كانت المرأة المغربية سباقة لاعتلاء كرسي القضاء في العالم العربي، إذ عينت أول امرأة قاضية بالمغرب سنة 1961، واستطاعت منذ ذلك التاريخ أن تثبت كفاءتها وجدارتها في القيام بهذه المهمة الصعبة، وهو ما أهلها للتدرج في مراتب المسؤولية بالسلك القضائي.
ولقد أسهم ولوج المرأة في وقت مبكر لجهاز القضاء في تحقيق تراكمات على مستوى تجربتها في هذا المجال وتجاوز بعض الرواسب الاجتماعية والثقافية التي كانت منتشرة عشية حصول المغرب على استقلاله، خاصة تلك المرتبطة بالنظرة الدونية للمرأة التي تحد أدوارها في وظائف محددة سلفا تبعا لتقسيم تقليدي لا يسمح للنساء عموما بالوصول إلى مراكز صنع القرار أو احتلال مناصب حساسة في أجهزة الدولة.
ومنذ تاريخ تعيين أول قاضية بالمغرب سنة 1961 وحتى سنة 1971 لم يتجاوز عدد النساء المشتغلات بسلك القضاء عشر قاضيات، وهو العدد الذي بدأ في الارتفاع تدريجيا مع تقبل المجتمع للفكرة وإدراكه بأن أنوثة المرأة لا يمكن أن تشكل عائقا يحول دون وصولها إلى منصب القضاء، إذ أن معاييرالكفاءة والتجرد والنزاهة ومستوى الأداء هي المعول عليها في هذا المجال، وهي معايير يمكن أن تتوفر في النساء كما هو الحال بالنسبة للرجال على حد سواء.
وهكذا بدأ المشهد القضائي الوطني يسجل بشكل تدريجي حضورا متميزا ولافتا للمرأة القاضية بعدة محاكم سواء بجهاز النيابة العامة أو بالقضاء الجالس. وفي هذا السياق تم تعيين أول امرأة مستشارة في المجلس الأعلى سنة 1987، ووصلت المرأة القاضية إلى الدرجة الاستثنائية لأول مرة سنة 1995.
وابتداء من سنة 1998 شرع في إسناد بعض مناصب المسؤولية للمرأة القاضية سواء كرئيسة غرفة أو رئيسة محكمة أو وكيلة للملك، إذ تم تعيين أول رئيسة غرفة بالمجلس الأعلى، وأول رئيسة لمحكمة تجارية (بالرباط)، وأول رئيسة أولى لمحكمة استئناف تجارية (بفاس)، وأول رئيسة لمحكمة ابتدائية (بالرباط) وذلك خلال نفس السنة، ليعقب ذلك تعيين أول قاضية بالمجلس الدستوري سنة 1999 ويتواصل مسلسل الحضور القوي والمتزايد للمرأة في جهاز القضاء.
وإذا توقفنا عند الإحصائيات الرسمية المنشورة من طرف وزارة العدل يمكن القول أن المرأة القاضية بالمغرب أصبحت حاضرة وبنسب متفاوتة بكل درجات المحاكم وأنواعها، خاصة على مستوى محكمة النقض وكذا المحاكم المتخصصة.
ويبلغ عدد النساء حاليا في سلك القضاء 896 قاضية في مقابل 3154 قاضيا، أي بنسبة 22.12%، وهي نسبة آخذة في الارتفاع خاصة إذا علمنا
أن هذه النسبة لم تكن تتجاوز 20.41%سنة 2008، و20.48%سنة 2009، و21.50%سنة 2010، وهي النسبة المرشحة لارتفاع أكبر في أفق سنة 2015 حيث من المنتظر أن يتم تعيين حوالي 244 قاضية مع تخرج الأفواج الجديدة من القضاة من المعهد العالي للقضاء ليصل عدد القاضيات بالمغرب إلى حوالي 1140.
وإذا تأملنا توزيع القضاة من حيث الجنس أو النوع الاجتماعي بالمحاكم حسب درجاتها وأنواعها نلاحظ انه تتواجد بمحكمة النقض 51 مستشارة في مقابل 122 مستشارا، وبمحاكم الاستئناف 72 مستشارة في مقابل 512 مستشارا، وبالمحاكم الابتدائية 357 قاضية في مقابل 1068 قاضيا.
وتتواجد المرأة القاضية أيضا بالمحاكم المتخصصة إذ يبلغ عدد المستشارات بمحاكم الاستئناف التجارية 13 مستشارة مقابل 24 مستشارا، وبالمحاكم التجارية 36 قاضية مقابل 68 قاض، وبمحاكم الاستئناف الإدارية 7 مستشارات مقابل 18 مستشارا، وبالمحاكم الإدارية 18 قاضية في مقابل 57 قاض.
وتتواجد المرأة القاضية أيضا في مواقع أخرى بارزة إذ توجد 3 قاضيات ملحقات بالمعهد العالي للقضاء، وقاضيتان بإدارة السجون، و19 قاضية ملحقة بمصالح الإدارة المركزية أو بجهات أخرى، غير أنه لا توجد أي قاضية بالمحكمة العسكرية.
أما إذا تأملنا توزيع هذه الأعداد بحسب التوزيع الجغرافي فيلاحظ أن الحضور القوي للعنصر النسوي بجهاز القضاء يسجل أعلى نسبة له على مستوى محوري القنيطرة الدار البيضاء حيث تبلغ نسبتهن على التوالي 37.04 %بالدائرة الاستئنافية للدار البيضاء، و30.60%بالدائرة الاستئنافية للرباط وبالمصالح المركزية، و24.24 %بالدائرة الاستئنافية بالقنيطرة، ثم يبرز محور فاس مكناس كمحور بارز للتواجد النسوي بجهاز القضاء إذ تبلغ نسبتهن 17.92 %بالدائرة الاستئنافية لفاس، و16.33%بالدائرة الاستئنافية بمكناس، إلى جانب محور طنجة تطوان الذي يعرف نسبة 14.29 %بالدائرة الاستئنافية لطنجة، و 8.11 %للدائرة الاستئنافية بتطوان.
بينما يكاد التواجد النسوي يكون منعدما بمناطق أخرى خاصة على مستوى الدائرة الاستئنافية للحسيمة حيث لا تتواجد أي قاضية،والدائرة الاستئنافية للراشدية حيث لا تتجاوز نسبة القاضيات 1.85%، والدائرة الاستئنافية للعيون حيث لا تتعدى نسبتهن3.33%.
وإذا تأملنا توزيع القضاة من حيث الجنس أو النوع الاجتماعي بالمحاكم بحسب المهام، وبالرجوع إلى الأرقام الرسمية لسنة 2011 يلاحظ أن المرأة القاضية بالمغرب حاضرة سواء كقاضية أو ممثلة للنيابة العامة إذ تمارس 578 قاضية مهامها ضمن القضاء الجالس بينما تمارس 104 قاضية مهامها ضمن القضاء الواقف.
ورغم الحضور المتزايد للمرأة المغربية في سلك القضاء عبر مختلف درجاته إلا أنه لا بد من إبداء مجموعة من الملاحظات:
تتعلق الملاحظة الأولى بمسألة التوزيع الجغرافي إذ يلاحظ أن القاضيات بالمغرب يتواجدن بمناطق معينة وخاصة المدن الكبرى بنسب كبيرة، بينما يكاد يكون تواجدهن شبه منعدم في بعض المحاكم مثل الدائرة الاستئنافية للحسيمة، الراشدية ورززات، والعيون.. وهي مسألة تبدو للوهلة الأولى ايجابية بالنظر إلى كون المجلس الأعلى للقضاء يخص النساء القاضيات بالأولوية في الاستجابة لرغباتهن في التعيين، ويراعي أوضاعهن العائلية والتزاماتهن أيضا، لكن هذا من شأنه أن يطرح إشكالا أعمق بخصوص ما إذا كان السبب الحقيقي وراء غياب تواجد المرأة القاضية بمناطق معينة مرده أن المجتمع المغربي في هذهالمناطق لم يصل بعد إلى الدرجة التي تجعله يتقبل بارتياح فكرة جلوس المرأة على منصة القضاء والحكم.
وتتعلق الملاحظة الثانية بمسألة توزيع الأعمال داخل المحاكم إذ يسجل وجود تقليد يكاد يكون راسخا لدى بعض المسؤولين القضائيين يتمثل في تكليف النساء القاضيات سواء بالنيابة العامة أو القضاء الجالس بأنواع معينة من القضايا خاصة قضايا الأسرة، والأحداث، والعنف ضد النساء، والقضايا المدنية والاجتماعية والتجارية، بينما يندر تكليفهن بالقضايا الجنائية أو الجنحية التلبسية عموما. ويلاحظ في نفس السياق أنه نادرا ما يتم تكليف المرأة القاضية بمهمة قاضي التوثيق أو قاضي مكلف بالزواج رغم أن المقتضيات القانونية الجاري بها العمل لا تمنع ذلك بشكل صريح.
وإذا كان من السهل أن نتفهم هذه الخصوصية في توزيع الأعمال داخل المحاكم بالنظر إلى وجود اعتقاد مفاده أن المرأة القاضية أقدر على تفهم مشاكل النساء والأحداث، وتعطي مردودية أكثر بالانكباب على القضايا المدنية أو الاجتماعية، وهي الأقدر على استخدام ملكة الإنصات وتفعيل إجراءات الصلح؛ إلا أن السؤال يدق بخصوص إقصاء المرأة القاضية من التقرير في الملفات الجنائية والتلبسية.
وتجدر الإشارة إلى أن التبريرات التي تعطى لهذه المسألة تتعلق بالأساس في مراعاة الظروف الاجتماعية للمرأة القاضية، إذ أن المناقشات في القضايا الجنائية والتلبسية عموما تستغرق وقتا طويلا، وقد تتأخر المداولات ووقت النطق بالحكم إلى فترات متأخرة من الليل، الشيء الذي قد يعرض المرأة القاضية لعدة مخاطر، فضلا عن انعكاسات ذلك على حياتها الخاصة والتزاماتها العائلية.
وبدون أن نناقش مدى صحة هذه التبريرات، نكتفي بالإشارة إلى أن القضاة عموما لا يستفيدون من أي حماية لهم سواء أثناء ممارسة عملهم، أو خارج أوقات عملهم، ولا أدل على ذلك من كثرة الاعتداءات المتكررة التي يتعرض لها القضاة من الجنسين والتي تصل إلى حد التعنيف الجسدي، الشيء الذي يدق ناقوس الخطر لضرورة تجاوز هذا المشكل من خلال حلول جريئة وجذرية وفعالة، عوض الاكتفاء بإقصاء النساء القاضيات عن البت في هذه القضايا تحت هذا المبرر.
أما الملاحظة الثالثة فتتعلق بضعف الحضور النسوي على مستوى مناصب المسؤولية، إذ أن المرأة القاضية بالمغرب لا تصل إلى مراكز صنع القرار بسهولة، وهو ما تؤكده الأرقام الرسمية إذ لا تتواجد في الفترة الراهنة سوى مسؤولة واحدة على مستوى محاكم الاستئناف التجارية، و3 مسؤولات فقط على مستوى المحاكم التجارية وكلهن يترأسن جهاز النيابة العامة، إلى جانب مسؤولتين بالمحاكم الإدارية، وعدد محدود منهن فقط على مستوى المحاكم الابتدائية، وقد شهدت سنة 2011 حدث تعيين أول سيدة مديرة بالإدارة المركزية لوزارة العدل، وهو ما يطرح التساؤل بخصوص سبب ضعف فرص وصول المرأة القاضية إلى مراكز صنع القرار القضائي.
بل ويلاحظ أن الحضور المتزايد للمرأة المغربية في جهاز القضاء والذي مكنها من الفوز بثقة المواطنين، لم يواكبه حضور مماثل حتى على مستوى الأجهزة التمثيلية ولا سيما المجلس الأعلى للقضاء –سابقا- فرغم إجراء 12 استحقاقا انتخابيا لم تنجح المرأة المغربية القاضية بالفوز بثقة زملائها من القضاة بل وحتى زميلاتها القاضيات رغم أنهن أصبحن يمثلن نسبة مهمة ومتزايدة، وهو ما يطرح إشكالات عديدة بخصوص السبب المباشر وراء هذا الغياب أو التغييب، وما إذا كان يكمن في كون المرأة القاضية غير متحمسة لمثل هذا المنصب، أو أن زملاءها من القضاة غير واثقين من إمكانياتها وكفاءتها في الاضطلاع بمهمة عضوية هذه المؤسسة الدستورية الساهرة على تدبير الضمانات المخولة للقضاة.
وما يزكي طرح مثل هذه التساؤلات هو أن نسبة النساء اللواتي ترشحن للعضوية بالمجلس المذكور وعلى امتداد حوالي نصف قرن من الزمان تبقى جد ضئيلة، ربما بسبب اقتناع أغلبية القاضيات بصعوبة مقاومة الثقافة الذكورية المحافظة السائدة بالجهاز، أو غياب المحفزات التي تجعلهن يقدمن على تجربة الترشيح خاصة وأن طريقة اشتغال المجلس الأعلى للقضاء في ظل الدستور المعدل، لم تكن خاضعة لمعايير واضحة أو دقيقة بخصوص الضمانات المخولة للسادة القضاة والقاضيات ولا سيما ما يتعلق بالتعيينات وتوزيع المسؤوليات والترقيات.
ويلاحظ أن نفس الغياب للعنصر النسوي القضائي امتد لأجهزة الودادية الحسنية للقضاة التي ظلت ولفترة طويلة الإطار الجمعوي الوحيد المؤطر
للقضاة، إذ لم تصل المرأة القاضية إلى مكتبها المركزي إلا مؤخرا سنة 2010 حينما تم انتخاب سيدتين في أول سابقة اعتبرت تحولا نوعيا في تركيبة الودادية.
ولعل مثل هذا التغييب لدور المرأة القضائية في مراكز صنع القرار هو الذي دفع المشرع الدستوري بعد تعديل 2011 لتطبيق أسلوب الكوطا لضمان تمثيلية مشرفة للمرأة القاضية في المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
وفي الأخير لا بد من الاعتراف بأن تواجد المرأة المغربية بجهاز القضاء أعطى صورة مشرفة لها، وللمرأة المغربية عموما إذ أبان عن قدراتها على القيام بمهامها بكل تجرد وحياد ونزاهة، وأكد بأن تحمل مهمة القضاء ليس رهينا بجنس معين، وإنما بمواصفات وقدرات خاصة تؤهل كل من توفرت فيه للقيام بهذه الوظيفة الحساسة بغض النظر عن نوعه الاجتماعي.
لذا فإن مسؤولية المرأة القاضية تبقى مماثلة لزميلها القاضي إذ يعول عليهما الانخراط معا في ورش إصلاح القضاء، باعتبارهما عنصرا فعالا في هذا الورش الكبير، وهو ما أبانت عليه في عدة مناسبات إذ يكفي أن نستحضر في الأخير تجربة المرأة القاضية من خلال نادي قضاة المغرب كأول جمعية مهنية تولد في ظل الدستور الجديد، فالمرأة القاضية كانت حاضرة في كل محطاتها بدءا من الجمع العام التأسيسي ليوم 20/08/2011، إذ لم يحل المنع الذي تعرض له هذا الجمع من توافد النساء القاضيات ووقوفهن جنبا إلى جنب مع زملائهن من القضاة، والانخراط في عملية انتخاب الأجهزة المركزية ثم الجهوية في جميع مراحلها، وتحقيقهن نتائج مهمة على مستوى التمثيلية النسائية، إذ فازت قاضيتان بمنصب رئيس مكتب جهوي بكل من الدائرتين الاستئنافيتين لتطوان ومكناس، كما تمكنت العديد من النساء القاضيات من الوصول إلى عضوية المكاتب الجهوية، بالرغم من حداثة تجربة نادي قضاة المغرب، وبالرغم أيضا من أن نظامه الأساسي لم يتبنى أسلوب الكوطا النسائية.
ويبقى حدث التعديل الدستوري الجديد لسنة 2011 الذي ارتقى بالقضاء إلى مستوى سلطة مستقلة واعترف للقضاة بحقهم في التعبير والانخراط في جمعيات مهنية للدفاع عن حقوقهم، فرصة لتفعيل تجربة المرأة القاضية بالمغرب خاصة مع قرب صدور مجموعة من القوانين التي تهم السلطة القضائية ومن بينها النظام الأساسي الذي نتمنى أن يتغير اسمه من "النظام الأساسي لرجال القضاء" إلى نظام أساسي للقضاة أو للسلطة القضائية، على اعتبار أن هذه التسمية الحالية تقصي وتتجاهل دور المرأة القاضية وتجعلها وكأنها غير معنية بهذا القانون.
* ملحوظة: مصدر الاحصائيات التي اعتمدتها هذه الدراسة هو الموقع الرسمي لوزارة العدل وفق آخر الاحصائيات المنشورة لسنة 2011.