في 2012، احتلت قضية نقابيي عمال شركة غراي ماكنزي ريتايل ش.م.ل. (صاحبة متاجر “سبينس” في لبنان) حيزا هاما من الخطاب العام. وفيما نجحت الشركة في القضاء على النقابة بعد صرف جميع مؤسسيها الذين أصروا على ممارسة حقهم النقابي، استمرت القضايا القضائية في المحاكم، ومن أبرزها الدعوى الجزائية ضد الشركة ومديرها السابق على خلفية حرمان لبنانيين من ممارسة حقوقهم النقابية، وهي حقوق مضمونة دستورا، كشاهد على انتهاك لحقوق هؤلاء. وقد جاء الحكم الصادر عن القاضية المنفردة الجزائية رلى صفير في 20 كانون الأول 2018 بقبول هذه الدعوى ليعطي زخما جديدا لهذه القضية، وليضع أسئلة كبيرة في وجه وزارة العمل حول مدى التزامها بضمان الحرية النقابية. ما يلي هي كرونيكا بأربعة فصول تسلسل بأسلوب روائي الأحداث التاريخية لهذه القضيّة، ننشر هنا الفصل الثاني منها. وبالإمكان الاطلاع على الفصل الأول والثاني والثالث من هذه الكرونيكا.
نشرت هذه الكرونيكا في العدد 61 من المفكرة القانونية الذي حمل عنوان: “ليس بالوطنية وحدها تحمى العمالة”. العمالة تحمى بمزيد من الحقوق للأجراء، وفي مقدمتها ضمان حريتهم النقابية الدستورية.
الفصل الرابع – عودة البطل هرقل إلى ساحة المعركة
“يجب إبلاغه شخصياً” قال لي كاتب المحكمة عن مايكل رايت.
كنّا قد رفعنا دعوى جزائية ضد كل من الشركة ومايكل رايت شخصياً أمام القاضية المنفردة الجزائية في بيروت، مستندين إلى المادة 329 من قانون العقوبات التي تنص على معاقبة “كل فعل من شأنه أن يعوق اللبناني عن ممارسة حقوقه أو واجباته المدنية”. وقد طلبنا من القاضية إنزال أشد العقوبات بحق الشركة ورايت لمنعهما كل من سمير وميلاد وإيلي من ممارسة حقهم في المطالبة بحقوق اجتماعية وتنظيم عرائض، وحقهم في تأسيس نقابة والإنضمام إليها والعمل فيها، وحقهم في الدفاع عن النفس وتوكيل محام – وكلها حقوق مكرّسة في عدد من المواثيق الدولية التي باتت جزءاً لا يتجزأ من الدستور اللبناني.
بموازاة ذلك، تقدمنا بالوكالة عن مخيبر حبشي بدعوى عمل أمام مجلس العمل التحكيمي في بيروت ضد الشركة لصرفها إياه تعسفياً، لا سيما بسبب نشاطه النقابي. ولدى تبلغنا لوائح وكلاء الشركة الجوابية (أي الحجج والأجوبة القانونية المُبرزة جانب القاضي في الدعوى). وإذ أفاجأ برؤية الرمز الموضوع أسفل الصفحة الأولى من كل اللوائح المذكورة، جهة اليسار، وهو عبارة عن تاريخ وعنوان للمستند المعني مكتوبين بأحرف لاتينية ووفق حجم وخط معيّن، مثل: Prem Conc. Mkhayber Habchi 6 June 2013. وهو رمزٌ ذكرني بالرموز أو الشيفرات الأخرى التي كانت قد لفتت نظري قبل أشهر، على أوراق مختلفة، مثل كتب التنازل عن زيادة الأجور التي كان موظفو الشركة قد وقعوا عليها في أوائل 2012 أو رسائل الإنسحاب من الهيئة التأسيسية المُرسلة من قبل بعض أعضاء الهيئة التأسيسية السابقين. وإن هذا الأمر يشي بشكل فادح وفاضح بمدى إقحام الشركة أو من يمثلها بأمور خاصة بالموظفين وبأعمال خاصة بنقابة العمّال، على نحو يضرب عرض الحائط مبدأ “إستقلالية النقابات العمّالية”. ومن الملفت، أن هذا النمط من الترميز اختفى من لوائح وكلاء الشركة اللاحقة حالما أثرنا هذا الموضوع في لوائحنا أمام المحكمة.
“تبليغه سوف يكون صعباً، كيف بدنا نلقطه؟”
بعد تبادل أوّل للوائح بيننا وبين وكلاء الشركة ومايكل رايت، قررت القاضية المنفردة الجزائية إستجواب هذا الأخير. ولهذا الأجل، يقتضي إبلاغه شخصياً ورقة الدعوة لحضور جلسة الإستجواب، وليس عبر وكيله. بحثنا عنه لإبلاغه، وبحث عنه معنا كاتب المحكمة. لم نستطع الوصول إليه في الأشرفية ولم نستطع الوصول إليه في ضبيّه. وكان كلما وصل كاتب المحكمة إلى مكان تواجده، اختفى مايكل. فهو كان يعلم تماماً أننا نبحث عنه، ويعلم أن القاضية تطلب إستجوابه، ولكنه لا يبالي. فهو صرّح لمجلة Arabian Business الإلكترونية أنه لا ينوي حضور الجلسة شخصياً (أتخيله يقول بلهجته البريطانية “I do not plan to attend the hearing in person”). وفي صباح من آخر أيام شهر أيّار 2013، نجح أخيراً كاتب المحكمة في تبليغ أرواق الدعوى إلى مايكل رايت بعدما إنتظره خارج أحد الأماكن التي كان يفترض أن يتواجد فيها. إلا أنه، يوم الجلسة وتماماً كما صرّح، لم يحضر لا هو ولا الشركة ولا حتى محاميهما. وإذ نفاجأ بالقاضية تعتبر أن مايكل رايت غير مبلّغ على إعتبار أن التبليغ حصل خلافاً للأصول كونه دوّن على ظهر وثيقة التبليغ، بينما دوّن تعذّر إبلاغه المرة الأولى على وجهها. وقضت القاضية بإرجاء جلسة الإستجواب إلى تاريخ لاحق بعد ستة أشهر على أن يعاد إبلاغ خصمنا البريطاني في لعبة “غمّيضة”. هذا مع العلم أن قانون أصول المحاكمات المدنية يخلو من أي نص يفرض تدوين التبليغ على وجه وثيقته أو يعتبر التبليغ المماثل للمذكور هنا مخالفاً للأصول، لا بل أن أعراف قصر العدل تعترف بتبليغات مماثلة ولا تعتبرها مخالفة للأصول إطلاقاً.
في موازاة ذلك، رد مجلس العمل التحكيمي طلبنا في قضية مخيبر حبشي، معتبراً أن صرف هذا الأخير حصل لسبب مقبول يرتبط بتصرفه مع “رب عمله” (أي سبينس) عبر الإساءة إليها عن سوء نية بقصد الإضرار بها عبر المناشير النقابية التي وزعها مخيبر على المارة خلال التظاهرة أمام فرع سبينس في الأشرفية.
جلست وراء مكتبي محبطاً جرّاء كل هذه الخسائر…
“أكثر ما أثّر بي خلال أدائي قَسم اليمين لدخول نقابة المحامين هي فقرة ’أن أحترم القضاء‘” عادت إليّ كلمات نزار وأنا في حالة نفسية ليست الأكثر تفاؤلاً بالقضاء.
“ما بك؟” قال لي نزار وهو يدخل مكتبي،
“إني محبط بسبب كل هذه الخسائر يا نزار…”
“خسرنا معركة يا كريم، ما خسرنا الحرب… بدنا نطعن بتلك الخسائر… لا تستسلم…”
“بعد عندك ثقة أن القضاء سوف ينصف العمّال؟”
“طبعاً! تذكر كل ما أنجزناه بواسطة القضاء يا كريم: ألم ينصف القضاء العمّال خلال الفترة التأسيسية للنقابة، مصدراً قراراً بحمايتهم من الصرف؟ ألم يكن القضاء حليفنا الأول في القضايا المتعلقة بالفئات المهمشة إجتماعياً في لبنان؟ ألم ينصف اللاجئين والمثليين والنساء والمعوقين وأهالي المفقودين خلال الحرب ومستهلكي المخدرات وغيرهم من الفئات المهمشة، وكل ذلك في وجه المنظومة السياسية والتشريعية والدينية وحتى الإقتصادية؟”
“صحيح…”
“هل كان المشرع أو الساسة حلفاء لنا في هذه الحقول على نفس مستوى القضاة؟”
“كلا…”
“إذاً، تذكر كل هذه الأمور للخروج من حالة الإحباط هذه… السلطة القضائية المستقلة هي الضمانة الأساسية في وجه تفكك مفهوم الدولة… لهذا السبب نجاهد يومياً وبإستمرار للدفاع عن إستقلالية القضاء… قد تكون العلاقة مع بعض القضاة صعبة أحياناً، وقد نشعر بالإحباط أحياناً بسبب خسارة هذه القضية أو تلك. لكن العلاقة مع القضاء هي علاقة مبنية بشكل جوهري على أساس النقاش المنطقي، فتتم عقلنة النزاعات والنقاشات والخطب الغوغائية… ولهذا السبب، فهي أكثر العلاقات إثماراً في هذه الدولة…”.
طعنّا بالخسائر – بالرغم من شكوكي إزاء فرص نجاحها. فتقدمنا بطلب نقض أمام محكمة التمييز طعناً بحكم مجلس العمل التحكيمي في قضية مخيبر. كما تقدمنا بطلب نقل في ملف الدعوى الجزائية من أمام القاضية المنفردة الجزائية إلى قاض آخر لوجود أسباب تبرر الإرتياب بحياد المحكمة. وبتاريخ 26 حزيران 2014 وافقت محكمة التمييز على طلبنا هذا وتم نقل ملف الدعوى الجزائية إلى غرفة القاضية رلى صفير.
أُعجبت بإدارة القاضية صفير لإجراءات المحاكمة أمامها. فهي استنفذت معظم الوسائل المتاحة لها في أصول المحاكمات وأصول الوظيفة لتشكيل قناعتها في الملف. وفي حين تخلّف مايكل رايت عن حضور جلسة الإستجواب أمام القاضي الأوّل في هذا الملف، أصدرت القاضية صفير قراراً دعت من خلاله رايت مجدداً إلى جلسة إستجواب، وذلك بواسطة وكيله القانوني – على نحو جنّب وقوعنا في لعبة “غمّيضة” معه مجدداً.
وصلت إلى قصر العدل صباح 21 أيّار 2015 باحثاً عن مكتب القاضية صفير حيث كان مقرراً إجراء إستجواب مايكل رايت. “هل سوف يحضر فعلياً؟” سألت نفسي. وكنت قد تواصلت مع الشباب (سمير وميلاد وإيلي) قبل يومين لتهيئتهم نفسياً على الحضور لمتابعة استجواب رايت. رأيتهم ينتظرونني أمام مكتب القاضية. كانت الساعة 8:30 صباحاً، والمكتب لا يزال مقفلاً (كانت جلسة الإستجواب مقررة عند الساعة 9:00).
“هل رأيتموه؟” سألت سمير،
“بعد ما شفته يا أستاذ كريم” أجابني.
جلست أنتظر وأراجع ورقة الأسئلة التي إتفقنا عليها أنا ونزار متواصلاً مع هذا الأخير وهو يتوجه إلينا. كان مبنى قصر العدل حينها يخضع لأعمال تأهيل وكانت رائحة الغبار تملأ الفضاء حولنا. “أستاذ كريم! هذا هو واقف هناك مع وكلائه”. حضر أخيراً مايكل رايت جلسة الإستجواب التي دامت ساعتين ونصف الساعة تقريباً. حاول مايكل الظهور بمظهر رجل طيب لا يفهم أسباب هذه الدعوى ولا أسباب تحرك أجرائه ولا أسباب رغبتهم في إنشاء نقابة عمّالية لهم. وفي لحظة من لحظات جلسة الإستجواب وفيما كان مايكل يجيب على أسئلة القاضية بلهجته البريطانية الهادئة، خطرت لي فكرة أنّ رايت قد لا يكون يتظاهر، بل قد يكون مقتنعاً بروايته… روايته بأنه رجل طيب يقوم بواجبه وتتم محاربته لقيامه بهذا الواجب. وحقيقة الأمر هي أن الثقافة النيوليبرالية التي هيمنت على السوق اللبناني (وغيره من الأسواق حول العالم) منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، فرضت أدبيات ملتوية على علاقات العمل تجعل من تحقيق الأرباح في المؤسسات الخاصة، الهدف الأسمى الذي يبرر الوصول إليه مخالفة الأسس والضرورات الأخرى (مثل حقوق الموظفين مثلاً). وعلى هذا الأساس قد يبدو إنشاء نقابة عمّالية ليس كتحدّ لإدارة المؤسسة، بل كعقبة أمامها للوصول إلى ذلك “الهدف الأسمى” يقتضي محاربتها وإزالتها. هؤلاء هم خصومنا الحقيقيين في هذه القضية، وعلى رأسهم الثقافة النيوليبرالية تلك التي يجدر بنا تفكيكها لضمان حقوق العمّال.
بعد إستجواب مايكل رايت، استمعت القاضية صفير إلى إفادة كل من سمير وميلاد وإيلي، كما استمعت إلى شهادة رفيقهم مخيبر (الذي لم يكن طرفاً في الدعوى الجزائية)، وذلك على مدى جلسات متعددة دامت كل منها ساعات. كان لافتاً المساحة التي فُتحت أمام النقابيين للإدلاء بروايتهم. فقد جلست القاضية صفير خلف مكتبها ووقف أمامها – على التوالي – كل من سمير، الذي تم الاستماع إلى روايته على مدى ساعة ونصف، وميلاد، الذي تم الاستماع إلى روايته على مدى ساعة، وإيلي، الذي تم الاستماع إلى روايته على مدى 45 دقيقة؛ أما في اليوم التالي فوقف مخيبر للإدلاء بشهادته وقد تم الاستماع إلى روايته على مدى ساعتين. وفي كل هذه الأثناء كانت القاضية صفير تستمع وتدوّن ملاحظاتها أو أسئلتها، وكانت كاتبة المحكمة أو كاتب المحكمة يدونان أقوال النقابيين حرفياً في المحضر. لا شكّ أن جلسات الإستماع إلى النقابيين كانت مرهقة على القاضية وعلى الكتّاب، كما كانت مرهقة لنا أيضاً، ولكن كان لهذه الجلسات أهمية قصوى للنقابيين، حيث استطاعوا للمرة الأولى الإدلاء بروايتهم أمام مرجع رسمي، فلم يستطع أحد تهديدهم لا مباشرة ولا من خلال التلويح بدعاوى قدح وذم. غرفة القاضية صفير كانت مساحة آمنة للكلام، مساحة هامة لتصبح روايتهم جزءاً أساسياً من الوثائق الرسمية.
بعد الإستماع إلى النقابيين، أصدرت القاضية صفير قراراً عيّنت بموجبه خبيراً لإجراء خبرة فنية حول كل ما من شأنه إنارة القضية، لا سيما إزاء وضع الشباب النقابيين داخل الشركة منذ أن بدأوا العمل لديها إلى حين تمّ نقلهم من فرع إلى آخر لمعاقبتهم وإقصائهم عن بعضهم البعض وعن سائر زملائهم، وصولاً إلى صرفهم من الخدمة.
إلا أن إجراءات الخبرة لم تكن على مستوى توقعاتنا وهي حتماً لم تكن على مستوى حجم هذا الملف. ففي حين طال أمد الخبرة سنة تقريباً، وُجدت عدة أسباب في المقابل جعلتنا نشك في مهنية الخبير ونرتاب من مدى حساسيته لقضايا الحريات النقابية. فهو، مثلاً، استبعد أي عنصر من عناصر المفاجأة في أداء مهمته، ذاهباً إلى حد إعلام الشركة مسبقاً بأسماء الأشخاص الذين أراد الإستماع إليهم ما سمح طبعاً للشركة بأن تهيئهم نفسياً لجلسة الإستماع. كما أعلم الشركة مسبقاً أيضاً بشأن المستندات والملفات التي أراد الإطلاع إليها وتفحّصها، ومنها ملفات النقابيين المصروفين منها، ما سمح طبعاً للشركة بإخفاء أو التخلص من أي عنصر فيها قد يحرجها. وهو رفض، فضلاً عن ذلك، بشكل قطعي، البحث في قضية مخيبر وحادثة الإعتداء عليه، معتبراً إياها خارجة عن مهمته، بحجة أن مخيبر ليس طرفاً في الدعوى. وهو أيضاً وأيضاً، تقاعس عن التحرّي عن إشكالية الكتب النموذجية الفادحة المتعلقة بالإستقالات من النقابة بالجملة والإنسحاب من هيئتها التأسيسية مراراً وعن تشابه الرموز الواردة في أسفل هذه الكتب وعلى أوراق الشركة نفسها وحتى على الأوراق الصادرة عن وكلاء الشركة. لكل هذه الأسباب وغيرها وبعد صدور تقرير خبرة تشوبه عيوب ونواقص عديدة وهامة، طلبنا من المحكمة تعيين موعد جلسة للإستماع إلى الخبير حول إنجازه مهمته. وقد ذُهل الحضور نهار جلسة الإستماع تلك بجواب الخبير عندما سألناه إن كان يعرف ما هو موضوع الدعوى التي طلب منه التحقيق فيها، فأجاب بالنفي.
وبعد الإستماع إلى الخبير وبعد إستجواب مايكل رايت، وسماع إفادة الشباب وسماع شهادة الشهود، وبعد سنتين ونصف من بدء الخبرة الفنية، كانت الدعوى الجزائية جاهزة أخيراً لإختتامها، وقد تم تعيين موعد 3 تموز 2018 للمرافعة فيها.
وصلنا إلى المحكمة الساعة الثانية عشر ظهراً في 3 تموز، بحضور النقابيين والناشطين والصحافيين الذين ملأوا قاعة المحكمة. وقفنا أنا ونزار في روب المحاماة الأسود متأهّبَين. “محكمة!” صرخ مرافق القاضية صفير معلناً دخولها القاعة، فوقف الحضور إلى أن قيل له أن يجلس مجدداً. بدأ نزار مرافعته مستهلاً إياها بتسلسل لوقائع القضية، ولا سيما ما قامت به سبينس ومايكل رايت من ترهيب وقمع لموظفيهم لمنعهم من إنشاء نقابة عمّالية لهم. دامت مرافعته ساعة ونصف الساعة رغم الحرّ الشديد لأن المحكمة لم تكن مكيّفة. لم تكن القضية بالنسبة إليه قضية أفراد، بل تعاطى معها منذ البداية كقضية شأن عام بالنظر إلى أبعادها الهامة على صعيد علاقات العمل وتفكيك الثقافة النيوليبرالية التي هيمنت عليها. إختتم نزار مرافعته طالباً من القاضية إصدار حكم نموذجي في هذه القضية، إرساءً لمبدأ حماية الحرية النقابية في لبنان ولإعادة التوازن بين العمّال وأصحاب العمل، والأهم من أجل إلغاء مبدأ تخيير العمّال بين حقوقهم وعملهم. اختتمت المحاكمة وأرجئت للحكم في 20 كانون الأول.
ما أنجزه نزار أيضاً في مرافعته تلك، كان إخراجي من حالة التشكيك في إمكانية التغيير من خلال القضاء التي كنت غارقاً فيها منذ أشهر. خرجت من القاعة فخوراً. كنت فخوراً بإنتمائي إلى فريق العمل هذا، وفخوراً بالنقابيين، وفخوراً بهذه القضية بشكل عام، ومسروراً من القضاء الذي فتح لنا مساحته لإجراء هذا الترافع الأساسي.
إعترضني زميلي جهاد على باب قاعة المحكمة لدى خروجي منها ليبشرني أن محكمة التمييز قد أصدرت في اليوم عينه للمرافعة ومن باب المصادفة حكمها في قضية مخيبر حبشي، تبعاً لتقدمنا طلب النقض. وقد حسمت المحكمة العليا واقعة حصول الصرف تعسفاً وعلى خلفية نشاط مخيبر النقابي، معتبرة أن المناشير “التي جرى توزيعها عرضت مسائل تتعلق بالعلاقة بين [سبينس] وعمّالها وسلطت الضوء على ما يواجه هؤلاء من مشاكل كعدم التصريح عن البعض لدى الضمان الإجتماعي ومعاقبتهم بسبب إنشاء نقابة لهم وفصل بعضهم تعسفياً”، وأنها (أي المناشير) “شكّلت وسيلة سلمية لجأ إليها الأجراء […] للتعبير عن وضعهم الوظيفي والمعيشي وذلك ضمن حدود حرية التعبير والرأي المصانة قانوناً”. وقد أنهت المحكمة قراراها بإلزام سبينس بتسديد تعويض يساوي أجر عشرة أشهر عمل لمخيبر عن صرفه تعسفياً من العمل لديها، فضلاً عن تعويض الإنذار1. وهكذا، يكون قد استأنف البطل هرقل (القاضي) تحرير بروميثيوس (النقابيين) من سلاسله. ولكن عمله البطولي الأعظم كان لا يزال ينتظر بعد خمسة أشهر.
***
إستيقظت في صباح 20 كانون الأول تنتابني حالة من القلق. اليوم يصدر الحكم في الدعوى الجزائية. هل يشكل عيدية قبل إنتهاء السنة أم يحمل سلاسل جديدة يقيّد بها أقدام بروميثيوس؟ ضقت ذرعاً من التنقّل في المنزل ذهاباً وإياباً، فتوجهت باكراً إلى المكتب. كان لا يزال فارغاً، الطقس في الخارج عاصف، شتاء بيروت أتى قاسياً هذه السنة. نزار كان مسافراً خارج البلاد، وكانت زميلتي آية تنهي بعض المراجعات في العدلية. سوف تراجع أيضاً مع كاتبة القاضية صفير لمعرفة ما إذا صدور الحكم في موعده أم لا. توجهت إلى المطبخ وسكبت فنجان قهوة مستمتعاً برائحتها الدافئة في هذا الصباح.
رأت نهى، كاتبة القاضية صفير، زميلتي آية من بعيد. “شو عم بتعملي عنّا هلقد بكير؟”، سألتها، “هل صدر حكم سبينس؟” أجابتها آية بعجلة، وهي على يقين بحالة الترقّب التي أعيشها في المكتب. تريثت نهى في الجواب، ومن ثم إختفت وراء مكتبها في قلم القضاة المنفردين الجزائيين في العدلية وخرجت حاملة كدسة من الأوراق. “شو قولك يا آية؟ ربحتوا أو خسروا؟ قادرة تنتظري بعد قبل ما تعرفي الجواب؟”، قالت لها نهى ممازحة.
عند الساعة 8:31 صباحاً، تصلني رسالة من آية على هاتفي. أتردد مراراً قبل قراءتها، ولكنّي ما ألبث أن أستجمع ما استيقظ في داخلي من شجاعة وأفتحها… “مبروك!”. إتصلت فوراً بآية. لم أصدق الخبر بداية، فقد أصدرت القاضية صفير حكمها بإدانة مايكل رايت وسبينس جزائياً على أساس المادة 329 من قانون العقوبات، وحكمت على الأول بشهر حبس وبغرامة مرتفعة على الشركة، مع إلزامهما بتسديد تعويضات لكل من سمير وميلاد وإيلي بقيمة أربعين مليون ليرة لبنانية لكل واحد منهم مع حفظ حقهم بالتعويضات العمّالية التي يطالبون بها أمام مجلس العمل التحكيمي.
بدأت أقفز وحدي في المكتب باكياً من الفرح. إتصلت بزميلة أخرى لي طالباً منها المجيء باكراً إلى المكتب “بدي حداً ينط (يقفز) معي بالمكتب” من دون أن أفسر لها حتى أسباب فرحتي العارمة تلك. إتصلت بنزار مبشراً، أو بالأحرى صارخاً له الخبر السار عبر الهاتف… عبّر عن فرحه ولكنه لم يفاجأ بالخبر، فكان على ثقة تامة بأنّ الحكم سوف ينصف الشباب. “لأعملّكم أكبر ذبيحة في بشري!” قال لي سمير بعدما بشرته بالخبر عبر الهاتف، وصوته يغص من الفرح والتأثر.
فور تسلمي نسخة من الحكم، تمعّنت بحيثياته. فقرأت: “حيث إن الحرية النقابيّة للعمّال في لبنان هي من الحقوق المكرّسة صراحة في الباب الرابع (المواد 83 حتى 106) من قانون العمل اللبناني منذ صدوره بتاريخ 23/9/1946، والمرسوم رقم 7993 تاريخ 3/4/1952 المتعلق بـ’إنشاء نقابات العمّال‘، فضلاً عن كونها من الحريات التي يمكن استخلاصها من مضمون مقدّمة الدستور اللبناني (الفقرتان “ب” و”ج”) والمادة 13 منه لأنها من الحريات المكرّسة في الاتفاقيات الدولية السارية المفعول في لبنان ولأنها تندرج ضمن إطار حرّية إبداء الرأي وحرية الإجتماع وحرية تأليف الجمعيات، من هنا، فإن الأفعال التي تؤدي إلى تعويق العامل اللبناني عن ممارسة حقوقه النقابيّة، بأي وسيلة من وسائل الإكراه الجسدي أو المعنوي، والتي يعود تقديرها للمحكمة الناظرة بالدعوى، يعاقب مرتكبها سنداً للمادة 329 من قانون العقوبات، وذلك بصرف النظر عمّا إذا جرى صرف العامل المذكور من عمله أم لا، وبصرف النظر عمّا إذا كان صاحب العمل قد أساء أو تجاوز في استعمال حقّه في صرفه …”
نجح هرقل في تحرير بروميثيوس من سلاسله…
وبفعل هذا الحكم، وفق ما قاله نزار لاحقاً، “باتت مخالفات أصحاب العمل عرضة لملاحقة جزائية كلما منعت العمّال من ممارسة حق مدني أساسي […]. ومن هذه الوجهة، يرتدي الحكم أهمية مضاعفة في الزمن الحاضر: ففيما يزيد بفعل الأزمة الإقتصادية اللاتوازن الواقعي بين أصحاب العمل والعمّال، يصبح من الملحّ أكثر أن يتدخل القانون والقضاء لإعادة بعض التوازن لهذه العلاقات.”2
خاتمة
أدى تفشي السياسات النيوليبرالية في ثمانينيّات القرن الماضي واجتياحها الساحة الاقتصادية والسياسية في لبنان في أوائل التسعينيّات من جهة إلى إستحداث جديد لمفهوم الدولة، بحيث تم دفن مفهوم دولة الرفاهية (welfare state) نهائياً وإستبدالها بدولة شاهدة الزور، بل الميسرة والراعية أحياناً لمصالح رأس المال على حساب حتميات الجمهورية؛ وقد تبلور هذا الأمر من جهة أخرى في علاقات الأشخاص بين بعضهم البعض على المستوى الاقتصادي والمدني، ولا سيما علاقات العمل منها. وما شهدته أوائل التسعينيّات من استهداف للحركات العمّالية والنقابية، أدى عملياً إلى إقصاء النقابات المستقلة من الساحة العامة في لبنان واستبدالها بكيانات مفبركة غدت مرهونة للزعامات والسلطات السياسية والإقتصادية على حد سواء – وهو أمر ظهر بشكل فادح أوائل 2012 خلال الصراع حول زيادة الأجور وبدل النقل اليومي، ما دفع شربل نحّاس إلى الإستقالة من منصبه كوزير للعمل آنذاك.
ما فعلته قضية عمّال سبينس أنها شكّلت تحدّياً لهذا النظام القائم ومحاولة لكسر جمود الحركات المطلبية المتعلقة بالحاجات والحقوق الإقتصادية. وعلى هذا النحو تشابهت هذه القضية مع أسطورة بروميثيوس في محاولتها تحدي قواعد اللعبة المفروضة التي تفرضها السلطات السياسية والإقتصادية. ولكنها سرعان ما اصطدمت باللاتوازن البنيوي في موازين القوى بين العمّال وما يمثلونه والشركة وما تمثله، على نحو جعل من عملية التفاوض – التي تبلورت على شكل مواجهة وليس على شكل حوار بين الأطراف – أمراً شبه مستحيل. فعمد تالياً النقابيون إلى محاولة تعديل قاعدة المعادلات (règle d’équivalence)، وقد ترجم هذا الأمر من خلال: أولاً إدخال أشخاص ثالثين إلى المعركة، مثل زبائن الشركة وناشطين وصحافيين وخبراء أمثال شربل نّحاس ومحمد زبيب إلخ.، وثانياً إحتكام إلى القضاء في مرحلة أولى طالبين منه الحماية من الصرف، فظهر القضاء هنا كالبطل هرقل في تحريره لسلاسل بروميثيوس. إلا أن هذه الخطوات لم تكن كافية بحد ذاتها لتعديل قاعدة المعادلات المذكورة على نحو محوري. فتمّ اللجوء إلى القضاء في مرحلة ثانية بصفته الجزائية (الوجه الآخر لهرقل) كخطوة تصعيدية في عملية التفاوض. وفي حين قد تظهر تلك الخطوة كقطع لإجراءات التفاوض وتسليم لمآل النزاع إلى عنصر خارجي (القاضي)، فهي في الوقت عينه تدفع الخصوم المتعنتين (الشركة هنا) إلى طاولة المفاوضات مجدداً3. لا بل أنها تشكل بحد ذاتها عملية تفاوضية على قاعدة المعادلات نفسها، لإعادة بعض التوازن إلى علاقات العمل.
وهكذا تكون بدأت قضية عمّال سبينس عملية تفكيك الثقافة النيوليبرالية التي هيمنت على علاقات العمل وعلى الساحة الإقتصادية والسياسية في لبنان منذ أوائل التسعينيات. ولكن أفول تلك الثقافة لا يزال بعيداً. فهذه الأخيرة لا تزال مرسخة في مختلف أنحاء مساحات المجتمع والدولة – وقد تبيّن هذا الأمر أيضاً عندما تقاعست محطات التلفزيون عن تغطية المؤتمر الصحافي الخاص بصدور الحكم الجزائي في هذه القضية الذي نظمته المفكرة القانونية في 11 كانون الثاني 2019، مبررة ذلك بمخاوفها إزاء سحب سبينس لإعلاناتها عن المحطات. فهذه الحرب لم تنتهِ بعد، وهي لا تزال متشعبة. وفي ما يخصنا هنا، يُشار أن سبينس إستأنفت حكم القاضية صفير المذكور، من دون إدراج أيّ سبب جدّي للإستئناف وكأن الهدف هو مواصلة الحرب على النقابة مهما كانت الوسيلة وحتى آخر نفس ولو من دون جدوى.
وعلى أمل أن يصدق هرقل الإستئناف أعمال سلفه في البداية، أكتفي الآن برؤية سمير جالساً على أحد مقاعد بشري المطلة على وادي قاديشا الخلاب، يبتسم مرتاح البال متأملاً ما أنجزه حتى الآن ومفكراً بمستقبل الحراك العمّالي في لبنان وكيفية تجاوزه للتحديات التي تنتظره… إلى حين تلقّيه إتصالاً مفاجئاً منّي أقول له: “يا سمير! بعدني ناطر هيدي الذبيحة ببشرّي!”
- نشر هذا المقال في العدد | 61 | تموز 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
ليس بالوطنية وحدها تحمى العمالة
1 نزار صاغية، “أبرز الأحكام القضائية في لبنان – 2018“، المفكرة القانونية، العدد 59، نيسان 2019، لبنان.
2 المرجع نفسه.
3 Fr. SOUBIRAN-PAILLET, Du syndicat négocié à la négociation syndicale en entreprises, in Droit négocié, droit imposé ? – Publications des facultés universitaires Saint-Louis, Bruxelles, 1996.