“
ننشر الجزء الثالث والأخير من البحث حول قضية النفايات السامة في لبنان التي كُشف عنها في أواخر الثمانينيّات وعادت لتظهر مجدداً في منتصف التسعينيّات. ونتطرق في هذا الجزء إلى تفاصيل معالجة القضاء للملف حتى إقفاله عام 1999.
تحقيقات واستدعاءات ولا متورطين
لم تأخذ القضية حيزاً كبيراً في القضاء بعد اكتشاف البراميل في يحشوش وعيون السيمان عام 1994. اقتصرت حينها على إجراءات روتينية للنيابة العامة وتركّز النقاش على إدخال الملف ضمن قانون العفو بعد نشر القرار الظني للقاضي لبيب زوين. فقد أكد مدعي عام التمييز القاضي منيف عويدات على ما سبق وأوضحته جهات عديدة (كنا قد ذكرناها سابقاً) بأنّ قانون العفو لا يشمل هذا الملف لاسيما أن لا علاقة له بالاقتتال خلال الحرب الأهلية. واعتبر عويدات أن “قانون العفو لا يعتبر سارياً ومعمولاً به في مجال النفايات ولاسيما إذا ثبت حصول واقعات جديدة بعد صدور القانون عام 1988، مما يجعل كل ملف النفايات مفتوحاً أمام التحقيق، كأن الجرائم الحاصلة قبل قانون العفو واقعة اليوم”[1].
بموازاة ذلك، أخذ وزير العدل آنذاك بهيج طبّارة الملف على عاتقه وعقد اجتماعاً مع القاضي عويدات والمدعين العامين الإستئنافيين في بيروت وجبل لبنان والشمال والبقاع وقاضي التحقيق الأول في بيروت للبحث في القضية. وقرر طبّارة توزيع الملف على عدد من المحققين ضمن آلية تسمح بتنسيق العمل بين القضاة، “فلا يعمد مثلاً كل محقق إلى الإستعانة بلجنة خبراء فتأتي نتائج عمل اللجان لاحقاً متضاربة”، حسب تصريح للقاضي عويدات لـ”النهار”[2]. وبناءً عليه، اقترح طبّارة أن يتوّلى قاضي التحقيق الأول في بيروت سعيد ميرزا الملف فوافق مجلس القضاء الأعلى على اقتراحه[3].
استلم القاضي ميرزا الملف وبدأ على الفور استدعاء شهود ومشتبه بهم في القضية. فاستمع إلى النائب عون الذي قدم له كل المعلومات التي بحوزته حول القضية. كما استدعى قيصر نصر لاستجوابه بصفة شاهد في هذه القضية بعد صدور تقرير مخابرات الجيش[4]. واستمع إلى إفادة قائمقام كسروان ريمون حتّي وأحد رجال الأمن بصفة شهود.
من جهته، وكما جرت العادة أيضاً، انتقد القاضي عويدات نشر الإعلام “مقتطفات من تقارير رسمية” تتعلق بقضية النفايات. وأصدر مكتبه بياناً أوضح فيه أنّ “هذه التقارير هي تجميع لمعلومات سابقة من مصادر مختلفة وهي حالياً موضوع تدقيق وتحقيق لدى المحقق العدلي الذي أحيلت إليه هذه التقارير من النيابة العامة، وبالتالي، فإن تناول مضمونها قبل إنتهاء التحقيق والتثبت من صحتها لا يؤدي إلى النتائج المرجوّة، ويبقى الموضوع بعيداً عن المسؤولية التي يعود إلى القضاء وحده بتّها”[5].
وتبعاً لذلك، قرر ميرزا ملاحقة الأشخاص الذين يتوجهون إلى الإعلام للإدلاء بمعلومات حول القضية قبل إعطاء إفاداتهم أمامه. وقال إنّ ذلك يسمّى “جرم إفشاء معلومات” يجب أن تبقى سرية وتعطى أولاً إلى المحقق العدلي قبل أن تتناولها وسائل الإعلام”[6].
كما كلّف ميرزا المحققين الكشف على بعض البراميل، فطلب من وزارة البيئة أخذ عينات من البرميل الموجود في منزل جاك عبدو الحاج في شننعير ويحتوي على بودرة فاتحة اللون من آثار عام 1988. وضُم إلى ملف الدعوى ما كانت “النهار” قد أوردته من معلومات مرفقة بصور أشخاص ماتوا جراء هذه النفايات وآخرين أصيبوا بالسرطان[7]. ونقلت “الوكالة الوطنية للإعلام” عن “مصادر قضائية” أنه “تمّ اكتشاف ستة براميل غير مطمورة في بلدة بتغرين، وأن القاضي ميرزا كلّف خبيراً في معاينتها وأخذ عينات منها وتحليلها وأخذ صور شمسية لها وبيان إذا كانت من نوع البراميل التي أدخلت إلى لبنان عام 1987″، بالإضافة إلى سبعين برميلاً غير مطموراً في أنطلياس[8].
واستدعى ميرزا مجموعة من الأطباء الذين أبدوا رأيهم في هذه القضية أو عالجوا مصابين بسببها[9]. وفي 23 شباط 1995، أصدر ميرزا مذكرات توقيف، إثنتان منها وجاهيتان في حق أنطوان العم وروجيه حداد. والأول متهم بتصريف البراميل بتكليف من أرمان نصار الذي صدرت في حقه المذكرة الثالثة ولكن غيابياً لوجوده في الخارج[10].
بيار ماليشيف بعد الاعتداء (1995) (المصدر: مختبر شهود الزور للأبحاث البيئية والمعلوماتية)
توقيف ماليشيف
لم تأخذ تطورات القضية اهتماماً كبيراً لدى الرأي العام إلى حين صدور قرار عن ميرزا بتوقيف ماليشيف في 28 شباط 1995. فالرجل يعتبر نجم هذه القضية بعدما حوّلها إلى قضيته الخاصة، فحمل كاميرته ووثق أماكن تواجد البراميل والإصابات التي عانى منها من احتكوا بها. كما رفع الصوت في وجه الحكومات التي توّلت إدارة الملف وطرح حلولاً عدّة للخروج من الأزمة. ولكن بدل مساندته، قررت الدولة معاقبته، معتبرةً أنه يشوّه صورة لبنان. وعليه، وبدل محاسبة المتورطين، قررت الدولة ملاحقة ماليشيف.
ادّعت النيابة العامة على ماليشيف وأصدر قاضي التحقيق مذكرة توقيف وجاهية في حقه “بجرم إختلاق أدلة كاذبة وإعطاء شهادة كاذبة وافتراء” بعدما استجوبه للمرة الثانية. ونقلت “النهار” حينها عن “مصادر قضائية” أن توقيف الخبير سببه مخالفته أجزاء من شهادته الأساسية أمام المحقق العدلي وتحريضه شهوداً على الإدعاء أن النفايات تسببت في إصابات ووفيات على رغم أن تقارير لأطباء أكدت خلاف ذلك[11]. كذلك وجه ميرزا كتاباً إلى وزارة الخارجية طلب فيه إبلاغ فؤاد حمدان وجوب الحضور أمامه في 7 آذار لتقديم ما لديه من وثائق تتعلق بملف النفايات والتحقيقات الجارية فيه[12].
أثار توقيف ماليشيف سخط بعض النواب، لاسيما نواب الحزب التقدمي الاشتراكي. فهاجم الوزير حمادة القضاء وطالب ميرزا بالتنحّي، فيما شنّ النائب عون حملة اعتبر فيها أنّ التحقيق مسيّس وغير شفاف. وردّ طبارة على النواب مطالباً بإبعاد السياسة عن القضاء ودعا عون إلى الإدلاء بمعلوماته “أمام المحقق العدلي وليس على صفحات الجرائد”[13].
عندها توّلى جنبلاط شخصياً الرد على طبّارة، مؤكّداً حرصه “على إبعاد السياسة عن القضاء، لكن القضية تسيّست بعد زج ماليشيف في السجن… نحن مع حصانة القضاء، ولكن عندما يصبح البريء متهماً سنفتح النار لتصويب الأمور”[14].
أدّى تحرّك الرأي العام إلى إطلاق ماليشيف في 6 آذار 1995، وربط وزير العدل قرار القاضي بعودة ماليشيف عن إفاداته السابقة. وقال: “عندما يعود الشاهد عن إفادات كاذبة كان أدلى به يُعفى من العقوبة وفقاً للمادة 409 من قانون العقوبات”. واعتبر أنّ على الخبير “واجبات إلتزام الأمانة والدقة وعدم تضليل التحقيق”[15].
وبعد هدوء “عاصفة” ماليشيف، استكمل ميرزا التحقيق فاستمع إلى إفادات مجموعة من الأطباء الذين خلصت تقاريرهم إلى أنّه “لم تقع ضحايا بسبب النفايات”. واستمع ميرزا أيضاً إلى صحافيتين في قسم التحقيقات في “النهار” عمّا تضمّنته تحقيقات نُشرت في الصحيفة في 7 شباط 1995[16]. ثم استدعى عدداً من عناصر “القوات” المنحلّة حينها التي كانت تتولى مهام أمنية ولوجيستية في الحوض الخامس من مرفأ بيروت[17].
القرار الظني الثاني
استمع ميرزا إلى حوالي 128 شاهداً في القضية. وخلص في معلومات نقلتها “النهار” في نيسان 1995 إلى أن البراميل التي وجدت في عيون السيمان ويحشوش عام 1994 لا علاقة لها بنفايات 1988 بل تعود إلى شحنات بدأت تدخل لبنان منذ عام 1973 وقد تحوّلت إلى نفايات سامة بفعل مرور الزمن. وأكد ميرزا أن هذه البراميل (أي براميل 1994) لم تتسبب بوفاة أحد.
واستلم ميرزا تقريراً أرسلته الحكومة الإيطالية إلى وزارة الخارجية بيّن أن البراميل التي أرسلت إلى لبنان عام 1988 كانت تحوي نفايات سامة. فقرر توجيه التحقيق لإحصاء عدد هذه البراميل وتلك التي تمّ ترحيلها لمعرفة ما تبقى منها على الأراضي اللبنانية[18].
أصدر ميرزا قراره الظني في القضية في آذار 1999، وقرر بموجبه وقف التعقّبات “في حق المدعى عليهم أرمان جميل نصار وأنطوان أسد العم وروجيه ميشال حداد وسامي بولس نصار وهنري شكري عبدالله وضومط يوسف كميد وأنطوان ميلاد كميد، لعدم توافر عناصر الجرم الجزائي المدعى به في حق أي منهم، واسترداد مذكرة التوقيف الغيابية الصادرة في حق أرمان نصار في 22-2-1995، وإعادة الملف الذي ضم من دائرة القاضي المنفرد الجزائي في بيروت لمتابعة النظر فيها من النقطة التي توقف عندها، وإحالة الملف على النيابة العام الاستئنافية في بيروت للاطلاع والنظر في أمر الادعاء على الدكتور ميلاد جرجوعي والصيدلي بيار ماليشيف في ضوء ما ورد في التحقيقات في هذه القضية لجهة الإدلاء بشهادة كاذبة والتحريض عليها واختلاق أدلة مادية في قضية ادخال النفايات السامة إلى لبنان، وأحال الملف على النيابة العامة الاستئنافية”[19].
تشكّل قضية النفايات السامة مثالاً صارخاً على القضايا الخطرة التي تتعامل معها الدولة بخفّة وانعدام مسؤولية. فكما تتعامل الحكومة اليوم مع تلوّث نهر الليطاني وأزمة النفايات، تعاملت عام 1995 مع تبعات قضية البراميل السامة. حاولت تجاهلها في البداية إلى أن أصبحت في مواجهة مع الرأي العام. عندها قررت تلقف الموضوع، فأوحت بأنها ستتولى الملف بشكل جدي ولن تقفله قبل الحصول على أجوبة شافية، إن من ناحية مصير البراميل المتبقية في لبنان أم من ناحية إدانة المتورطين ومحاسبتهم. ماطلت حكومة الحريري أكثر من سنة في الملف فشكلت لجاناً واستعانت بخبراء أجانب وعهدت بالملف إلى القضاء. ولكن النتيجة أتت على قدر التوقعات، فدفنت القضية في أدراج الحكومة وصدر قرار ظني عن قاضي التحقيق في بيروت أفضى بتبرئة الجميع. لا معلومات لدينا عن تبعات الملف في القضاء بعد صدور القرار عام 1999، تماماً كما لا معلومات عن مصير هذه البراميل التي تعود قيد التداول فقط عند حاجة فريق سياسي إلى تحقيق مكاسب على حساب الفريق الآخر، كما حصل في أواخر أيار 2018 عندما قرر وزير البيئة آنذاك طارق الخطيب فتح الملف بعد الانتخابات النيابية في ظلّ الصراع السياسي المتأجج بين “التيار الوطني الحر” (الخطيب محسوب عليه) و”القوات”. والأهم: هل ما زالت هذه البراميل مطمورة في الجرود؟ هل نقل بعضها إلى مكب برج حمّود؟ هل تسربت بقاياها إلى التربة والمياه الجوفية؟ لا يملك أحدٌ أجوبة أكيدة، بمن فيهم الخبراء البيئيون الذي واكبوا تطوّر القضية منذ الثمانينيّات. والملف ما زال منذ ذلك الوقت يراوح مكانه.
- لقراءة الجزء الأول والثاني من من البحث حول قضية النفايات السامة في لبنان، اضغطوا على الروابط أدناه:
قضية النفايات السامة في لبنان ـ الجزء الأول (1987 – 1989)
النفايات السامة في لبنان ـ الجزء الثاني (1994-1995): السلطة تتحرك نحو…طمس القضية
[1] الخبراء: البراميل الباقية في لبنان لا تتجاوز الألفين والمياه غير ملوثة، جريدة النهار، 7 شباط 1995.
[2] ملف النفايات مجدداً اليوم أمام مجلس الوزراء، جريدة النهار، 1 شباط 1995.
[3] الباخرة المشعة تتجه نحو المياه اللبنانية!، جريدة النهار، 3 شباط 1995.
[4] قدّم مستشار نصر استقالته من وزارة البيئة خلال تلك الفترة.
[5] المحقق العدلي إستمع إلى عون واستدعى نصر وسطر إستنابات للأجهزة والوزارات، جريدة النهار، 8 شباط 1995.
[6] المحقق العدلي يتابع مسيرة البراميل من الحوض الخامس إلى كسروان وفقرا وعيون السيمان، جريدة النهار، 14 شباط 1995.
[7] ميرزا استمع إلى إفاداة جديدة في قضية النفايات وتنسيق بين القضاء وفريق العمل لتحديد الأماكن، جريدة النهار، 16 شباط 1995.
[8] عون يسأل بري عن ضمان عدم اللفلفة، جريدة النهار، 17 شباط 1995.
[9] ميرزا يستمع إلى أطباء عالجوا المصابين بالنفايات، جريدة النهار، 18 شباط 1995.
[10] لجنة البيئة النيابية تنتظر نتائج التحقيق القضائي، جريدة النهار، 24 شباط 1995.
[11] توقيف الخبير البيئي ماليشيف بتهمة شهادات كاذبة وتحريض شهود، جريدة النهار، 1 آذار 1995.
[12] ميرزا استدعى الخبير جرجوعي وادّعى عليه، جريدة النهار، 2 آذار 1995.
[13] المحقق العدلي يتابع ملف النفايات السامة، جريدة النهار، 8 آذار 1995.
[14] ماليشيف زاره شاكراً ونافياً تغيير أقواله، جريدة النهار، 9 آذار 1995.
[16] المحقق العدلي يتابع ملف النفايات السامة، جريدة النهار، 8 آذار 1995.
[17] ميرزا استوضح ماليشيف تصريحه الأخير، جريدة النهار، 11 آذار 1995.
[18] بهجت جابر، التحقيق العدلي بات في مراحله الأخيرة، جريدة النهار، 20 نيسان 1995.
[19] وقف التعقبات في حق سبعة متهمين بإدخال نفايات سامة الى لبنان، جريدة الحياة، 3 آذار 1999.
“