في أواسط نيسان 2007، قدّم عدد من الشباب طلباً لشطب قيودهم الطائفية من سجلات الدولة، وذلك احتفاء بالذكرى 32 لاندلاع الحرب الأهلية. وقد امتاز هذا الطلب عما سبقه من طلبات مماثلة (مثلاً: دعوى الشقيفي أمام المحاكم العدلية) بأنّه بُني على تفسير خاص لحريّة المعتقد مفاده أنّها تولي الفرد، سواء اعتقد و/أو انتسب إلى دين أو لم يفعل، حقّ التّصريح أو عدم التّصريح عن ذلك وأنّ تصنيفه إذاً بشكل تلقائي ومن دون مراجعته (بسبب الولادة أو عند تغيير الوالد دينه)، في خانة طائفيّة، هو بمثابة مصادرة لحريته.
وبالطبع لهذا التفسير نتيجتان أساسيتان مفادهما أن الرابطة الدينية كما التصريح عن هذه الرابطة (في حال وجودها) هي خيارات فردية وليست لا إلزامية ولا وراثية ولا تلقائية. وانطلاقاً من ذلك، إنّ تقديم الطلب لا يعني بالضرورة خروج صاحبه عن الأديان المعترف بها إنّما فقط أنّه لا يرغب في إعلام الدولة بمعتقده، مما يسمح للمواطن، أيّاً كان معتقده حتى ولو كان مؤمناً، التقدّم بهذا الطلب مع التقليل قدر الإمكان مما قد يولّده من حساسيات اجتماعية.
ودعماً لهذا الطلب، أورد مقدّموه مبررات قانونية عدة:
فمن جهة أولى، استعرضوا النّصوص المكرّسة لهذه الحرية أي حريّة المعتقد (الدّستور والمواثيق الدّولية) مع إشارة خاصّة إلى الدستور الإسباني الذي عرّف صراحة هذه الحريّة بأنها تشمل حريّة التصريح أو عدم التصريح عن المعتقد، ولكن أيضاً الاتفاقيّة الخاصّة بحقوق الطفل لجهة التزام الدول بحق الطفل في حريّة الفكر والوجدان والدين، مما يمنع تصنيفه تلقائياً في خانة دينيّة بسبب ولادته أو نسبه.
ومن جهة ثانية، أوردوا مبررات أخرى استباقاً لردود الفعل السّياسية والاجتماعيّة، مفادها أنّ الطلب يتوافق مع توجهات الدستور (مادة 95 و فقرة (ح) من مقدمة الدستور) سواء لجهة مراعاة الطائفية أو العمل على تجاوزها. فعلى فرض أنّ العدل “يتطلّب – مرحلياً واستثنائياً – تفرقة المواطنين على أساس طائفي“، فلا يجوز تحقيقاً لذلك أن “يكره المواطنون في أديانهم ومعتقداتهم على أمور لا يريدونها ولا سيما أن تحقيق العدل يتم “بحماية حقوق المواطنين كافة بدلاً من جعل إهمالهم ذريعة لمزيد من انتهاك الحريات“. والإدلاء بهذه الحجّة هو عمليّاً تطبيق لمبدأ قانونيّ معروف هو مبدأ التّناسب الذي يفرض الموازنة بين المنافع المراد تحقيقها والحقوق التي يضحّى بها لهذه الغاية، بحيث يمنع التعرّض لهذه الحقوق إذا كان الحق المضحّى به أكثر أهمية من المنافع المرجوّة، أو إذا كان من الجائز تحقيق الهدف المذكور بتضحيات أقلّ كلفة.
وإلى ذلك، أضافوا مبرراً آخر مفاده أنّ الدستور يفرض على الدولة تسهيل تجاوز الطائفية لا تكريسها مما يوجب الامتناع عن قيد المواطنين في خانات الطوائف بمعزل عن إراداتهم، مع الإشارة إلى أنّ تقديم الطلب في ذكرى بدء الحرب إنما يوحي أنّ شطب القيد الطائفي يسهم بحد ذاته في تعزيز المواطنة وتخفيف حدة الانقسام الطائفي ومعها أسباب المنازعة مستقبلاً.
وإزاء تقديم هذا الطلب، بدا موقف الداخلية مناقضاً تماماً لموقف طالبي شطب القيد، إلّا أنها تريّثت في البتّ في هذه الطلبات ووجهت استشارة إلى هيئة الاستشارات والتشريع للوقوف على رأيها. وقد لخّصت في استشارتها موقفها في نقاط ثلاث:
النقطة الأولى تتّصل بالمنطلقات التي سعت الداخليّة إلى إبرازها على طول صفحات المطالعة، ومفادها أنّ المعايير المكوِّنة لقرارها مستمدّة من حياديّتها ومهنيّتها الإداريّتين وتحديداً من حرصها على حسن تنظيم سجلّات الأحوال الشخصية، بمعزل عن أي موقف أيديولوجي أو مبدئي. فإذا تجاهلت المطالعة حريّة المعتقد والنصوص التي تكرّسها، فهي أيضاً خلت من أيّ انحياز قيميّ إلى الطوائف الدّينيّة التقليديّة، فيما أنها عمدت في المقابل إلى تقويم الطلب من حيث مدى توافقه مع القواعد الحسنى المعمول بها لتنظيم السّجلات وتحديداً فيما قد يسببه قبوله من فوضى أو تباطؤ في تدوين القيود وأيضاً براغماتياً من حيث مفاعيله على صعيد التمتع بالحقوق المدنية.
أما النقطة الثانية، فتتصل بالمضمون (وهي أكثر خطورة) ومفادها أنّ نظام سجلّات الأحوال الشخصية قائم على القاعدة الطائفية، أي على حتمية نسبة الفرد إلى “طائفة” معترف بها قانوناً، كجزء لا يتجزأ من هويته الوطنية، ولا سيما أنّ الإنتماء إلى طائفة هو شرط قانوني للتمتّع بحقوق عدّة في ظلّ غياب قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية. وتالياً، لا مشكلة إذا رغب البعض في التحرّر من القيد الديني من الناحية الأخلاقية، بل المشكلة هي أنّ خروجهم مستحيل طالما أنّ لا مكان لفرد خارج طائفة وأنّ المشرّع لم يقرّ حتى تاريخه “طائفة غير المنتمين إلى طائفة معينة” (!!) مما يعكس في الواقع رؤية معيّنة لدى الإدارة مفادها أنّه ليس بمستطاعها حتى تصوّر حالة كتلك (أي تصوّر فرد خارج سرب) في ظل النظام الحاضر. وبنتيجة هذه المسلّمة، يفترض كتحصيل حاصل أن يصار إلى قيد الأولاد القاصرين على خانة آبائهم (مادة 12 من القرار رقم 60 ل/ر) وإلى إبقاء اللبنانيين كافة مسجّلين في خانة الطوائف التقليديّة الحاضرة فإذا جاز لهم التحرّر من إحداها فلكي يسجلوا في خانة أخرى، وذلك على نقيض مجمل المبادئ والحقوق والحريات المبيّنة في الطلب. وذهب هاجس تأطير الفرد إلى حدّ التلميح إلى وجوب تقديم شهادة من رئيس الطائفة الجديدة، أي رئيس طائفة من لا طائفة لهم (!!)، لقبول طلب الخروج من طائفة.
وختاماً، وتبعاً لذلك، بدت وزارة الداخلية، بما أظهرته من حيادية وعملانية وتمسّك بالأصول المعمول بها، وكأنها باتت في موقع يسمح لها بالتهكّم من أصحاب الطلب الذين يبدون هم بالمقارنة معها بمثابة مراهقين.
وهذا ما نقرأه في المطالعة حرفيّاً حيث خلصت إلى اعتبار الطّلب بمثابة “تعبير عن مصالح أصحابه وأهوائهم“، ممّا يعكس هنا أيضاً ازدراءً وتهميشاً للإشكاليات المتّصلة بحريّة المعتقد باسم العقلانيّة وحسن إدارة السجلّات.
وجواباً على أسئلة وزارة الداخلية، أصدرت هيئة التشريع والاستشارات رأياً وسطيّاً، أقلّه في ظاهره. فإذ أكدت تأييداً للطلب أنّ حرية إقامة الشعائر الدينية تعني أنّ للفرد حرية الإعراب عن هذا الدين منفرداً أو مع آخرين، بشكل علني أو غير علني، وتالياً أنّ له حق الانتماء أو اللاانتماء إلى طائفة والتّصريح أو اللاتصريح عن خياره بهذا الشأن، أيّدت في المقابل مطالعة الإدارة لجهة نسبة الطفل تلقائياً إلى طائفة آبائه، علماً أنّ هذا الموقف جاء عرضاً ومن دون أيّ تعليل بشأن مدى تعارض هذا الأمر مع اتفاقيّة حقوق الطفل. وكأنها بذلك تفتح باباً أمام إرادة الفرد للتحرّر من القيد الطائفي من دون أي شرط إضافي مع تكريس قاعدة التّسجيل تلقائياً بسبب الولادة التي تبقى هي الأصل.
وإلى جانب ذلك، عبّرت الهيئة عن موقف ثالث لا يقلّ أهميّة من حيث أبعاده وذلك في سياق مناقشة النتائج المترتّبة على شطب القيد، وخصوصاً لجهة التمتّع بالحقوق المتّصلة بالانتماء الطائفي. فبعدما وضعت أنّ المبدأ هو وجوب عدم التمييز بين المواطنين على أساس معتقداتهم، رأت أنّ شطب القيد هو فقط في مواجهة “قيصر” (أي الدولة) بمعنى أنه يحتمل أن يكون صاحب العلاقة لم يبقَ فقط مؤمناً بمعتقد معيّن إنما أيضاً منتمياً إلى طائفته من دون التصريح بذلك. وتبعاً لهذا المنطق، فإن شطب القيد الطائفي من سجلات الدولة يرتّب واحداً من أمرين:
إما أنّ الفرد ترك “حقيقة” طائفته، وفي هذه الحالة، يتحمّل مسؤولية حرمانه من حقوق محفوظة للمنتمين إلى طوائف من دون أن يشكل هذا الحرمان سبباً لحرمانه من حرية المعتقد،
وإما أنه يكون قد حافظ على روابط مع طائفته رغم شطب قيده لدى “قيصر”. وفي هذه الحالة، يكون له في أيّ وقت إبراز ما يثبت انتماءه الطائفي، لاستعادة حقوقه.
والواقع أنّ هذا الرأي الذي ينبع، على الأرجح، من إرادة الحدّ من أضرار الشّطب اجتماعياً، يحجّم في الواقع مدى الحرية التي يدعو إلى تكريسها. فإذا عنت حرية المعتقد من هذه الزاوية حريّتي الإنتماء أو اللاإنتماء والتصريح واللاتصريح، فإنها في المقابل لا تسمح للفرد بالتحرر من النتائج الاجتماعية التي تنشأ حكماً عن معتقده “الحقيقي” طالما أنّ “معتقده” يبقى واقعة من الجائز إثباتها بالوسائل كافة في أي حين، ليس فقط من قبله إنما أيضاً من قبل كل ذي مصلحة وربما في مواجهته أو حتى ما بعد وفاته.
وتالياً، ربما يسهم رأيها في منع الدولة من تصنيف النّاس في سجلاتها رغماً عنهم لكنّها في المقابل تُبقي الباب مفتوحاً أمام إمكانية تصنيفهم ولو رغماً عن إرادتهم قضائياً في سياق تحديد حقوقهم أو حقوق ذويهم (كما قد يحصل عند المنازعة في قضايا إرثية سواء كان المشطوب قيده وارثاً أو مورثاً). ومن البديهي أن يؤدي هذا الأمر إلى نتائج معاكسة لحرية المعتقد، طالما أنّ إثبات معتقد فرد ما يفترض عموماً تقويم أفكاره وأقواله ونواياه لاستخلاص مدلولاتها الدينية مما قد يسوّغ تدخّلاً سافراً في جزء هام من خصوصيّاته. لا بل قد يصل الأمر إلى حدّ المنازعة بشأن ماهية المعتقد الديني بما يشبه مجريات دعوى الحسبة، كأن نتساءل: هل من الجائز اعتبار المشطوب قيده مسلماً إذا احتسى الخمر أو سبّ أحد الأنبياء أو مسيحياً إذا استعمل الحاجز الذكري؟ بل ألا يُخشى أن يؤدي كل ذلك إلى تعزيز صلاحيات الطوائف التي ربما يصبح لها سجلات للمنتسبين إليها موازية لسجلات الدولة وربما متناقضة فيما بينها كأن يقيم فرد صلة بطائفتين؟
وهكذا، بإقرارها بحق الفرد في التحرّر من الطوائف، بدت الهيئة وكأنها تحفظ في الآن نفسه لهذه الطوائف حقّ استعادة مشطوبي القيد بواسطة المصالح المرتبطة بها ولو رغماً عنهم، مما قد يسمح بالنتيجة بالتحذير من مغبّة ممارسة الحرية في موازاة الاعتراف بها. ومن البديهي تالياً القول إنّ الاستشارة (وهي بالطبع ريادية لجهة الاعتراف بأحقية الطلب) هي أقرب إلى خطوة أولى (رغم وجود قسط كبير من التخبّط فيها) في اتجاه تجاوز عادات اجتماعية راسخة منه إلى تعبير عن رأي حقوقي متماسك بشأن حرية المعتقد.
في مطلق الأحوال، بادر الوزير زياد بارود إلى توقيع تعميم يسمح لكل من يريد أن يشطب قيد طائفته عملاً بحرية المعتقد وتالياً بحرية التصريح أو اللاتصريح عن المعتقد، وقد نوّه بذلك طلال الحسيني بصفته منسقاً للمركز المدني للمبادرة الوطنية[1] معلناً أنّه بات يحقّ لأي مواطن أن يطلب من مأمور النفوس شطب المذهب عن قيده، كما يحق له إعادة إدراجه في القيد إذا رغب في ذلك. وصرّح الحسيني أنّ عدد الذين بادروا إلى شطب المذهب عن قيودهم هو نحو مائة شخص.
غير أنّ الأشهر والسنوات اللاحقة شهدت تراجعاً على مستويات عدّة، أهمّها أنّ هيئة التشريع والاستشارات حررت استشارة ثانية بيّنت فيها أنّه يمكن لأحد شاطبي القيد الترشّح عن مقعد لطائفة معينة في حال أبرز إفادة من رئيس طائفته بوجود قيد لديها، وهو ما يعني أن ثبوتية القيود أصبحت لدى الطوائف. التراجع الأخطر هو أن عدداً ولو محدوداً من شاطبي القيد قد عادوا وطلبوا إدراج قيودهم للحصول على هذا الحق أو ذاك، وبخاصة لحاجات إرثية أو لحاجات الاشتراك في مباريات للدخول إلى وظيفة عامة. وهكذا وبدل أن تولّد هذه المبادرة قوّة ضاغطة ضد النظام لحثّه على وضع مشروع قانون مدني لشاطبي القيد، بدا النظام وكأنه عاد ليفرض ذاته على هؤلاء. واستمرّ هذا التراجع حتى مطلع 2013 حين تم الإعلان عن عقد الزواج المدني الأول بين شخصين من شاطبي القيد. وهكذا، رشحت قضية شطب القيد عن قضية أخرى لا تقل أهمية: قضية الزواج المدني سنداً للقرار 60 ل/ر بمعزل عن أي قانون ناظم له.
أول زواج مدني في لبنان؟
في أواخر 2012، أقدم شخصان من شاطبي القيد الطائفي على توثيق عقد زواجهما المدني في لبنان لدى دائرة كاتب العدل جوزيف بشارة. وقد استند كاتب العدل للمصادقة على هذا العقد على أمرين أساسيين:
أولاً، أنّ هذا العقد لا يشكل مخالفة للنظام العام طالما أنّ حق الزواج وإنشاء عائلة مضمون في المواثيق الدولية التي باتت تشكل جزءاً لا يتجزّأ من الدستور، وهو أمر يتأكّد في القرار 60 ل/ر الذي ينصّ صراحة على خضوع الذين لا ينتمون إلى أي طائفة في أحوالهم الشخصية بما فيها الزواج للقانون المدني العادي. ولا يرد على ذلك بأن ممارسة هذا الحق تتم لزوماً وفق أحد القوانين الطائفية حتى يتم وضع قانون مدني للأحوال الشخصية، إذ أنّ ذلك يؤدي إلى المسّ بحرية المعتقد التي وردت مطلقة في المواثيق الدولية ولكن أيضاً في المادة 9 من الدستور وفق ما سبق بيانه. كما لا يرد على ذلك بأنه ونظراً لما يرتبه هذا العقد من مفاعيل وموجبات منها ما يتّصل بالموجبات الجنسية، فإن قانونيته تبقى وقفاً على تنظيم مفاعيله. فهكذا حجة تخلط بين وجود الحق وتنظيم مفاعيله وتؤدي بدورها إلى نتيجة عبثية مفادها تعليق الاستفادة من حق أساسي على فعل إيجابي من الدولة بتنظيم مفاعيله، وبكلمة أخرى تحويل الحق الأساسي الوارد على إطلاقه في المواثيق الدولية والملازم لشخص الفرد إلى حق تمنحه الدولة إذا شاءت وحين تشاء. والواقع أنّ للأمور أن تُقرّر في هذه الحالة كما يحصل عادة عند وجود ثغرة قانونية، بحيث يتدخل القضاء عند الحاجة لتحديد الحل القانوني على ضوء المبادئ العامة للقانون أو لعقد الزواج، والتي بإمكانه أن يستنبطها من مجموعة من القواعد الوطنية أو الأجنبية أو الدولية.
أما الأمر الثاني، فمفاده أنّ لكاتب العدل اختصاص بالمصادقة على عقد مماثل لغياب أي مرجع مختص حصراً، طالما أنّ الزوجين لم يصرّحا عن انتمائهما الديني مما يخرج زواجهما من اختصاص أي طائفة.
وبعدما استلمت المديرية العامة للأحوال الشخصية في وزارة الداخلية التصريح بحصول الزواج، رفضت إعطاء العقد مفاعيله عملاً بالمادة 22 من قانون قيد وثائق الأحوال الشخصية التي تنص على وجوب أن يكون التصريح بالزواج الوارد إلى وزارة الداخلية مصدّقاً من الرئيس الروحي الذي تم على يده العقد وأيضاً بالمادة 23 التي تفرض ذكر مذهب الزوجين في وثيقة الزواج. وتبعاً لذلك، طلب وزير الداخلية استشارة هيئة الاستشارات والتشريع التي أصدرت رأياً بأن هذا العقد غير قانوني وليس لكاتب العدل أن يصادق عليه. وقد بنت رأيها على تعريف خاص للزواج، مفاده أنّه “عمل قانوني ذو طابع رسمي، يقيم بموجبه رجل وامرأة اتحاداً تنظّمه إلزامية القوانين، سواء في ما يتعلق بشروط عقده أو بأصول انحلاله أو النتائج التي تترتب عليه”. ويدخل ضمن التعريف أيضاً، أنّ الزواج يخضع لأحكام قانونية ملزمة، ونتائج مترتبة عليه من “بنوّة شرعية وولاية جبرية على الأولاد القاصرين وحضانة ونفقة…”. وتالياً، وفق هيئة الاستشارات والتشريع، لا يكون الزواج صحيحاً إلّا إذا حصل وفق قواعد قانونية ملزمة، بمعنى أنّ حق الزواج يبقى معلّقاً على إصدار قانون مدني ناظم للأحوال الشخصية وهو أمر لم يحصل بعد. وبالتالي “لا يمكن عقد زواج عن طريق استعمال القياس أو المقارنة في مجال يعود تنظيمه للقانون وحده”. واللافت أنّ الهيئة أيّدت رأيها بالمادة 16 من قانون “تحديد صلاحيات المراجع المذهبية للطوائف المسيحية والطوائف الإسرائيلية” الصادر في 2 نيسان 1951 – وهو القانون الذي شكّل شرارة انطلاق حراك المحامين – التي نصّت على أنه “يكون باطلاً كل زواج يجريه لبناني، في لبنان، ينتمي إلى إحدى الطوائف المسيحية أو إلى الطائفة الإسرائيلية أمام مرجع مدني”. والواقع أنّ تأويل هذه المادة عن طريق الاستدلال المعاكس يؤدي إلى نتيجة معاكسة لما وصلت إليه الهيئة، طالما أنّ التنصيص على الإبطال في الحالتين المشمولتين بالمادة 16 إنّما يعني بشكل واضح أنّ الزواج المدني المعقود في لبنان لا يكون بالضرورة باطلاً في حالات أخرى.
فضلاً عن ذلك، نقضت الهيئة رأيها السابق والذي سمح بنشوء فئة شاطبي القيد، وذلك حين أنكرت حق الأفراد باللاإنتماء إلى طائفة من خلال قراءة ملتوية للقرار 60 ل/ر بحيث رأت أنّ الأفراد الذين تناولهم هذا القرار إما ينتمون إلى طوائف ذات أحوال شخصية وإما ينتمون إلى طائفة تابعة للحق العادي وهم الذين يخضعون للقانون المدني في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية. فإذا وضعت ذلك، سارعت إلى نفي إمكانية انتقال اللبناني إلى هذه الطائفة المدنية لعدم وجودها. وعليه، وفق الهيئة، “يُسجّل المولود حكماً على طائفة والده (أو والدته إن كان غير شرعي معترفاً به)، ولا يمكنه إجراء معاملات إبدال دين أو طائفة أو سواها للانتقال إلى وضع مختلف عن ذلك الذي يرعى أحواله الشخصية”. ومحل الخطأ في هذا التحليل هو أنّ القرار شمل علاوة على الفئتين المذكورتين في رأي الهيئة الأشخاص الذين لا ينتمون إلى أي طائفة، وهم يختلفون عن الأشخاص الذين ينتمون إلى طوائف يتم الاعتراف بها من دون أن يكون لها قانون أحوال شخصية فتتبع الحق العادي.
وبذلك، تكون الهيئة قد ربطت ممارسة الحق الأساسي بالزواج وبإنشاء عائلة بوجود قانون ناظم له، وربطت حق الفرد بعدم الانتماء إلى طائفة ومعها حرية المعتقد المكرّسة دستورياً على خلفية عدم وجود طائفة مدنية. وتبعاً لذلك، تكون علّقت الاعتراف بحقّين مطلقين بصدور قانون، فحوّلت الحق المطلق الملازم للفرد (أي فرد) إلى حق معلق على منحة المشرع، بما يتعارض إلى حد ما مع فلسفة حقوق الإنسان في أساسها.
وإذ سارع وزير الداخلية مروان شربل إلى رفض الاعتراف بشرعية هذا الزواج على ضوء الاستشارة، فإنّ وزير العدل شكيب قرطباوي أحال رأي الهيئة على الهيئة الاستشارية العليا التي انتهت إلى موقف مخالف تماماً في اتجاه تكريس حرية اللاإنتماء إلى طائفة والزواج وفقا للأسباب التي كان الكاتب العدل بشارة استند إليها سابقا. هذا الرأي دفع شربل لتسجيل العقود.
هذا على الصعيد القانوني. أما على الصعيد السياسي، فقد تعددت المواقف من مؤيد ومعارض بعنف كما هي حال مفتي الجمهورية الذي أفتى بأنّ أي مسؤول يؤيّد هذا الزواج يكون مرتدّاً. أما نقابة المحامين في بيروت، فقد ذكّرت بنضالها في الخمسينيّات لتكتفي في 2013 ببيان دعم خجول لإقرار قانون للأحوال الشخصية المدنية الاختيارية. وفيما انتهى وزير الداخلية مروان شربل إلى تسجيل عدد من الزيجات المدنية المعقودة في لبنان، فإن وزير الداخلية الذي أعقبه نهاد المشنوق أعلن رفضه تسجيلها داعياً الراغبين بعقد زواج مدني بالسفر إلى قبرص. ولم يبدر عن وزارة الداخلية حتى الآن أي موقف بقبول تسجيل هذه الزيجات.