carnegie Endowment for International Peace,
[13] المرجع السابق
[14] Mirshak, Nadim. “Authoritarianism, education and the limits of political socialisation in Egypt.” Power and Education 12, no. 1 (2020): 39-54.