“
في 14/9/2018 انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي عدد من الصور توضح بناء سور على كورنيش الإسكندرية، يحجب رؤية البحر بشكل كامل بطول السور والذي يتجاوز 20 متر. وفي إثر ذلك، تقدم النائب هيثم الحريري بطلب عاجل إلى رئيس مجلس النواب، بشأن التعدي على حق المصريين في التمتع بالبحر ورؤية الشاطئ. وأضاف الحريري في بيانه أن “ما يحدث في الإسكندرية يُثير غضب وسخط الكثيرين من قاطنيها، على ضوء ما يجري الآن من إنشاءات خرسانية على مساحة واسعة من شاطئ سيدي جابر، وبارتفاع الكوبري، مما يحجب رؤية البحر، مؤكداً أن الأمر لم يتوقف على منطقة سيدي جابر فقط، وإنما سبقتها منطقة “جليم”، بعد تخصيص شواطئ لمجموعة من الفنادق”. وعليه، أصبح البحر وفق الحريري “مقتصراً على فئات بعينها دون الفئات غير القادرة”.
ومن المفارقات أن بناء هذا السور تم بعد أيام قليلة من تولي المحافظ الجديد للإسكندرية الدكتور عبد العزيز قنصوه منصبه، والذي أكد فور توليه المنصب على أنه غير راضٍ عن الوضع الحالي المُتعلق بحجب رؤية البحر. وقد أشار قنصوه إلى أنه ابتداء من العام المقبل، سيتم تطبيق كود موحد للشواطئ أثناء عملية الطرح في المزايدات، وهو عبارة عن توصيف فني دقيق يوضح حجم وسعة المنشآت والأعمدة الخرسانية وفي حال بناء “طوبة واحدة” مخالفة عن الكود ستتخذ المحافظة إجراء فوريا ضد المخالف بالإزالة والغرامة[1] (الأمر الذي لم يحدث حيث استمرت التعديات ووصلت لبناء سور بهذا الارتفاع). كما تحدث قنصوه عن حق كافة المواطنين في رؤية البحر وتعهد بالعمل 16 ساعة من أجل تحقيق ذلك الهدف.
وتجدر الإشارة إلى أن شواطئ الإسكندرية تعرضت لاعتداءات مستمرة طوال السنوات الماضية؛ حيث تقلص عدد الشواطئ العامة/ المجانية بشكل واضح. وهذا الأمر يندرج تحت سياسة أوسع للدولة في “تخصيص الشواطئ” والسيطرة على “المنافذ” المائية؛ لتصبح الشواطئ والممرات البحرية والنهرية في مصر للأغنياء فقط.
شواطئ الإسكندرية: اعتداءات مستمرة
منذ 2011 ومع الانفلات الناتج عن انسحاب وزارة الداخلية عن العمل بعد الثورة، وفي ظل غياب الدور الرقابي لمحافظة الإسكندرية، بدأ مستأجرو الشواطئ في بناء الأسوار المرتفعة بدعوى تحقيق الخصوصية لرواد تلك الشواطئ. وبالتالي، انتشرت الأسوار الخشبية والحديدية بطول الكورنيش، بداية من شاطئ المندرة السياحي وصولاً إلى شاطئ بحري بحي الجمرك، والتي منعت المواطنين من رؤية البحر بصورة طبيعية أو الجلوس على الكورنيش. لم يكتفِ الجهاز الإداري للدولة بالوقوف صامتاً أمام هذه التعديات وحسب، بل قامت محافظة الإسكندرية بطرح ما تبقى من شواطئ مجانية/عامة للاستثمار؛ ما أدى إلى تراجع عدد هذه الشواطئ إلى خمسة شواطئ فقط بطول ساحل الإسكندرية.
ويرجع الأمر إلى فترة تولي اللواء عادل لبيب منصب محافظ الأسكندرية في 2010؛ حيث قسم الشواطئ إلى شواطئ مميزة، سياحية ومجانية؛ وكانت الشواطئ المجانية/العامة 20 شاطئ فقط. وفي 2017، ومع استمرار سياسة طرح الشواطئ للاستثمار، أصبح عدد الشواطئ العامة/المجانية خمسة شواطئ فقط هي جليم، شهر العسل، الهانوفيل، المكس وسيدي كرير ويسمح فيها للمصطاف بدخول الشمسية والكراسي الخاصة، وفي حالة رغبته في التأجير يكون سعرها 3 جنيهات للشمسية وجنيه واحد للكرسي من منفذ البيع الخاص بالمحافظة مع استخدام جميع الخدمات مجاناً من وحدات خلع الملابس ودورات المياه.[2]
وفي مارس 2017، تطورت التعديات على شواطئ الإسكندرية لتصل لردم جزء من أحد الشواطئ، حيث تم ردم الجزء الغربي من شاطئ الشاطبي. وفي هذه المرة، تجاوز الأمر فكرة تحويل الشواطئ العامة إلى شواطئ استثمارية، حيث تم الردم بهدف تحويل الشاطئ إلى كراج سيارات كازينو الشاطبي. فقام المستثمر بصب خرسانة على رمال الشاطئ ليختفي الشاطئ تمامًا، ويصبح كتلة خرسانية تلامس مياه البحر دون حاجز رملي، في مخالفة صريحة لقانون البيئة. [3]
الاعتداء على الدستور والقصور التشريعية
ما تتعرض له الشواطئ والممرات البحرية، من اعتداءات مستمرة، وحرمان المارة من التمتع بها ومشاهدتها، هو اعتداء على حق دستوري أصيل، كرسه الدستور في المادة 32 منه التي نصت على التزام الدولة بالحفاظ على الموارد الطبيعية وحسن استغلالها. كما نصت المواد 33 و34 على حماية الدول للملكية بأنواعها الثلاثة (عامة وخاصة وتعاونية) مع التأكيد على حرمة الملكية العامة. كما نصت المادة 45 من الدستور على حماية خاصة للشواطئ والممرات البحرية، وحق المواطنين في التمتع بها[4].
وعلى الرغم من مرور أكثر من 4 سنوات على إصدار الدستور المذكور ، إلا أن قانون البيئة الصادر في 1994 لم يتم تعديله لجهة تعزيز حماية الشواطئ والممرات المائية، كما منصوص في الدستور؛ لتبقي البنية التشريعية المصرية تعاني من قصور فيما يتعلق بحماية الشواطئ. فالجدير بالذكر أن القانون الحالي يسمح بالاعتداء على حرم الشاطئ بعد الحصول على بعض التصاريح من الجهات الإدارية وجهاز شؤون البيئة، فالمادة 73 قانون البيئة[5] علقت حظر إقامة أية منشآت على الشواطئ البحرية للجمهورية لمسافة مائتي متر إلى الداخل من خط الشاطئ، على موافقة الجهة الإدارية المختصة وموافقة جهاز شؤون البيئة، بما يعني السماح بالبناء في حرم الشواطئ وعلى مسافة أقل من 200 متر بعد الحصول على تصريح وتسديد الرسوم، واستيفاء بعض الشروط البيئية للمحافظة على الشواطئ من التلوث. كما علقت المادة 74 كذلك حظر إجراء أي عمل يكون من شأنه المساس بخط المسار الطبيعي للشاطئ أو تعديله دخولاً فـي مياه البحر أو انحسارًا عنه على موافقة الجهة الإدارية المختصة وموافقة جهاز شؤون البيئة أيضًا. ما يشير إلى الحماية المنقوصة للشواطئ، والتي فرضت حماية بيئية، ولم تفرض حماية لحق المواطن في التمتع بهذه الشواطئ. هو ما يوضح بجلاء أسباب المشكلة التي تحدث الآن من سيطرة الدولة والمستثمرين على الشواطئ بطول البلاد وعرضها؛ حيث ركزت القوانين على حماية البيئة، ولم تتطرق إلى حق المواطنين في الولوج للشاطئ ورؤيته والتمتع به، وهي الحقوق التي نص عليها الدستور المصري الحالي، والتي تبقى دون تفعيل حتى تعديل القوانين لفرض هذه الحماية.
حماية قضائية منقوصة
كان لمجلس الدولة المصري دور بارز في حماية الملكية العامة وبالقلب منها الشواطئ البحرية، ففي الدعوى الشهيرة بقضية أندية القوات المسلحة والشرطة والمعلمين بشاطئ رشــــدي ومصطفى كامل، قضت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية في الدعوى رقم 1694 لسنة 55ق[6] ، بوقف تنفيذ القرارات المطعون فيها فيما تتضمنه من إنشاء نوادٍ داخل منطقة حرم البحر. وقد أقامت قضاءها على مخالفة القرارات الإدارية المطعون فيها للمادة 74 من قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 وعدم حصولهم على التصاريح اللازمة من الجهات الإدارية وجهاز شؤون البيئة.
وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة أسست حكمها على مخالفة الإجراءات للقانون وعدم حصول الجهات على التصاريح اللازمة من جهاز البيئة. ولم يلتفت الحكم إلى حق المواطنين في رؤية البحر، الأمر الذي تغير الآن بموجب نصوص الدستور ما يؤكد على ضرورة إدخال تعديلات على البنية القانونية تضمن تفعيل الحماية الدستورية، وتمكين القضاء من تفعيل رقابته على المخالفات الإدارية، بما يضمن وقف التعديات على الأملاك البحرية العامة.
[3] المرجع السابق – الإسكندرية القراء يمتنعون
[4]تنص المادة 45 من الدستور على: ” تلتزم الدولة بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية. ويحظر التعدي عليها، أو تلويثها، واستخدامها فيما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن في التمتع بها مكفول …. “
[5] قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994
[6] هي دعوى أقامتها إحدى الجمعيات المعنية بحقوق البيئة بطلب وقف تنفيذ القرارات الصادرة من الجهات الإدارية بالتصريح بإقامة أندية للشرطة والمعلمين والقوات المسلحة داخل حرم البحر بالمنطقة الواقعة بشاطئ رشدي ومصطفى كامل.
“