بتاريخ 01-10-2021، أكّد الناطق الرسمي باسم المحكمة الإدارية في تونس أن رئيسها الأول مهدي قريصيعة رفض كل المطالب الرامية لإيقاف تنفيذ قرارات الوضع تحت الإقامة الجبرية التي صدرت بعد 25 جويلية، باستثناء طلب قاضية تمّ تحجير السفر عنها.
يبدو في هذا الإطار أن ما كان من استجابة لطلب إيقاف تنفيذ قرار تحجير السفر عن القاضية إيمان العبيدي، وما ينتظر من صدور لقرارات مماثلة مستقبلا في ذات الموضوع، هو حدث ورد بعد فوات ميعاده ولا يكتسي بالتالي أي أهمية عملية، وذلك لكون قيس سعيد كان قد اضطر بفعل الضغط الحقوقي المحلي والدولي على التراجع عنه منذ 17-09-2021[1]. كما يظهر ذات القرار كذلك غير ذي أهمية نظرية وفقهية لما هو معلوم من تواتر في القرارات القضائية التي صدرت عن محكمته في ذات الموضوع وذات الاتجاه ولوضوح الخرق القانوني للنصّ والتّغول على صلاحية القضاء وهو الجهة الوحيدة المخوّلة تحجير السّفر على الأشخاص وفق القانون عدد 45 لسنة 2017. وبالمقابل، فإن القرارات برفض مطالب إيقاف تنفيذ قرارات الوضع تحت الإقامة الجبرية هي التي تستحق النظر والتقييم انطلاقا من استيضاح موضوعها وتوصلا لفهم ملابسات صدورها ودلالاتها.
قرارات الوضع تحت الإقامة الجبرية: السياقات
في الأيام الأولى التي تلَتْ إعلان سعيد إجراءات 25 جويلية، قرّر المكلف بإدارة وزارة الداخلية رضا غرسلاوي وضع خمسين شخصا تحت الإقامة الجبرية بدعوى أنهم موضوع ملاحقات في الحرب التي أعلنها رئيس الجمهورية على الفساد. وقد احتذى في إجرائه ذاك حذو ما فعله رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد في 23 و24 ماي 2017 أيضا بذريعة محاربة الفساد[2]. وقد استندت هذه القرارات للأمر عدد 50 لسنة 1978 المنظم لحالة الطوارئ رغم أنّه من المسلّم به أنّ هذا النص غير دستوريّ وأنّ ما نصّ عليه من صلاحيّات لم تشرّع بهدف مكافحة الفساد بل لحفظ النظام وقت الاضطرابات الأمنيّة[3].
واعتبارا لما ذُكر من انحراف بالإجراءات في قرارات الوضع تحت الإقامة الجبرية ولما كان من استقرار لفقه قضاء المحكمة الإدارية، فقد كان يظن أن قاضي المشروعية لن يتردد في القول بوجوب إيقاف تنفيذها لكن هذا لم يكن رأي الرئيس الأول للمحكمة الإدارية.
قاضي المشروعية: لا ضرر من الإقامة الجبرية
أخضعت وزارة الداخلية خمسين شخصا للإقامة الجبرية منهم قضاة ومسؤولين سياسيين سابقين وأعضاء مجلس نواب شعب، ملزمةً إياهم بالبقاء في منازلهم تحت حراسة أمنية مشدّدة وعدم التنقّل خارجها إلا في حالات نادرة وفي حدود منطقة جغرافية ضيقة. وعليه، تقدّم 10 من هؤلاء بقضايا أصلية في طلب إلغاء القرارات المتعلقة بهم في ذات حين التجائهم لقاضي العجلة الإداري طلبا لإيقاف تنفيذها. وقد أسّس هؤلاء طعنهم على ثلاث حجج:
1. أن النص القانوني يسند صلاحية اتخاذ قرار الوضع تحت الإقامة الجبرية لوزير الداخلية في حين أن من صدر عنه ذاك القرار لم يكن وزيرا عين وفق إجراءات تعيين الوزراء بل مكلفا بتسيير وزارة الداخلية عينه رئيس الجمهورية خارج صلاحياته الدستورية.
2. أن الفصل 49 من الدستور التونسي ينص على كونه لا يجوز التقييد من الحقوق والحريات (ومنها حق التنقّل الحرّ المكرس بالفصل 24 منه) إلا بنص قانوني. وعليه، لا يجوز تقييد هذا الحق بالأمر عدد 50 لسنة 1978 الذي هو نص ترتيبيّ.
3. أنه تمّ خرْق حقوق الدّفاع طالما أنه لم يتمّ تمكين المعنيين من نسخ قرارات وضعهم تحت الإقامة الجبرية، علماً أن بعضهم علم بها من تسريبات نُشِرَتْ في صفحات التواصل الاجتماعي قبل أن يتفطّن لحلول الأمن بمحلّ سكناه لغاية تنفيذها.
4. ترتيب الإقامة الجبرية لآثار يصعب تداركها لما فيها من قيد على الاضطلاع بالمسؤوليات العائلية ومن منع للتكسّب وإدارة المصالح الشخصية.
وفي حين كان يُنتظر بفعل أهميّة تلك المطاعن أن تأتي القرارات القضائيّة على درجةٍ من الأهميّة وبخاصة في ظلّ ما يُثار من سؤال حول الحريات والحقوق بتونس بعد 25 جويلية، رأى الرئيس الأول للمحكمة الإدارية بالقول بأنّ تضمين قرارات الإقامة الجبرية سماحاً لمن أخضعوا لها بالتنقّل في منطقة إقامتهم يحول دون منع حقّهم في التنقل ولا يوجب بالتالي إيقافها لتنفيذها جزئيا. وعليه، جاءت القرارات لتفرّط في حماية الحقوق والحريات مجيزة تقييدها خارج أحكام الدستور، وكل ذلك في زمن تحتاج فيه البلاد بحكم وضعها السياسي شدّة وصرامة في ذلك. وفي حين يُخشى أن يكون مردّ ما انتهى إليه الرئيس الأول ضغوطا تعرّض لها وفق ما أكّدته رئيسة اتحاد القضاة الإداريين رفقة المباركي، يؤمل أن تشكّل المواقف القضائية الرافضة لتنازله ذاك مصدر أمل في مستقبل القضاء الحامي للحقوق والحريات.
للإطلاع على القرار، إضغط على الرابط أدنه.
[1] ورد بالبلاغ الصادر عن الرئيس بتاريخ 17-09-2021 ” أسدى رئيس الجمهورية قيس سعيّد تعليماته للسيّد رضا غرسلاوي، المكلف بتسيير وزارة الداخلية، بأن لا يتمّ منع أي شخص من السفر إلا إذا كان موضوع بطاقة جلب أو إيداع بالسجن أو تفتيش.وأكّد رئيس الدولة على أن يتمّ ذلك في كنف الاحترام الكامل للقانون والحفاظ على كرامة الجميع ومراعاة التزامات المسافرين بالخارج.
[2] ورد في بلاغ صدر حينها “تعلم وزارة الداخلية بأنّه عملا بقانون الطوارئ وخاصّة الفصل 5 من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 الذي “خوّل وضع أيّ شخص يعتبر نشاطه خطيرا على الأمن والنظام العامين تحت الإقامة الجبرية في منطقة ترابية أو ببلدة معيّنة”، تمّ إتخاذ قرارات في الإقامة الجبرية في شأن عدد من الأشخاص على أساس ما توفّر من معطيات تثبت إرتكابهم لخروقات من شأنها المساس الخطير بالأمن والنظام العامين، وهذا إجراء ذو صبغة تحفظية ومحدّد في الزمن أملته الضرورة في إطار حماية الأمن العام ومكافحة الفساد، وينتهي بانتهاء حالة الطوارئ. كما تؤكّد الوزارة على حرصها على التقيّد بالضمانات المكفولة للأشخاص المعنيين بمقتضى الدستور والتشريع النافذ خاصّة من حيث توفير ظروف الإقامة الملائمة والإحاطة الصحية اللازمة “.
[3] كنا حينها ممن استنكروا خرق الإجراءات ذاك وممن نبهوا لخطورته على قيم دولة الحقوق والحريات ويراجع في هذا الإطار مقال ” الحرب على الفساد: حكومة تغرد خارج السرب “المفكرة القانونية العدد 7 والذي مما ورد فيه ” يخشى هنا أن تؤدي جرأة الحكومة على أصول المحاكمات وترحيب المجتمع بهذه الجرأة لتراجعات مستقبلية في مجال المكتسبات التي أسس لها الدستور التونسي والتي من أهمها تقديس الحرية الفردية وحماية الملكية الخاصة.وقد يكون من المهم في سياق هذه المطالبة بإصلاح المسار ضمانا لحق المعتقلين في شروط المحاكمة، التنبيه لكونه لا يتصور أن تتحول المبادئ الحقوقية لثابت مفهومي في مجتمع لا يثق في قدرة قضائه على حمايته من كل الأخطار. ويؤمل بالتالي من القضاء التونسي أن يخوض معركته في الدفاع عن اختصاصه من خلال إخضاع أدائه لنقد موضوعي يكشف سبب فشله في تحقيق تقدم حقيقي في قضايا الفساد، خصوصا منها تلك التي جدّت بعد الثورة وتعلقت بأشخاص بات لهم نفوذ سياسي علاوة على نفوذهم المالي.”