أصدرت الهيئة المؤقتة للإشراف على القضاء العدلي بتاريخ 17 اكتوبر 2013 أعلنت فيه نهاية الجولة الاولى من معركة التعيينات القضائية. وكان صراع الهيئة مع وزارة العدل بدأ يوم 14 اكتوبر 2013 بعد ان بادر وزير العدل في خطوة مفاجئة بتوجيه سبع مذكرات عمل لقضاة يعلمهم فيها بإسناد بعضهم خططا وظيفية قضائية وسحب خطط من بعضهم الآخر واعادة تعيينهم بخطط قضائية سابقة كانوا يشغلونها. حسمت هيئة القضاء جولة الصراع قانونيا بعد ان اصدرت قرارا مضادا الزم القضاة المعنيين بعدم اعتماد مذكرات الوزير لصدورها عن جهة غير مختصة وحسم الصراع على ارض المعركة اي بالمحاكم والمصالح القضائية لفائدة هيئة القضاء بعدما التزم جميع القضاة الذين شملتهم قرارات الوزير بمقررات الهيئة.
وفي إثر ذلك، انتظر القضاة ردة فعل الجهة الحكومية على التطورات الحاصلة خصوصا وان الهيئة المؤقتة للإشراف على القضاء العدلي وجهت مراسلة ادارية للوزير تعلمه فيها بأن قراراته تخرج عن اختصاصه وأن عليه التراجع عنها. كما ان بيان الهيئة تضمن اتهامات صريحة للوزير بالسعي لتعطيل اعمال الهيئة وهي اتهامات صدرت عن هيئة نص عليها الدستور المؤقت للدولة التونسية بما يجعل منها اتهامات خطيرة يتعين على المسؤول الحكومي بيان موقفه منها.
لم يدم انتظار المستجدات طويلا. فقد تبين من خلال الرائد الرسمي للجمهورية التونسية الذي صدر بتاريخ 13 اكتوبر 2013 أن وزارة العدل كانت قدمت مقترحا بتعيين المدير العام للمعهد الأعلى للقضاء، استتبعه أمر من رئيس الحكومة بتعيين الشخص المقترح، دون ان تكون هيئة القضاء العدلي قد اتخذت قرار التعيين او اعلمت به. وأتى نشر قرار التعيين ليعيد الصراع الى منطلقه خصوصا وأن التسمية في خطة المدير العام للمعهد الاعلى للقضاء كان يتولاها المجلس الاعلى للقضاء سابقا (والذي حلت الهيئة محله في 2013) بما يستفاد منه ان الحكومة القائمة اسندت لذاتها صلاحية لم يكن نظام الاستبداد يتمتع بها. ويلحظ أن قرار التعيين سبق أزمة التعيينات وان تأخر الصراع حوله بنتيجة تأخر نشره.
والى ذلك، وبعد صمت مطبق طويل، أصدر الملحق الصحافي لوزير العدل في 21/10/2013 بلاغا صحفيا تناول الازمة من وجهة نظر الوزارة، وذلك تحت عنوان: "توضيح حول انهاء تكليف قاضيين بخطة قضائية". وقد اقتصر البلاغ على توضيح موقف وزير العدل من تعيين الرئيس الاول للمحكمة العقارية والمتفقد العام بوزارة العدل فيما تجاهل بشكل تام سائر التعيينات التي شملتها قرارات الوزارة على نحو يعكس ارتباكا معينا من قبلها وربما تسليما ضمنيا بضعف حجتها. وقد بين التوضيح ان القانون المحدث لهيئة القضاء العدلي نص في فصله الاول ان الهيئة تحل محل المجلس الاعلى للقضاء مما يجعلها محكومة في صلاحياتها بحدود صلاحيات المجلس الذي خلفته، علما أن صلاحية التعيين في هذين المنصبين كانت من صلاحية السلطة التنفيذية وليس المجلس الأعلى للقضاء بموجب القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلق بنظام القضاء و للفصل السابع مكرر منه تحديدا. وقد عكس هذا البلاغ موقفا رسميا لوزارة العدل بالاستناد الى أحد قوانين الحقبة الاستبداية لتحديد صلاحيات هيئة القضاء العدلي، مغفلا أن القانون الأساسي عــدد 13 لسنة 2013 المؤرخ في 2 ماي 2013 المتعلق بإحداث هيئة وقتية للإشراف على القضاء العدلي نص صراحة في الفصل 14 منه على أن "تسمية القضاة وتعيينهم (تكون) بناء على قرار ترشيح من الهيئة وذلك طبقا لأحكام الفصل 17 من القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 والمتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية. وتكون ترقيتهم ونقلتهم بأمر من رئيس الحكومة بناء على رأي مطابق من الهيئة". فضلا عن ذلك، استمد البلاغ حجة إضافية على صلاحية الوزارة، وذلك من سهو الهيئة عن تعيين أشخاص في هذين المنصبين، مما يعكس وفق البلاغ تيقن الهيئة بخروج صلاحية تعيينهما عن ولايتها القانونية.
ولم يكتف البلاغ بالدفاع عن موقف الوزارة وصلاحياتها، انما نحى في خاتمته الى مهاجمة هيئة القضاء والتحريض ضدها بمقولة أن " ما أقدمت عليه من إصدار بيان وقرارات تحرّض على عدم العمل بقرارات صادرة ممّن له النظر يعتبر انحرافا خطيرا من شأنه تهديد السير العادي للعمل القضائي وتكريس ممارسات غريبة عن الوسط القضائي ولا يساعد على بناء سلطة قضائية مستقلة ومحايدة ونزيهة".
وبذلك، وضع البلاغ حدا للآمال المعقودة في القبول التلقائي للسلطة التنفيذية بما قررته هيئة القضاء العدلي. وقد شكل إصداره بالتزامن مع حصول العلم الفعلي بقرار الحكومة تعيين مدير عام للمعهد الاعلى للقضاء اعلانا من جانب واحد عن بداية الجولة الثانية من الصراع بين هيئة القضاء ووزارة العدل في دفاعها عن امتيازات تقدر انها لازمة لها لمواصلة تحكمها في القضاء.
ولم تنتظر الهيئة طويلا، فخطت بعد يوم واحد من بلاغ الوزارة، خطوة إضافية في اتجاه تكريس نهجها وذلك من خلال فتح الترشيحات أمام القضاة لتقلد منصبي الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بتونس ومدير عام للمعهد الاعلى للقضاء. وبذلك، تجاهلت هيئة القضاء ما صدر بالجريدة الرسمية من أمر تعيين في منصب الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بتونس، فاعتبرته شاغرا، وذلك في تناغم مع موقفها السابق الذي يعتبر ان القرار الذي يصدر من جهة غير مختصة يعتبر معدوما وفتحت بموازاة ذلك جبهة جديدة في الصراع مع السلطة التنفيذية.
بدا جليا ان هيئة القضاء العدلي لم تقبل بالانجرار للرد عن الاتهامات الموجهة اليها في التزام منها بالنأي بصراعها عن العناوين والتجاذبات السياسية، انما سعت مقابل ذلك الى توسيع رقعة الصراع لتضمن في الجولات المقبلة والتي يرجح ان يكون للقضاء الاداري فيها قول الفصل ان تحقق استقلالها التام بمجال اختصاصها في اتجاه انهاء عهد الوصاية على القضاء.
متوفر من خلال: