تستقبل بلدة باتر زوار الشوف لناحية جزين، من هناك تمتد كروم الزيتون خضراء من البلدة وصولاً إلى المرج حيث يتمتع أهلها بأملاك كثيرة فيه، فيما يذهب ما يتبقى من نبعها وسواقيها باتجاهه ليلاقي نهر الباروك ويجري معه نحو نقطة التقائه بنهر جزين – بحنين ليشكّلا نهر بسري.
لباتر قصة حزينة مع الزلازل، ومقلقة مع خطر تكرارها المحتمل بسبب السد. بعض الناجين من أهلها خلال زلزال 1956، ما زالوا يتوجسّون من تكرار التجربة التي عاشوها في حينها. يقول هؤلاء أن زلزال ذاك العام أصابها في قلبها القديم، يوم كانت باتر تتمركز كلّها، كومة من البيوت الحجرية والترابية، على تلة بمثابة حرف ينحدر من نيحا التي تعلوها نحو المرج. دمّر زلزال 1956 معظم بيوتها، وقتل ستة من أبنائها، وصارت باتر تتوسّع بعدها باتجاه جزين. بعد سنوات من التوسّع جنوباً، بدأ جيل الثلاثين عاماً الماضية يتوسّع باتجاه الشوف عبر حدود البلدة مع عماطور جارتها في الشوف الأعلى. البلدة القديمة نفسها عاد أهلها وعمروا منازلها التي هدّها الزلزال، ولكن أبناءهم اختاروا التوسّع على الضفتين بعضهم هرباً من احتمال تكرر الزلزال في النقطة عينها، فيما يقول آخرون أنه لا يوجد أراضٍ للجميع بعدما تكاثرت البلدة.
ينتقل إبن باتر الناجي من الزلزال، المربّي المتقاعد كمال كيوان، من ذكرياته عن ليلة زلزال 1956، ليحدثنا عن علاقة بلدته مع مرج بسري، وهو يقود سيارته على طريق ترابية وعرة تصل باتر بسهل المنطقة. يقول كيوان إنّ حيّ بو سن وبعده حي الشَرَفة في باتر هما الأقرب إلى المرج، وأهله ملّاكون ويعتاشون منه حيث يعملون بالزراعة. يملك كيوان أرضاً بعيدة عن ضفة البحيرة المزعومة لناحية الشوف نحو 300 متر، عامرة بالزيتون والليمون والرمان والتفاح وأشجار مثمرة أخرى. ويشير كيوان إلى أنّ 90% من أراضي باتر مزروعة بالزيتون، مؤكدأ أنّه عكس ما يشاع عن إهمال الناس لأراضيها “أصحاب الأراضي في المرج من باتر يزرعون أراضيهم ويستعينون بها لتأمين مصاريف عائلاتهم حتى وإن كان بينهم موظفون أو لديهم مصادر دخل أخرى”. ويذهب أبعد من ذلك للتأكيد أنّ “الأراضي المستثمرة في السهل والمرتبة والتي تشي بعناية متقنة هي لأهالي باتر الذين يحبون الزراعة ويتقنونها”. كيوان نفسه الذي يقضي تقاعده في حقله معظم الوقت، تعلّم وأخوته من عمل أبيه في الزراعة “وأنا علّمت أولادي الأربعة وأعيل عائلتي ليس فقط من مدخولي كمدرّس بل أيضاً من نتاج أرضنا، ولا يحق لأحد القضاء على مداخيل الناس التي تتيح لهم العيش بكرامة”.
يذهب مختار باتر رؤوف محمود درويش أبعد من كيوان في تمجيد علاقة بلدته بالزراعة. يقول إنّ باتر أسست أول تعاونية زراعية في لبنان العام 1966، كونها “زراعية بامتياز، وكان للتعاونية منذ ذلك اليوم ولغاية الآن، دور كبير على صعيد الإنتاج والتسويق”. غير زراعة الخوخ والإجاص والدرّاق والسفرجل والرّمان والعنب والعنّاب، ساهمت التعاونية مع المزارعين بما أسموه “مغامرة” زرع الأفوكا في البلدة منذ ثلاث سنوات. يومها وزّعت التعاونية 2500 شجرة، على 14 مُزارعاً للتجربة، كما استأجرت كتعاونية، أرضاً على عشر سنوات وزرعتها بالأفوكا، وأصبحت اليوم مع بواكير ثمار الأشجار “زراعة واعدة” كما يقول المختار.
يقدّر المختار زيتون باتر بنحو 20 ألف كعب زيتون، مبدياً مخاوفه على هذه الثروة من تداعيات السد، معتبراً أنه من الضروري منع المشروع. ولا ينسى المختار العتب على معارضي السد “كان لازم نتحرك قبل الآن، ومع ذلك وطالما استملكت الدولة الأرض صار بالإمكان إعلان مرج بسري محميّة طبيعية ومنطقة سياحة بيئية وزراعة عضوية”. ويكشف درويش عن مساع لضم باتر إلى محمية أرز الشوف “نحن نعمل باتجاه تعزيز زراعة البلدة وبيئتها وصحة ناسها، بينما يأتي السد ليهددها بالدمار في ما لو تحرك زلزال، وبإنهائها كمنطقة زراعية في ما لو صار السهل بحيرة”. يذكر أن الاستملاك طال 8,8 هكتار من مساحة القرية، وهي عبارة عن 14 عقار، 6 منها مستملكة بالكامل و8 جزئيا. وتبلغ نسبة الاستملاكات في هذه القرية 2% من مجموع المساحة المستملكة في هذا المشروع.
ترقب إزاء مخاطر السد
يقف كيوان على تلّة في حي الشَرفة الذي يشرف على كامل مرج بسري في خراج الضيع الشوفية. يشير بيده نحو تلّة هبطت مع مرور السنين من جبال جزين لتفصل جزءاً من المدى المترامي للسهل عن حدوده الجنوبية، ليقول “سيبنون السد ورا هيدي التلة، وستصل مياه البحيرة إلى هنا في أسفل باتر وعماطور ومزرعة الشوف غامرةً معظم ملكيّات ضيع الشوف ليس في المرج فقط بل أيضاً في خراجات الضيع الواقعة في المنحدرات الفاصلة بينها وبين بسري”. ويقول كيوان إنّ هناك معلومات عن نيّة مجلس الإنماء والإعمار منع أصحاب الأراضي التي تعلو البحيرة وتقع على ضفافها من استخدام أراضيهم أو البناء فيها أو إقامة منتجعات سياحية باعتبارها “مراح” البحيرة، أي حرمها، ليؤكّد أنّ ذلك سيفجر أزمة إجتماعية واقتصادية كبيرة وسيتسبب بخسائر كبيرة لأهل كل المنطقة المحيطة بالمرج. ويفسّر ذلك بأن المجلس يكون قد استملك أراضي هؤلاء المزارعين من دون أن يدفع ثمنها “وهذا استملاك جائر وغير قانوني”.
ويستفيد كيوان من موقع أرضه فوق المرج ليشير إلى أنّ تركيبة الأرض في المنحدرات سواء في جزين أو الشوف رملية ومهدّدة بالإنجراف في ما لو نجح المشروع وتجمّعت المياه. ويعطي مثلاً ما حدث مع جاره في خراج باتر عندما انزلقت أرضه البالغة مساحتها ثلاثة دونمات مجللة مع كعوب الزيتون المعمّر نحو الوادي “هيدا قبل ما ينقعوا المنطقة ببحيرة، فماذا سيحصل بأراضينا وضيعنا بعد السد؟” ويضيف “أرضنا مزياحة ما في شي عم يهدّيها”. ويعتبر أنّ القيّمين على السد لا يريدون أن يعترفوا بطبيعة الأرض الجيولوجية وتكوينها، كما حجم الترسّبات الموجودة في سهل بسري والتي لا تقلّ عن 80 إلى مئة متر عمقاً. “يعني ما رح تجمع مي، وع الحالتين في كارثة بهدر موارد الطبيعة ولقمة عيش أهل الضيع وثرواتها الزراعية”. ويخشى أن يصل الضرر إلى أكبر محميّة في لبنان وهي محميّة أرز الشوف نتيجة الرطوبة التي ستصل إلى نحو 10 ملايين متر مكعب سنوياً.
بانتظار البحيرة…
من جهته، يُعتبر المزارع كمال خطار من أشد المتحمسين في الشوف لسد بسري. يرى الرجل أنه “بعكس ما يقول الآخرون، فإن السد سيجمّل المنطقة وسيكون لدينا بحيرة جميلة”. ويهتم خطار، وفق ما قال لـ”المفكرة”، بأن “تشرب بيروت أيضاً”. يملك خطار مزرعة تُعرَف بـ”المطمور” في منتصف المنحدر عند أطراف باتر نحو مرج بسري. في حال نجاح السد وتجميع المياه ستشرف أرض خطار على بحيرة السد “سيصبح المنظر رائعاً”، وفق ما يتوقع.
وحين نسأله عن خطر خسارة مياه النبع، يجيب: “يسقي نبع باتر نحو 400 فدان، يعني تقريباً 600 دونم من الأراضي الزراعية في البلدة. صيفاً، لا يبقى من النبع ماء ليذهب إلى بسري، ولذا يرى أنّ باتر قد تساهم في تجميع مياه السد عبر سيول الشتاء فقط وليس عبر نبعها”. وحين نسأله عن مخاطر السد على الزراعة، يجيب أنّه لا يرى “مستقبلاً للزراعة في لبنان، نحن عم نعيّش زراعتنا مش هي اللي عم تعيّشنا”، يقول الرجل الذي تعمر مزرعته بدوالي العنب الذهبي، وبالزيتون وأشجار مثمرة أخرى. كما أنه يصنع ماء الورد وماء الزهر وحامض الرمان والعرق ومنتجات زراعية أخرى بمهارة عالية.
وحين نسأله عن مخاطر الزلزال، يجيب “كل لبنان معرّض مش بس بسري”.
- نشر هذا المقال في العدد | 62 | كانون الثاني 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
مرج بسري في قلب الإنتفاضة