مثل قطاع التعليم إحدى الركائز الأساسية لمشروع الدولة الوطنية بعد الاستقلال. إلا أن هذا المشروع بلغ اليوم مستوى خطيرا من التدهور الذي يعكسه حجم المشاكل التي يعاني منها هذا القطاع وحالة الاحتقان التي يعيشها أبناؤه. آخر المواجهات التي ما تزال مفتوحة على المزيد من التصعيد بين وزارة التعليم ومنظوريها تمثلت في قرار المعلمين النواب مقاطعة الدروس في كافة ولايات الجمهورية يوم 6 جانفي 2020 احتجاجا على عدم التزام سلطة الإشراف بتفعيل الاتفاقية الممضاة التي تقضي بانتدابهم للعمل بصفة دائمة منذ سنة 2016، والتي تواصلت يوم 13 جانفي في شكل وقفات احتجاجية أمام المندوبيات الجهوية للتربية، في انتظار المسيرة الوطنية باتجاه مجلس نواب الشعب يوم 16 جانفي الجاري. تحرك تزامن مع حراك مشابه نظمه المعلمون المتخرجون حديثا من شعبة التربية والتعليم رفضا لتواصل حالة الضبابية التي تكتنف وضعيتهم الإدارية والمالية. هذه الاحتجاجات سلطت الضوء على ملف التشغيل الهش صلب وزارة التربية والتعليم والذي ظل يراوح مكانه في ظل تمدد طوابير المعلمين الذين أوصدت أبواب المدارس في وجوههم.
بعد إقدام المعلمين النواب على مقاطعة الدروس في جميع محافظات البلاد في 6 جانفي 2020، والتظاهر أمام وزارة التربية والتعليم ومقرات المندوبيات الجهوية للتربية للمطالبة بانتدابهم وتسوية ملفاتهم، بدأت المواجهة تأخذ منحى تصعيديا ردا على التجاهل الرسمي لسلطة الإشراف. إذ أعلنت 14 تنسيقية في مختلف محافظات البلاد تنظيم تحركات جهوية يوم الاثنين 13 جانفي 2019 في جميع المندوبيات وتحديد تاريخ 16 جانفي الجاري موعدا لتحرك وطني يبدأ بالتجمع في ساحة محمد علي أمام المقر المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل قبيل التوجه نحو مجلس نواب الشعب.
هذه التحركات لم تقتصر على المعلمين النواب، بل انضم إليها خريجو شعبة التربية والتعليم الذين قاطعوا بدورهم التدريس في نفس اليوم والتحقوا بزملائهم المحتجين مطالبين الوزارة بانتدابهم مستندين على الفصل 22 من النظام الأساسي الخاص بسلك مدرسي التعليم الابتدائي، المنظم لعملية انتداب أساتذة المدارس الابتدائية[1]، ومذكرين الوزارة بوعدها انتدابهم مباشرة بعد تخرجهم في صائفة 2019. بقاء هذا القرار حبرا على ورق، خلق حالة من الضبابية التي تكتنف مصير الدفعة الأولى من خريجي شعبة التربية والتعليم في انتظار تخرج الدفعات القادمة التي ستفاقم هذا الاشكال.
نقض سلطة الإشراف لوعودها وتعهداتها، وضع وزارة التربية وجها لوجه أمام 12 ألف معلم نائب ما يزال انتدابهم معلقا منذ سنة 2016، إضافة إلى 2500 معلم جديد من خريجي شعبة التربية والتعليم، وهو ما ينذر بأزمة حقيقية قد تصل إلى حد التأثير على مجمل السنة الدراسية إن لم يتوصل الطرفان سريعا إلى حل.
المعلمون النواب: مسار نضالي مضنٍ من دون جدوى
مثلت الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها المعلمون النواب حلقة جديدة في سلسلة من التحركات الاحتجاجية التي انطلقت منذ سنة 2016 للمطالبة بتنفيذ بنود اتفاقية تشغيل الدفعة الأولى وتنزيل القائمة الإسمية للمعلمين المزمع انتدابهم نهائيا بوزارة التربية. إلا أن هذا الملف ظل رهن المماطلة والتسويف رغم التغييرات التي طالت وزارة التربية خلال الفترة المنقضية بدءا بإقالة الوزير ناجي جلول يوم 30 أفريل 2016 ليتولى من بعده سليم خلبوس ترؤس الوزارة بالنيابة ثم تنصيب الوزير حاتم بن سالم يوم 6 سبتمبر 2017، في انتظار تسمية الوزير الرابع في الحكومة المنتظرة عقب الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة. جمود الوضع خلال السنوات الأربع المنقضية، وتواصل سياسة المماطلة من قبل وزارة الإشراف، دفع المعلمين النواب إلى العودة إلى الحراك الميداني من جديد في 06 جانفي 2019، رافعين نفس الشعارات تقريبا التي كانوا رفعوها في سنة 2016 والتي تتمحور في دعوة الطرف الوزاري إلى تنفيذ الاتفاقية الممضاة والقيام بانتدابهم نهائيا.
في هذا الإطار، أوضح كاتب عام النقابة الأساسية للتعليم صادق بن عامر في تصريح للمفكرة أنه "تم خلال سنة 2016 توقيع اتفاقية مع وزارة التربية تقضي بانتداب المعلمين النواب على ثلاث دفعات، أي خلال سنوات 2017 و2018 و2019 إلا أن الإشكال يكمن في كيفية القيام بالانتداب وعدد المعلمين المنتدبين. حيث أن وزارة التربية مثل أي هيكل آخر في الدولة تسجل كل سنة عددا لا بأس به من حالات الشغور الناتجة عن إحالة المعلمين على التقاعد، إلا أنها لا تنتدب نفس العدد من المعلمين النواب للمحافظة على التوازن وعملا بمضمون الاتفاقية، إنما تقوم بانتداب عدد قليل وتوظف البقية تحت مسمى معلم نائب وفق نظام العمل بالساعات من أجل سد الشغور لا غير. هذه الآلية تحرم المعلم من أبسط حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، فرواتبهم على سبيل المثال تتراوح بين 200 و250 دينارا ولا يتقاضونها إلا بعد سنة أو سنة ونصف. حتى على مستوى التغطية الاجتماعية، فإن الوزارة لم تقرّها إلا في سنة 2019 بعد ضغط كبير من جميع الأطراف. إن ما يتعرض له المعلمون النواب يعتبر مظلمة كبرى، والإشكالية الأساسية لا تتعلق بالاتفاقية في حد ذاتها، بل في تنفيذ ما جاء فيها. أما وزارة التربية فتتعمد خلط الحابل بالنابل وتضليل الرأي العام ليُحرم المربي في نهاية المطاف من أبسط حقوقه."
رغم كل هذه الضمانات والوعود التي قدمتها وزارة التربية منذ سنة 2016، إضافة إلى تنصيص الاتفاقية على انتداب ما يناهز 7 آلاف معلم نائب من أصل 12 ألف، إلا أن عدد المعلمين النواب لم يتقلص بالشكل الذي يتناسب مع ارتفاع حالات الشغور المسجلة في المدارس الابتدائية والتي بلغت نهاية سنة 2017 ما يقارب 15 ألف حالة بحسب تصريحات المستوري القمودي الكاتب العام السابق لنقابة التعليم الأساسي. أما بخصوص عمليات الانتداب التي كان من المتوقع أن تتم مع نهاية سنة 2019 وفق مضمون الاتفاقية الممضاة، فهي ما تزال إلى حد الآن عالقة بسبب مماطلة السلطة المعنية وفق تأكيد الكاتب العام للنقابة الأساسية للتعليم وعضو النقابة الجهوية صادق بن عامر الذي شدد في تصريح للمفكرة على أن "النقابة الأساسية للتعليم صاغت برمجة موازية للدفعات التي سيتم انتدابها، وقد تبين أن عددا من المعلمين النواب الذين كان من المتوقع أن يتم انتدابهم خلال سنة 2018، سيتم تأجيل تسوية وضعياتهم إلى ما بعد سنة 2022، هذا اثبات آخر على أن وعود وزارة التربية مجرد تسويف ومضمون الاتفاقية لا يتجاوب مع نسق تطبيقها".
أبناء شعبة التربية والتعليم يجدون أنفسهم خارج حسابات الوزارة
لا تقتصر مشاكل وزارة التربية والتعليم على حراك المعلمين النواب، بل تواجه تزامنا مع هذه الأزمة انطلاق احتجاجات أبناء شعبة التربية والتعليم من المتحصلين على الإجازة في التربية والتعليم. الجيل الجديد من المعلمين بدأ يتحرك في مختلف المحافظات منذ يوم 6 جانفي 2020 تنديدا بعدم انتدابهم. حيث اكتفت وزارة التربية بعد نهاية الثلاثي الأول بإرسال عقود عمل بسنة واحدة بطريقة لم تحترم فيها الوزارة الحد الأدنى من تعهداتها، وانتهكت من خلالها الحقوق المادية والاجتماعية للمربين، إذ ينص العقد على أن الراتب سيكون في حدود 750 دينارا خاضعا للاقتطاع بعنوان الضريبة على الدخل وبعنوان المساهمة في نظام التقاعد والحيطة الاجتماعية.
وتؤكد المعلمة الشابة انتصار الخليفي، التي تخرجت ضمن الدفعة الأولى لشعبة التربية والتعليم في صائفة 2019، للمفكرة أن "هذا العقد ينتهك بشكل صارخ حقوقنا التي يضمنها لنا النظام الأساسي الخاص بسلك مدرسي التعليم الابتدائي في فصله 22 وهناك فرق كبير بين ما ينص عليه النص القانوني والعرض المقدم من وزارة التربية. " لتضيف؛ "عندما تم الإعلان عن شعبة التربية والتعليم خلال سنة 2016، كانت هناك وعود بالانتداب مباشرة ليتم الترسيم في مرحلة لاحقة مثل ما هو معمول به في الوظيفة العمومية، خاصة أن شروط قبول الطلبة في هذه الشعبة كانت صعبة جدا واتجهوا نحو اختيار التلاميذ المتميزين في نتائج البكالوريا. إلا أنه وقع التلاعب بنا ولم يتم إلى حد الآن انتدابنا أو حتى إعطاءنا صفة معينة. فأنا شخصيا تمت تسميتي يوم 19 سبتمبر 2019 ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم أعمل في المدرسة دون صفة، فلا نملك صفة عون وقتي ولا أستاذ ولا معلم أول ولا نائب. أما في ورقة التسمية، فقد منحونا صفة "مدرس" في المطلق دون تحديد الرتبة التي على إثرها سيتم تحديد الأجر والامتيازات وغيرها".
تحرك المعلمين المتحصلين على الإجازة في التربية والتعليم لم يكن الأول من نوعه فقد سبق لهم الاحتجاج أمام مقر وزارة التربية خلال شهر سبتمبر الماضي، حيث امتنعت آنذاك الوزارة عن انتدابهم ولم تقم بتلك الخطوة إلا بعد موجة ضغط كبيرة.
مماطلة الوزارة في المرة الأولى رغم وجود سند قانوني، كان بمثابة جرس الإنذار الذي هز ثقة المعلمين في مصداقية وعود الوزارة، وهو ما دفعهم إلى الامتناع عن توقيع العقود المقدمة إليهم بحسب تأكيد المعلمة الشابة انتصار الخليفي التي شددت على أن غياب عامل الثقة بين المعلمين والهيكل الوزاري هو أحد العوامل الرئيسية في الأزمة الراهنة. " لتضيف أنه "في حال تواصل هذا التسويف فإن المعلمين الجدد البالغ عددهم 2500 شاب وشابة، سينظمون تحركا وطنيا كبيرا أمام مقر وزارة التربية بعد تنصيب الوزير الجديد. "
الفساد وإملاءات صندوق النقد الدولي يطلان برأسيهما من ظلال الأزمة
أشار كاتب عام النقابة الأساسية للتعليم وعضو النقابة الجهوية صادق بن عامر عند حديثه للمفكرة إلى أن "أحد أبرز أسباب تعطل إجراءات الانتداب في الوزارة هو ما بات يعرف بالمصالحة التي أعلنت عنها وزارة التربية مع ممارسات الفساد. فاستشراء الفساد داخل الوزارة سواء في إدارتها أو عبر الانتفاع بموارد الدولة أو الاسراف في توزيع السيارات الإدارية ناهيك عن الصناديق الوهمية التي تعلن عنها الوزارة ثم لا نرى أثرا لنتائجها أو نشاطاتها، يعتبر أحد الأسباب الأساسية لتعطل مسار الانتداب".
تصريح يتوافق مع ما جاء في التقرير الأخير للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، إذ احتلت وزارة التربية المرتبة السادسة في مؤشرات الفساد من مجموع الوزارات بحوالي 345 ملف تمت إحالته إلى الهيئة سنة 2018 من أصل 8150 ملف، أي بنسبة 4.34% من مجموع الملفات.
وتبدو هذه الأزمة منسجمة مع تعهدات الحكومات السابقة لتطبيق إملاءات صندوق النقد الدولي المرتبطة بقرض "تسهيل الصندوق الممدد" الذي تم إقراره لفائدة تونس في أفريل 2015، والتي تضمن جملة من الإملاءات أهمها التحكم في كتلة الأجور في القطاع العام وتجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية. شروط لم تتأخر الحكومة التونسية في الاستجابة لها منذ سنة 2016، لتتوارث قوانين المالية المتعاقبة عملية إغلاق باب الانتداب في القطاع العام أو تخفيضه إلى الحد الأدنى وفي بعض المجالات خصوصا منها الأمنية.
في انتظار المصادقة على حكومة جديدة بعد سقوط حكومة حبيب الجملي، سيجد وزير التربية الجديد تركة ثقيلة لن تقتصر على الملفات العالقة والجبهات المفتوحة مع "جيش الطباشير" كما يسمى المربون في تونس، بل ستشمل معالجة معضلة الفساد في هذه الوزارة المسؤولة عن الاستثمار في العقل التونسي، إضافة إلى عدد من الاستحقاقات المؤجلة والمنسية على غرار مراجعة قضية البرامج البيداغوجية وتدهور جودة التعليم العمومي ووضعية المدارس والمعاهد العمومية وغيرها من القضايا التي تهدد المستقبل التعليمي للأجيال المقبلة.
[1] ينص الفصل 22 من الأمر عدد 2225 لسنة 2013 المؤرخ في 3 جوان 2013 المتعلق بضبط النظام الأساسي الخاص بسلك مدرسي التعليم الابتدائي العاملين بالمدارس الابتدائية التابعة لوزارة التربية على أنه:
«ينتدب أساتذة المدارس الابتدائية في حدود المراكز المراد سدّ شغورها:
1. من بين خريجي مدارس مختصة محدثة للغرض.
2. أو، عند الاقتضاء، عن طريق مناظرة خارجية بالاختبارات أو الشهائد أو الملفات المفتوحة للمترشحين المحرزين على الشهادة الوطنية للإجازة أو الأستاذية.
وتضبط كيفية تنظيم المناظرة الخارجية المشار إليها أعلاه بقرار من وزير التربية. »